غريس الياس في “دور السنة في لبنان بعد اتفاق الطائف”: هل استخدام مفهوم المكون السني المهدد يفيد قضيتي لبنان وفلسطين؟

النوع: 

 

تطرح في الأوساط الأكاديمية هذه الأيام قضية فعالية وموضوعية الأبحاث العلمية التي تعتمد منهجيات ومفاهيم دينية وطائفية ذات انعكاسات اجتماعية وسياسية.

فبعض المؤرخين والمحللين يعتبرون أن هذه المنهجيات والمفاهيم هي من ضرورات البحث المعمق، والبعض الآخر يرى أنها تأخذ المقاربات والطروحات الناتجة عنها إلى نفق الانحياز السلبي وفي بعض الأحيان إلى التحريض بين الفئات الاجتماعية المختلفة بدلا من نزع فتيل الفتنة فيما بينها.

لدى استخدام مفهوم غضب “المكون السني” من “المكون الشيعي” في بلد عربي أو شرق أوسطي أو نقمة “المكونات المسلمة” ضد “المكونات المسيحية” أو عكس ذلك، يكون المحلل السياسي قد اختار طريقة  تحليل تفترض، ومن دون دراسات إحصائية في تنظيم الفكرة في معظم الأحيان أن أكثرية أبناء هذا المذهب أو هذه الطائفة تمتلك موقفاً موحداً تجاه مذاهب وطوائف أخرى.

وبالتالي، فالكتب الصادرة في الفترة الأخيرة عن دور السنة و”غضب السنة” في المنطقة على الشيعة أو عكس ذلك قد تندرج في مشاريع سياسية تفرض على منطقتي العالم العربي والشرق الأوسط، ومعظمها مشاريع تقسيمية وفتنوية آتية من الخارج.

أحد الكتب الصادرة مؤخراً بعنوان “دور السنّة في لبنان بعد اتفاق الطائف” فيه بعض مثل التوجّه ولكنه يتضمن أيضاً معلومات مفيدة خصوصاً حول المنظمات الجهادية الإسلامية في لبنان.

مقاربة مؤلفته غريس الياس حاملة الدكتوراه في العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية، تعتبر أن التنظيمات السنّية في لبنان كانت أكبر الخاسرين من خروج المقاومة الفلسطينية المسلحة من البلد عام 1982 ومن “استبدالها بهيمنة التنظيمات الشيعية”. كما تعتبر أن “اتفاق الطائف” الذي وقّع في السعودية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وطبّق (إلى حد ما) منذ بداية تسعينياته “جاء ليعوض من الانحسار في النفوذ السنّي بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وما بعد الأجتياح الإسرائيلي وليعطي سنّة لبنان رصيدا سياسياً قوياً رعته السعودية وكان رمزه الرئيس رفيق الحريري الذي اغتيل في 14 شباط /فبراير عام 2005 وشكل اغتياله ضربة للتوازن القائم وللاستقرار وللصيغة التوافقية التي كانت سائدة في لبنان بعد عام 1990. فقد كان اغتياله أقوى زلزال في عملية التوازن بين السنّة والشيعة.

من الواضح مما ورد أعلاه وما شملته خصوصاً الصفحات (من 122 إلى 130) أن الكاتبة مؤيدة لـ “تيار المستقبل” ولمنهج الحريرية السياسية الذي بدأه الرئيس الراحل رفيق الحريري وأكمله (يكمله) من بعده نجله الرئيس سعد الحريري (رئيس الحكومة اللبناني السابق).

أمّا ما هو لافت في أهمية الكتاب فهو تحليل الكاتبة لعلاقة الجماعة الإسلامية في لبنان (التيار المقرّب من حركة الإخوان المسلمين في المنطقة) بالمملكة العربية السعودية بالمقارنة مع علاقة “تيار المستقبل” بالنظام القائم في الرياض في عهد الحريرية السياسية.

