محور: مسؤولية النخب اللبنانية في التحضير للحرب الأهلية:لا يـمـكــن جــمــع النُّـخــب في إدانـــــة واحـــــدة

النوع: 

 

في سياق ما نشهده، ثمة افتراض معلن لا مضمر، يشير إلى أننا نعيش طور التحضير لما هو محتمل الوقوع، في حال استمر هذا التحشيد المذهبي والطائفي من خلال خطاب سياسي وصل إلى درك أضحى فيه تخوين الآخر واتهامه بالعمالة، يبدو كما لو أنه جزء من مكونات مشروع استراتيجي، وليس من باب التكتيك لرفع سقف المطالب السياسية، عبر الضغط في هذا للحصول على ثمن مقابل التخلي عن ذاك.

ولأن خطورة المشهد هذا تفتح المجال امام احتمالات شتى، ولأن في السياسة لا يظن أحد أنه على ضلال، فالمسألة معقدة اذاً، ما دامت لكلٍ أسبابه التي تسوغ اعتقاده بما لا يتفق ومصلحة الفريق الآخر؛ أضف إلى ذلك أن علة التحزب في مجتمعنا ليست مبنية على أساس مشروع أو برنامج سياسي محدد وواضح المعالم، انما هي قائمة على تهجينات محلية، يتواشج فيها المذهبي بالعائلي، الديني بالسياسي، الريفي بالمديني، الشخصي بالعام على نحو لا يمكن معه الارتكان الى ما تفسره معاني القواميس الجاهزة بكونه من مكونات المجتمع المدني، فالتحزب عندنا له ظروف محلية وحيثيات اجتماعية تجعله لا يتطابق مع ما يتحزب به… وإليه… الفرنسي مثلا الذي يعيش بدوره ظروفاً مجتمعية مغايرة من حيث الدوافع والاحتياجات، بما يجعل من خصوصية كل مجتمع سببا لتحزب فئة لما تتحزب له فئة أخرى حتى للحزب نفسه.

ما هو دور النخب في الحراك السياسي الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات؟ الاجابة على هذا السؤال ضروري، قبل الشروع في تعيين مسؤولية النخبة اللبنانية في التحضير لما يبدو أننا منزلقون في اتجاهه على قدم وساق؛ لا سيما أن السؤال هذا قد شكل محور نقاش تاريخي محتدم بين المفكرين وأصحاب الرأي الذين أجمعوا رغم اختلاف مشاربهم الفكرية و تنوع ثقافاتهم على أن العلاقة بين الخاصة والعامة، أو بالأحرى النخبة من جهة والسواد الأعظم من الناس من جهة ثانية، على أن تلك العلاقة هي التي تحدد مستوى تطور المجتمع، أياً كانت هويته شرقية أم غربية، اسلامية أم مسيحية، حتى أنهم رجحوا الرأي القائل بأن حساسية العلاقة بين كل جديد تقترحه النخبة من ناحية، وكل ما يرتكن اليه عموم الناس من موروثات مطعمة بواقع الأحوال السائدة من ناحية ثانية، قد شكلت مفتاحاً، إما للتغيير والتطور، وإما للإنغلاق والتزمت. وفي هذا السياق، لا يمكن أبداً أن نتجاهل التأثير البنيوي للظروف الاقتصادية أو الأحوال المعيشية على البنى الفوقية للبشر؛ أي على القيم والمعتقدات كما الانتماءات الحزبية المتأثرة بـ… بقدر ما هي مؤثرة في….، بما يجعل من جدل العلاقة القائمة بين الموجود في الرؤوس و الموجود في الواقع على الأرض، أن تحدد هي علة الانتماء وسبب الانجراف ومستوى الاعتقاد ودرجة التزمت الخ…

ولأن التأثير في واقع الحال لا يقتصر أبداً على سبب جامع و قاطع، نجد ان هذا يسري على تشكيلات مجتمعنا اللبناني المتميز بفرادة تشكيلاته المذهبية والطائفية عن المجتمعات العربية الأخرى.

