في ذكرى الثوابت الإسلامية العشرة (21 أيلول 1983)المسلمون ولبنان
نجح اللبنانيون، وفي أحلك الظروف، وبإرادة وطنية جامعة، وبتصميم قوي على الحياة، نجحوا في إنتاج صيغة فريدة ومميزة حفظت لهم إستقلالهم وعروبتهم، كما نجحوا في تجديد هذه الصيغة عند كل المنعطفات..ولقد كان المسلمون اللبنانيون في أساس هذه الصيغة..
بالأمس وقف الرئيس رياض الصلح في مؤتمر دمشق (1928) وطرح مقولته الشهيرة: "أنا أفضّل أن أعيش في كوخ داخل وطن لبناني من أن أعيش مستعمراً في إمبراطورية عربية"...وبعدها بسنوات وقف الزعيمان كاظم الصلح وعادل عسيران في مؤتمر الساحل (1936) وطرحا مقولة التوفيق "بين الإتصال والإنفصال" أي بين لبنان الوطن الكيان المستقل ولبنان العربي الهوية.. وهذان الموقفان أسسا للميثاق الوطني وإستقلال 1943..
وبالأمس القريب دفع المعلم كمال جنبلاط (16 آذار 1977) والامام موسى الصدر (30 آب 1978) ثمن إيمانهما بلبنان الواحد الموحد وعملهما للمصالحة الوطنية والعيش المشترك والسلم الأهلي..
وبالأمس القريب أيضاً إنعقد "الإجتماع الإسلامي" (18/8/1982) بدعوة من الرئيس صائب سلام وجمع قيادات إسلامية بارزة، وجاء في بيانه الختامي: "لبنان لا يساس بحكم الأرقام (...) ولو شاء المسلمون أن يحتكموا إلى الأرقام ويحكّموا العدد لتبدل وجه لبنان وتبدلت صيغته لئلا نقول هويته".
وبالأمس القريب أيضاً (21 أيلول 1983) وقف المفتي الشهيد حسن خالد والامام محمد مهدي شمس الدين ووقف معهم المرحومون الرئيس تقي الدين الصلح والرئيس صائب سلام والشيخ حليم تقي الدين، والرؤساء حسين الحسيني وسليم الحص وعادل عسيران،والوزير سامي يونس، يذيعون من دار الفتوى بيان الثوابت الإسلامية العشرة الشهير..
كل ذلك أسس لوحدة الموقف الإسلامي التي عبر عنها كل رجالات المسلمين السنة والشيعة والدروز حين شاركوا لاحقاً في إعادة تأسيس الصيغة عبر إتفاق الطائف وبرعاية عربية دولية متوازنة وبمبادرة ودفع من الرئيس رفيق الحريري....
لقد كان الطائف ممكناً في العام 1989 (وليس قبل ذلك) بفعل تحقق شرطين إثنين:
وجود ميزان قوى إقليمي دولي، أي وجود إجماع دولي وقوة دفع باتجاه وقف الحرب في لبنان. ووجود إجماع داخلي على السلم وقوة دفع باتجاه الوحدة..
وعلى ما يظهر، فإن العامل الخارجي كان هو العامل الحاسم في تحقيق ميثاق الطائف، أما الوضع الداخلي فقد تميز بوجود إجماع "شعبي" حول إنهاء الحرب وبناء الدولة، ودون مشروع حقيقي لتجديد الصيغة السياسية... ذلك أن المشروع السياسي يقتضي في ما يقتضيه:
الكتلة الإجتماعية التاريخية صاحبة المشروع.
الطاقم السياسي المناسب للمرحلة وقوانينها.
الإستفادة من ميزان القوى الخارجي.
ومع وجود العامل الخارجي (قوة دفع اقليمية دولية لا شك في جديتها وفي إتجاه دفعها) كان العامل الداخلي هو الغائب أو المغيب.. إن معالجة هذه النقطة كانت تتطلب أولاً قيام سلطة شراكة حقيقية لا غبن وحرمان فيها على حساب أحد، ولا غلبة وتسلط لأحد على أحد، ولا إستقواء لأحد بتوازن إقليمي-دولي ضد غيره...إضافة إلى ضرورة قيام مشروع تنموي إقتصادي، وإلى دفع المبادرة السياسية بإتجاه تحمل المسؤولية وحماية حقوق الناس وحرياتهم..
هذا الأمر كان يعني- في ما يعنيه- تشكيل قوة ضغط، أو بالأحرى قوة دفع داخلية، شعبية، مدنية، وطنية،عابرة للطوائف، تصلح أن تكون سياجاً ودرعاً في وجه تغيرات قوة الدفع الخارجية..