حسب ما تقوله المؤلفة في الصفحة (136) من الكتاب فإن “الجماعة الإسلامية في لبنان لديها علاقة طبيعية مع دار الإفتاء اللبناني المقرب من السعودية ولكنها ليست مرتبطة عضويا بنظام آل سعود برغم أنها تحرص على عدم الاصطدام مع السعودية باعتبارها الراعي الأساسي للسنّة في لبنان مما يعني محاولتها الانسجام معها إقليميا”.

وهذا الواقع، في رأي الياس، أدى إلى بروز منافسة بين الجماعة الإسلامية والسلفيين في لبنان. كما أدّى ذلك إلى انبثاق منظمة “جبهة العمل الإسلامي” عن الجماعة الإسلامية الرئيسية، والتي كانت لديها علاقة حسنة مع حزب الله فيما صوتت الجماعة الإسلامية في الانتخابات النيابية اللبنانية مع تيار المستقبل منذ عام 2012 (ص 140-141).

أما السلفيون الجهاديون فتقسمهم الكاتبة إلى ثلاثة أقسام هي “السلفية التبشيرية” وهي حركة أصلاحية و”السلفية الجهادية” المقاتلة وهي حركة عسكرية وهابية التوجه قاتل بعض أركانها في حرب أفغانستان ضد السوفييت و”حركة التوحيد” التي قادها سعيد شعبان خلال الحرب الأهلية اللبنانية وأرتبطت بمنظمة “القاعدة” بعد عام 1990 (ص148).

لا شك بأن جهود الكاتبة وأبحاثها في هذا المجال أتت مفيدة في فهم وضع الجهاديين في لبنان في المراحل السابقة والحالية خصوصا في ما جري في مدينة طرابلس الشمالية اللبنانية في الماضي والحاضر. وهي تتطرق بالتفصيل إلى أسماء قياديي هذه الحركات الجهادية ومعاركها مع خصومها وخصوصاً معركة “فتح الإسلام” مع الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد في شمال لبنان (عام 2007) ومواجهة حركة أحمد الأسير مع السلطات الأمنية اللبنانية في مدينة صيدا الجنوبية وجوارها لاحقا (عام 2008). وقاد منظمة فتح الإسلام شاكر العبسي المرتبط بأبي مصعب الزرقاوي، فيما ركّز الأسير على استقطاب الجهاديين السنة لمواجهة حزب الله اللبناني وهيمنته على الدولة (ص 152-153).

وتؤكد الكاتبة أن تداعيات الحرب السورية منذ عام 2011 وحتى الساعة كان لها التأثير على تصاعد دور التيارات الجهادية العسكرية المقاتلة في لبنان ومنها “جبهة النصرة” و”تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) (ص 154).

وساهمت هذه التطورات (حسب الياس) في تأسيس هيئة العلماء المسلمين (وهي هيئة منفصلة عن دار الفتوى) بامكانها التحاور مع الحركات الجهادية والسلفية في لبنان المعارضة للنظام السوري وغير التابعة بشكل أساسي للمملكة العربية السعودية.