أولاً: من هم النخبة؟ وهل إن تأثير النخبة عندنا يتماثل مع الدور ذاته ويتطابق مع الموقع نفسه للنخبة في مجتمع آخر كالمجتمع الأوروبي مثلاً؟

قبل الدخول في تعريف من هي هذه الفئة التي تسمى النخبة، ولكي ندخل في مقاربة صحيحة للاستدلال عما يعطي هذه التسمية عندنا معنى مغايراً ووظيفة مختلفة عن المعنى والوظيفة نفسها للنخبة في المجتمع الأوروبي، بما يساعدنا على أن نصل بنتيجة هذا التعريف الى الاجابة المتوخاة من طرح السؤال الثاني، وبغض النظر عن الالتزام الصارم بمعنى التسميات، لأنها مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالحاجة لإعطائها معنى يتلاءم مع ما نريده منها، أي مع حاجتنا لأن يكون للكلمة المستعملة وظيفة ذات مردود نفعي.

لا تعني النخبة هنا الفئة البارزة من الوسط الذي تعمل فيه، ولا نقصد بها المجموعة التي تصدرت قيادة ميدان من الميادين، كيفما اتفق، وذلك منعا للخلط بين ما يقدمه المجتمع الاهلي من نخب تهادن الوعي السائد لتتسيد عليه، وما يتصدر المجتمع المدني باحزابه وهيئاته وجمعياته من نخب يتماهى وعيها وسلوكها مع غاية التجديد والتغيير، سيما ان التباسا يحيط بمفهوم النخبة ليغدو فضفاضا ما لم يتحدد معناه الوظيفي المستمد من الدور الذي تلعبه النخب، اذ ان طبيعة المناخ السياسي والاجتماعي الذي يحيط بالنخبة، يصطفي من بين الجموع قيادات ملائمة لظروف مجتمعها، وهنا اما ان تعمل النخبة على تعزيز واقع الحال، عبر مهادنة الاحوال السائدة، واما ان تخون الحس العام للناس، فتعاكسه في سعيها الى تجديد او تغيير يحتاج الى جرأة واقدام لكي يتطور المجتمع.

وعلى أية حال من هم النخب في مجتمعنا اللبناني؟ وكيف ينتخبون لكي يلعبوا دورا قياديا بارزا في ادارة الشأن العام؟

وهنا، لا بد من التوقف عند مستويات متنوعة ومختلفة للنخبة، وذلك بنتيجة تنوع أو تفرع مواقع التأثير في الحياة العامة، بعدما كانت تقتصر في مطلع القرن المنصرم على تحالف النخب السياسية المتمثلة برجال الاقطاع مع النخب الدينية المتمثلة برجال الدين، فالتحالف ذاك كان شديد التأثير في تحكمه بصيرورة المجتمع اللبناني وسيرورته في اتجاه اصطدم لاحقا مع توجهات النخب الصاعدة والمتمثلة آنذاك بجيش من المتعلمين المتأثرين بالمشاريع النهضوية لمجتمع يؤمّن المساواة والعدالة الكاملة بين المواطنين كافة، وبالافكار الثورية الحالمة بعالم خالٍ من الأزمات بالمطلق.

ففي خضم هذا الحراك الاجتماعي اندفعت النخب المتعلمة، انطلاقا من إيمانها بيوتوبيا لا يمكن أن تترجم عبر سياسة عقلانية الى المغامرة بمصير الوطن، عندما انخرط عديدها في احزاب يسارية وعلمانية، لم تعترف بحدود الانتماء الى دولة، أرادوها مشرعة الأبواب لمواجهة دائمة هي جزء من المواجهة الأكبر بين مشروعين، لا جغرافيا لحدودهما الواسعة وسع أحلامهم باجتثاث الشر من فيتنام وافغانستان لارتباطه باحتلال فلسطين والاجحاف في لبنان.

