لا تقلدّوا قانون التسوية!
انتُخب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية نتيجة "تسوية أميركية ـ ناصرية" وقد جرت الإنتخابات النيابية الأولى في العهد الشهابي في حزيران 1960، إستناداً إلى القانون الصادر في 26 نيسان 1960 الذي عُدِّل مراراً وتكراراً (وقد سُمِّي قانون التسوية) ولا يزال معمولاً به حتى الساعة، في حين لم يتمكن المجلس الحالي أو الذي سبقه من تعديله تعديلاً جوهرياً إلاّ بصورة محدودة بعد إتفاق الدوحة بموجب القانون الرقم 25/2008 الصادر في 8/10/2008.
نشير هنا إلى أن قانون 1960 رَفَعَ في حينها عدد النواب إلى 99 بدلاً من 66 واعتمد الدائرة الإنتخابية المتوسطة الحجم، أي القضاء مبدئياً، مع بعض الإستثناءات، كجعل كل من مدينتي طرابلس وصيدا دائرة إنتخابية منفصلة عن قرى القضاء، ودمج قَضاءي بعلبك والهرمل في دائرة إنتخابية واحدة، وكذلك قضاءي راشيا والبقاع الغربي وقَضاءي حاصبيا ومرجعيون، وقسّم بيروت إلى ثلاث دوائر، وأقرّ نظام البطاقة الإنتخابية التي عُلِّق العمل بها في الإنتخابات الأولى التي جرت إستناداً إلى هذا القانون.
وقد أُقِّر القانون بعد مناقشة واسعة في الصحف، فضلاً عن مجلسَيْ النواب والوزراء، وكان أبرز الإقتراحات في حينه مشروع الحزب التقدمي الإشتراكي القاضي برفع عدد النواب إلى 121، واعتماد نظام التمثيل النسبي والأخذ بالدوائر الفردية. وكان الراحل الكبير الدكتور إدمون نعيم قد أيّد هذا الطرح، ثم عاد وطرح إجراء الإنتخابات عام 1959 على قاعدة التمثيل الطائفي وإجرائها على دورتين مع اعتماد التمثيل النسبي. (راجع في هذا الصدد: Ed. Naïm : Points de vue, Beyrouth 1959 P. P. 175) et s. p. 181 et s.
لكنّ ظروف تعديل قانون الإنتخاب عام 2013 (الذي تأخر إقراره 8 سنوات منذ زوال الوصاية عام 2005) ليست مشابهة لظروف التسوية التي حصلت عام 1960، ولا إلى الأحداث التي عرفها لبنان قبل هذا التاريخ. كما أن الديموغرافيا في تلك المرحلة ليست كما هي اليوم، وأن المناصفة لم تكن قد أُقِرَّت بعد بصورة صريحة في الدستور، كما حصل بموجب التعديلات الدستورية عام 1990 على رغم أن التطبيق الفعلي لدستور "الطائف" لم يكن بحجم طموحات اللبنانيين.
بينما في ظل ظروف تسوية 1960 لم تكن الدولة في حينها مشتّتة، ولم يكن السلاح منتشراً في أيدي قوى غير شرعية، بل كان الجيش اللبناني يملك حق إستعمال السلاح حصرياً، وكان الإنقسام في البلاد على الموقعين الإقليمي والدولي الواجب على الدولة اللبنانية أن تضع نفسها فيهما، لم يُترجم بعد إلى انقسام طائفي كالذي نشهده اليوم.
حالياً تتعدد إرتباطات القوى الداخلية مع الخارج، مع فارق بسيط أنّ عدداً من هذه القوى يملك سلاحاً غير شرعي، لكن الأهم أنه في ستينيات القرن المنصرم لم يكن المسيحيون يعيشون تقهقراً في دورهم وتراجعاً في ممارسة الحكم من جرّاء ضعف قدرتهم على إيصال نوابهم إلى الندوة النيابية، وضعف وجودهم في الإدارة العامة وهجرة غالبيتهم إلى الخارج، ولم يكن قد تمّ التلاعب بعد بالديموغرافيا اللبنانية من خلال مراسيم التجنيس، إضافة إلى عدد من الأزمات التي يعيشها المسيحيّون اليوم!
أمّا ما يُحكى من هنا وهناك عن احتمال الإتفاق على تسوية معينة لإقرار قانون إنتخاب يحظى بشبه إجماع القوى السياسية، فإنّ المعيار في الحقيقة يبقى لصحة التمثيل والتوازن الحقيقي، مع ضرورة العمل على وجوب إقرار قانون يحقّق أكبر مقدار من الإجماع.
وبدلاً من أن يتمسك البعض بالمشروع الذي يريده لأنه يحقق مصالحه (ولو على حساب كل جهد بُذل لإعادة التوازن وإزالة الخلل عبر قانون إنتخاب لا يعزل الطوائف عن بعضها) لأنّ هدفه ينحصر في الوصول إلى السلطة بعد هذه الإنتخابات وليس إزالة الغبن اللاحق بالمسيحيين.
ولئلا "يتمخَّض الجبل فيلد فأراً" لا تجعلوا من التسوية غير المطلوبة أصلاً، ضربة لصحة التمثيل وإمعاناً في إلحاق الغبن بالمسيحيين على قاعدة إما "قوانين جائرة أو قوانين محض طائفية"، لأن ما بين هذه وتلك توجد صيَغ عدة تؤمّن صحة التمثيل المنصوص عنها في إتفاق الطائف وتقرّبنا أكثر من إلغاء الطائفية بدلاً من ترسيخها في النصوص والنفوس.