في الباب الثاني من الكتاب (من الصفحة 163 فصاعداً) تعتمد الكاتبة منهجا في التحليل يرى لبنان وكأنه مجموعة طوائف فقط، وهنا كان من المفترض التطّرق إلى التيارات والحركات غير الطائفية والمذهبية في لبنان بشكل أوسع. ويركز الفصل الثالث من هذا الباب على منهجية سردية منطلقة من المنهجية الحريرية السياسية “تيار المستقبل” في رؤية الأمور. وهنا تعتبر الياس أن اغتيال الرئيس رفيق الحريري مرتبط فقط بعامل خلافه مع نظام الوصاية السورية السابق في لبنان ورئيس الجمهورية السابق أميل لحود دون أن تأخذ في الاعتبار إمكان ضلوع أطراف ثالثة ربما كان لها مصلحة في إزالة الرئيس رفيق الحريري من الوجود وخصوصا لكونه نجح في تأسيس علاقات مع أطراف لبنانية وأقليمية ودولية لم ينجح أي رئيس حكومة لبناني في انشائها، وربما أضر هذا الأمر بالمشاريع التي كانت تخطط لهذه المنطقة ووصلت إلى قمتها في الوضع الراهن في لبنان في الأيام والأشهر الأخيرة. وتشن الكاتبة هجوماً قوياً ضد الوجود السوري في لبنان ما بعد مرحلة “اتفاق الطائف” مع أن الرئيس رفيق الحريري تعامل وتساكن مع هذا الوجود صعودا ونزولا في مراحل مختلفة. وترى الياس أن “الهاجس المسيحي” في لبنان كان وما زال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية في “اتفاق الطائف” وأن المشاكل الحالية هي في محاولات بعض الجهات المسيحية المقربة من رئاسة الجمهورية لاستعادة بعض هذه الصلاحيات. وهنا أيضاً يظهر جانب من المحدودية في التحليل، إذ لا يشمل الكتاب القدر الوافي والكافي من التحليل الاقتصادي السلبي للحريرية السياسية، ولا يشمل أيضاً انتقاداً كافياً للدولة الطائفية اللبنانية وامكان استبدالها بالدولة المدنية لمعالجة مشاكلها. وبالتالي، تعالج الكاتبة الوضع الطائفي للبلد وكأنه واقع باق ومستمر. وهذا أمر حان وقت تجاوزه أكاديمياً وتحليلياً كما فعل كبار محللي الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي اللبناني مؤخرا. وتعتبر الياس أن فشل عمليات الإصلاح السياسي والإداري اللبناني جاء بسبب خلافات الرئيس الراحل الحريري مع السياسيين اللبنانيين الآخرين. وهذا المنهج يعني أن أسباب المشاكل الحالية ربما كانت (في رأيها) نتيجة فقط لخلافات الرئيس سعد الحريري مع السياسيين اللبنانين الآخرين. وهذا تحليل مبسط جداً للأمور. صحيح أن الرئيس رفيق الحريري أعطى منصب رئاسة الحكومة هالة كبيرة بسبب شخصيته القوية، وأوصله إلى موقع لم يصله من قبل كما تقول في (الصفحة 177) ولكن المشكلة الأساسية في البلد لم تكن فقط في خلاف الرئيس الراحل الحريري مع رئيس الجمهورية اميل لحود ورئيس الجمهورية السورية بشار الأسد وارتياح بشار الأسد إلى العلاقة مع الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله أكثر من العلاقة مع الحريري والحريرية السياسية. كما أن المشكلة لم تكن فقط مشكلة الإحباط السني في لبنان بسبب تصاعد دور الشيعة ومحاولات بعض الفئات المسيحية الاستفادة من هذا التطور لاسترجاع مخصصاتهم ونفوذهم. هذه الأمور تشكل ربما جزءاً من القصة ولكن الجزء الأهم مرتبط في مشاريع أكبر من ذلك وفي طليعتها محاولات إسرائيل وأمريكا تصفية القضية الفلسطينية من دون إعطاء الفلسطينيين حقوقهم والاستمرار في الاستغلال الاقتصادي والسياسي الاستعماري للمنطقة والقضاء على الجهات والشخصيات المؤيدة للقضية الفلسطينية. وهذا مشروع وقف الراحل رفيق الحريري ضده بقوة وبفعالية.

إذن، لم يكن الكيان السني وحده المهدد باغتيال الرئيس رفيق الحريري، بل كان الكيان اللبناني برمته مستهدفاً باغتياله وبمحاولات اغتيال لبنان وفلسطين والعراق وسوريا ومصر وليبيا في الماضي والحاضر المتوجب منعها فكراً وعملاً.

الكاتب: 
سمير ناصيف
التاريخ: 
السبت, أغسطس 22, 2020
ملخص: 
وتشن الكاتبة هجوماً قوياً ضد الوجود السوري في لبنان ما بعد مرحلة “اتفاق الطائف” مع أن الرئيس رفيق الحريري تعامل وتساكن مع هذا الوجود صعودا ونزولا في مراحل مختلفة. وترى الياس أن “الهاجس المسيحي” في لبنان كان وما زال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية في “اتفاق ا