من جراء ذلك، كان أن دخل لبنان في آتون حرب أهلية إستمرت لعقود بسبب اقتناع رومانسي راسخ كانت عند فئة من النهضويين الصادقين في انجرافهم بهدي احلام ليست واقعية ابداً، مثلما كانت غير منطقية بالمطلق احلام الفئة المقابلة تلك المتمثلة آنذاك بالأطراف المسيحية التي بالغت الى حد المغامرة المتهورة في رفضها لهوية عربية ضرورية كانت لحماية لبنان من أن تبقى حدوده وحدها مشرعة في المواجهة العربية – الاسرائيلية. فكان أن دفع اللبنانيون ثمناً باهظاً نتيجة تأرجح الانتماء القومي للنظام اللبناني الذي حمل بذاته بذور الانقسام ومن ثم التناحر الأهلي الذي نجم عن التذبذب في حسم هويته العربية التي كانت متمثلة بتبني القضية الفلسطينية كقضية مركزية.

من هنا، اندلعت شرارة الحرب الأهلية بنتيجة الانقسام بين مشروع دولة الكيان اللبناني ذات الوجه العربي، من جهة ومشروع القومية العربية ذات الوجه اللبناني من جهة ثانية، وفي خضم الحرب المشؤومة وما تلاها، حصلت متغيرات كثيرة ان على مستوى تحول الكتلة النقدية وتمركزها بين أيدي فئات اجتماعية جديدة وصاعدة، مستفيدة من التحول في الاقتصاد العالمي الذي تهمشت بمؤداه الفئات الاقطاعية لمصلحة قوى صناعية ناهضة بقوة الحاجة الى ضخ منتوجات جديدة في أقتصاد السوق، زد على ذلك، تداعيات الحرب الأهلية على فئات واسعة من اللبنانيين الذين هاجروا وطنهم طلبا للقمة العيش، وان لجهة الاستئثار الميلشيوي لبعض الأطراف الحزبية بمقدرات السلطة المحلية، فكان ان غير كل ذلك من خريطة التوزيع الطبقي للبنانيين بشكل دراماتيكي، فبرزت في ضوء ذلك نخبة اقتصادية مالية حديثة، سيطرت بعد انكفاء لغة الرصاص وتراجع الاعتقادات الرومانسية لمصلحة طبقة متجددة بحلة ليبرالية، تجاوزت نطاق الدولة المحلية عبر استغلالها للوسائط والوسائل التكنولوجية من أجل تجميع الثروة من سوق العولمة، إذ لم تقتصر التحولات في لبنان على نشوء طبقة اقتصادية جديدة بين فئات الشعب اللبناني، فالحرب اللبنانية كان لها سياق من التبدلات، بدأت دفاعا عن القضية الفلسطينية عند فريق تخندق ضد طرف آخر يدافع عن الكيان اللبناني في الخندق المقابل، ومن ثم تحولت إلى حرب مذهبية وطائفية، قبل أن تنقسم الطوائف على نفسها لتتآكل من جراء التناحر الدموي بين أبناء الطائفة ذاتها، هذا من دون أن نستبعد الأثر التدميري الفعال للاحتلال الاسرائيلي في اجتياحه المتكرر للأراضي اللبنانية.

و بخلاصة كل هذا استفاد النظام السوري من كل هذه الاوضاع لتحقيق مأربه وأهدافه، ولعب الجيش السوري دوراً رئيسياً في ايقاف الحرب في لبنان، فاستمد شرعية أخلاقية “مريبة” باعتباره أخرج هذا الوطن من حروبه، لتبدأ رحلة رعايته وتأهيله عبر الوصاية على ما يجب أن يكونه في السياسة الداخلية و الخارجية على حدٍ سواء.