لقد كان اتفاق الطائف عقداً اجتماعياً جديداً أبرمه المسلمون والمسيحيون من أجل العيش معاً في ظل نظام سياسي توافقوا على أساسياته. ويلزم بالتالي إسلاميا ويلزم سياسياً ووطنياً، الوفاء بكل مقتضيات ومستوجبات العهد (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا).. وقد قرر المسلمون في هذا العقد الإعتراف بلبنان وطناً نهائياً لجميع بنيه وأكدوا على ثوابت الوفاق ورفعوا ميثاق العيش المشترك إلى مستوى المرجعية التي تعلو حتى على الدستور (لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك). ومنذ الطائف وانتهاء الحرب وبداية مرحلة السلم الأهلي، ورغم كل الإنتكاسات والعراقيل، حصل تطور كبير في العقل السياسي اللبناني (الإسلامي والمسيحي على السواء) تمثل بفهم جديد متوافق عليه لقضية الكيان..فلم يعد المفهوم (نهائية الكيان) مفهوماً سكونياً (خارج التاريخ: كما كان على أيدي غلاة الفينيقية والفرعونية وغيرها)... وصار الكل (على إختلاف وتنّوع طبعاً) يقر بتاريخية المفهوم أي بضرورة وضعه ضمن أطره المرجعية التاريخية والاجتماعية والثقافية الخاصة. والمتابع لتطور الفكر السياسي الإسلامي اللبناني لا بد وأن يلحظ التقدم الكبير الذي حصل على مستوى الإسلام السياسي في لبنان.. وبالمقابل لم تعد العروبة (وهي كانت الطرف الآخر من معادلة الانقسام الداخلي) تعني نزعة قومية لوحدة قسرية تفرضها دبابات الحزب الواحد والقائد الأوحد وتتحول إلى عصبية عشائرية جهوية مذهبية أين منها الطائفية السياسية اللبنانية..كما أنها لم تعد موجة اسلاموية لغلبة أكثرية..وصار الحديث يدور أكثر حول العروبة الحضارية: روابط اللغة والثقافة والتراث والتاريخ والجغرافيا والجوار والمصالح والعلاقات السوية الطبيعية والمنافع المتبادلة..وصار المثال الأوروبي والمثال الاميركي الفدرالي حاضرين أكثر في فهم ووعي واستشراف مصائر البلدان العربية خصوصا بعد انكشاف وانهيار التهويمات الإيديولوجية القومجية التي كانت تخفي أبشع أشكال التفتت والتجزئة والاستبداد..إن الفهم الجديد للكيانية وللعروبة ولعلاقتهما التاريخية والمصيرية هو في الحقيقة فهم تسووي أي انه ليس "جوهريا".. بل هو حراك اجتماعي سياسي ثقافي ومساع تسووية على غير صعيد..وهذا الفهم التسووي للاجتماع اللبناني يستعيد في الحقيقة حقائق الاجتماع البشري ودروس التجربة اللبنانية وهو مدين أيضا للتطويرات الفذة للإمام شمس الدين كما للوثائق النظرية الصادرة عن المؤتمر الدائم للحوار اللبناني وعن قوى المجتمع المدني منذ عام 1993. ولقد عملنا جميعاً، كل من موقعه،على تأصيل وتعميق هذه المعاني مركزين بالأساس على ضرورة الوعي المسؤول للمسألة الطائفية...ذلك أن تجاوز الطائفية والمذهبية والعشائرية نحو دولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون إنما تكون بصيانة العيش المشترك أولاً، وبمعرفة إدارة الاختلاف بالحوار ثانياً، وبالتسويات الحضارية النبيلة ثالثاً، وبثقافة الانفتاح والوسطية والاعتدال وقيم الديموقراطية والعدالة وحقوق الإنسان في مطلق الأحوال والأمكنة والأزمنة.. وإن التغيير باتجاه الأفضل مرهون بإحلال "الإنسجام" بين الدين والدولة، وبين الحرية والعدالة، وبين حقوق المواطن-الفرد وحقوق الطوائف-الجماعات، وبين استقلال لبنان الكيان النهائي وبين انتمائه العربي...
إن المطلوب اليوم هو إنتاج هذا المشروع الوطني العربي الأنساني عبر توحيد الرؤية والتوجه، ضمن الالتزام الأعمق بالديموقراطية والحرية والعدالة والمساواة والكرامة لجميع اللبنانيين...
إن ثقافة الحرب والاحتراب، وثقافة الفتنة والجهل، وثقافة التكفير والهجرة، قد أكلت وتأكل عقول وقلوب وأذواق الناس في بلادنا... وهي أفقدت مجتمعاتنا روحها السمحة وسويتها المطمئنة. وإن من أولى واجباتنا اليوم إعادة إطلاق طاقات الخير والبركة والحب والتضامن والأمل، وإعادة ترميم ذاكرة العيش المشترك وثقافة الوحدة والتنوع، أي إعادة بناء الشخصية الوطنية والإنسانية السوية للمواطن وللمجتمع.