فالريبة التي احاطت المشروعية الاخلاقية للوصاية السورية متأتية من ما آل اليه اداء النظام السوري المخابراتي، فافتضح امره وتكشفت نواياه المبيتة في السيطرة على لبنان والاستئثار بمقدراته، خاصة انه كان لاعبا رئيسيا في تغذية التقاتل الاهلي بين افرقاء الوطن الواحد، وذلك لكي يحتكم اليه في فض النزاعات وحل الصراعات كقاض لا غنى عنه ما دمنا قاصرين عن العيش من دون اللجوء اليه.

إن النخبة اللبنانية نمت في ظل انقسام واقتتال داخلي، واستمرت كذلك تنمو تحت جناح الرعاية السورية لكل المقدرات السياسية والإقتصادية وحتى الاجتماعية، إلى أن وقع الزلزال غير المتوقع المتمثل باستشهاد الرئيس رفيق الحريري وما اعقبه من خروج للجيش السوري. وإذا ما صح القول إن لبنان قام طوال فترة الوصاية السورية على دعامتي الاقتصاد الملقاة على كاهل رفيق الحريري ومشروعه الاعماري من جهة، والسياسة التي تكفل بإدارتها النظام السوري، يغدو من الطبيعي أن نعيش في ضياع ما بعد تقويض الدعامتين دفعة واحدة، من دون بدائل تكبح الإنزلاق إلى ما لا تحمد عقباه.

إن اختلاف النخب اللبنانية مرده ليس التنوع في التكوينات الطائفية والمذهبية للشعب اللبناني، فحسب، فالنخب الطائفية تعبر عن هوى الطائفة ومصالحها الضيقة بما يجعل من التنوع والتلون في تشكيلات المجتمع اللبناني هذا موطن ضعف، وليس مكمن قوة، إذ يستحيل التعايش في وطن أرجأ البت في هويته بين طوائف تبحث عن توازن سيختل حتماً كلما سنحت الفرصة لطائفة للاستقواء بالخارج للهيمنة على الطوائف الأخرى في الداخل، فالتجربة اللبنانية أثبتت بما لا يدعو إلى الشك، بأنه يستحيل للطوائف أن تبقى كيانات مستقلة في داخل دولة عصرية و قوية، فالكيان الطائفي يقوى كلما ضعفت الدولة، و يتصلب عود الدولة المركزية بذوبان العصبية الطائفية.

إن قابلية لبنان الدائمة لاعادة تكرار الحرب تعود، لا إلى رغبة ذاتية أو هوى شخصي، بل إلى علة بنيوية مرتبطة بطبيعته الطائفية والمذهبية التي تتناقض مع مبدأ بناء دولة عصرية ومواطنية حقة لكل أبناء الوطن الواحد؛ وعليه، ثمة نخب سياسية تدرك بأن زعامتها مستمدة من قوة الطوائف، لذلك تأبى تلك الزعامات ان تتخلى عن علة وجودها، فتعمل على تعزيز الطائفية لأنها تبقى ببقائها وتزول بزوالها.

وعليه، قد لا تسعى النخب الطائفية الى الحروب، لكنها حتماً ذاهبة في اتجاه ما تؤول اليه الحرب بنتيجة سلوكها السياسي الداعم لسبل تحسين أوضاع الطائفة لا الوطن، وإن استدعى ذلك استجداء مساعدة مباشرة من الخارج لكي تتغلب طائفة على طائفة أخرى، فالمشكلة إذا في لبنان بنيوية، ولا تتعلق بإرادة فريق و لا بنوايا طائفة، ما دامت التركيبة الطائفية والمذهبية القائمة تؤدي بطبيعة الحال الى جر الطوائف نحو سلوك تبغضه وترتكبه في الوقت نفسه، فالتعصب مثلاً مكروه لدى جميع ابناء الطوائف المتعصبة ضد بعضها البعض، وهذه واحدة من المفارقات الكثيرة لدى بلد الطوائف.

وعليه فالنخب السياسية في لبنان الطوائف، متنوعة على اختلاف مشاربها الثقافية والدينية وارتباطها باتجاهات إيديولوجية بعيدة عن مقتضيات بناء هوية واحدة لوطن واحد، وهي أيضاً مختلفة ومنقسمة بين مشروعين: واحد يبغي المواجهة الدائمة لما هو أكبر من أن يحتمله وطن صغير كلبنان، انخرطت في هذا المشروع فئات و تيارات عدة، فئة تعتقد هي بأنها تلبي نداء دينها في الانخراط بمشروع مناهض للغرب الكافر، و فئة ثانية لم تهجر ذهنية الانتماء الى مرحلة الستينات من القرن الماضي بالانتماء الى القومية العربية التي ورثها في نظرهم النظام السوري كنظام ممانعة في وجه الامبريالية الأميركية، وعلينا هنا الا ننسى بقايا الاحزاب اليسارية التي تعتاش اليوم في السياسة على فتات أدبياتها الماضية فيشدها الحنين الى ما كانت عليه، من دون أن تبحث عما يجب أن تستفيد منه بعد تجربة اخفاقها.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية ثمة مشروع آخر، لا يريد توريط وطنه في حروب لا فائدة منها ولا قدرة له على تحملها بعد ما أنهكته حروب الآخرين على أرضه، وهذا المشروع يرمي الى بناء دولة لا تُحمى في مواجهة المجتمع الدولي، لا بل لا ملاذ لحمايتها سوى القرارات الصادرة عن محافل المجتمع الدولي نفسه، وهذا المشروع يتشكل من مزيج متنوع في الألوان السياسية، وإن كان يرتكن على كتلة سنية، استفزها اغتيال زعيمها التاريخي رفيق الحريري، واستنفرها ارتكان المشروع المقابل على الطائفة الشيعية التي تبدو كما لو أنها تريد الاستئثار بمقدرات الوطن.

إن النخب الاقتصادية، لا مصلحة لها في اندلاع الحرب ولا اقتناع لديها بمنطق الحروب، لا بل هي تعمل لكي تنزع فتيل الأزمة بكل ما أوتي لها من قوة، حتى ولو اقتضى منها هذا تنازلاً، وهي ستغلب توقها الى السلم الأهلي على الحرب التي يبغضها الاقتصاد بذاته، فالاستثمار لا يمكن ان يوظف أرصدته في أماكن غير آمنة، من هنا نجد أن النخب السياسية لقوى 14 آذار تجهد ليل نهار لئلا تطيح الحرب المشؤومة بطبيعتها تلك الملوح بها، بالانجازات التنموية لمشروع رفيق الحريري الذي بدا في السابق كما لو انه غير مهتم إلا بإنماء البنى التحتية، لكنه ما لبث أن اصطدم بالمستوى السياسي للوصاية السورية، ذلك أن المشروع التنموي والاقتصادي هو خيار من خيارات المواجهة السياسية الجدية للإرتقاء بالدولة والمجتمع الى مستوى أفضل.

فثمة وجهتا نظر في السياسة، واحدة تدعو الى المواجهة من دون حسبان الربح والخسارة، ذودا عن الشرف والكرامة والشهامة من ناحية، وثانية تدعو الى التنمية المحلية عبر حياد ايجابي وبراغماتي، وذلك لمقاومة اطماع الدول الكبيرة في بلد صغير بحجمه وامكاناته تلك الاضعف من ان تتصدى لاطماع او طموحات الدول المحيطة به، عبر مواجهة عسكرية متكافئة وندية. وفي هذا السياق، يغدو الدفاع عن لبنان، بألا نقحم انفسنا طرفا في معركة لا ناقة لنا فيها ولا جمل، ولا قدرة لنا حتى على تعيين خواتيمها، ان ابقينا بلدنا ساحة مستباحة لتصفية حسابات الآخرين على ارضه، اذ ان تنمية القدرات البشرية المحلية، لهي السبيل الانجح في حماية وطننا من ان تطيح به اللعبة السياسية للكبار.

وهذا ما أدركه النظام السوري الذي أراد الاستئثار بكل المقدرات السياسية و الاقتصادية للبنان. وفي هذا السياق، يمكننا مقاربة العلة عند النخب بالقول إنها ليست متجانسة أبداً لا بتكويناتها ولا بمصالحها، فنخب المجتمع المديني تحرص حرصاً مفرطاً على الحفاظ على الاستقرار الأمني والسياسي، لما يمكن أن يلحق بها وبالوطن من ضرر في حال وقعت الحرب، بينما الحال ليست كذلك في أوساط المجتمع الريفي بتجلياته الحزبية الواضحة في عدم اهتمامها بما يمكن أن يلحق على الأرض من أذى بالمؤسسات التي ينتفع منها لعدم إدراكه بمردود الضرر الناجم عن فوضى الحرب.

ولربما كانت نخب المجتمع المدني (المتمثلة تحديدا بعناوين سياسية لتحالف قوى 14 اذار) أكثر مسؤولية في التعامل مع دقة الظرف السياسي، لأنها تملك ثقافة ومؤهلات بالإضافة الى ما اختبرته منذ أمد قريب من ويلات الحروب، فكل هذا يجعلها بحل مما ينتشر في أوساط نخب المجتمع الأهلي الغارق حتى النخاع بموروثات تربية طائفية وقبلية متعصبة لا تدرك أهمية المقاصد التنموية لمشاريع ومؤسسات المجتمع المدني.

على كل حال، لا يمكن الموافقة أبداً على توحيد النخب باتهامها هنا… أو بإعفائها هناك… ما دامت غير موحدة ومنقسمة بين مشروعين حادين في خيارتهما؛فالاختلاف على هوية لبنان (الدور والوظيفة والانتماء) لا يمكن معه القول إن النخب السياسية التي تناضل من أجل بناء لبنان سيداً حراً ومستقلاً يمكن جمعها مع النخب التي لا تؤمن بلبنان إلا من ضمن مشروع اقليمي لمواجهة الغرب والامبريالية الأميركية. فالمشروع هذا يرتبط ارتباطاً عضوياً بتحالفات خارجية يجاهر بها اصحابه علناً، لذلك حتى وإن كانت نخبته لا ترغب بالحرب الا أنّ تعبئة قواعده على التعصب ولغة التخوين ضد الطرف الآخر، لا يؤدي إلاّ الى حرب مشؤومة؛ و بالرغم من ذلك يمكن القول إن معظم النخب السياسية عامة تجنح الى السلم و الهدوء، إلا أنّ جلها لا يدرك بأن الخطابات النارية والتصعيد الكلامي أو التحريض على الآخر تجعل جميع المواطنين يجلسون على برميل من البارود.

ويبقى السؤال هنا معلقا، هل ان رغبة القوى الحزبية، كتلك المتورطة بعلاقة عضوية مع الخارج، لناحية انتمائها العقائدي وتمويلها النقدي، قادرة على ان تتبع ما تمليه عليها قناعتها الذاتية في السياسة، ام انه لا خيار امامها، الا الانصياع لأوامر الخارج واعتباراته التي قد لا تتفق ابدا مع مصلحة بناء الوطن وحمايته من خطر الخارج نفسه؟!

 

الكاتب: 
حسن منيمنة
المصدر: 
التاريخ: 
الأحد, ديسمبر 8, 2013
ملخص: 
إن قابلية لبنان الدائمة لاعادة تكرار الحرب تعود، لا إلى رغبة ذاتية أو هوى شخصي، بل إلى علة بنيوية مرتبطة بطبيعته الطائفية والمذهبية التي تتناقض مع مبدأ بناء دولة عصرية ومواطنية حقة لكل أبناء الوطن الواحد؛ وعليه، ثمة نخب سياسية تدرك بأن زعامتها مستمدة من ق