"اتفاق الدوحة" إختراق كبير.. لكن المعضلات الأساسية تبقى قائمة
نجحت دولة قطر الصغيرة حيث عجزت الدول الكبيرة في الشرق الأوسط وخارجه، فولد في عاصمتها الدوحة الإتفاق اللبناني - اللبناني وتنفّس سكان بلاد الأرز والعرب بعض الصعداء.
الكثير سيقال عن هذا الإنجاز القطري المفاجيء. سيقال، مثلاً، إن الدوحة لم تكن لتحقق هذا النجاح لولا علاقاتها الطيبة مع دمشق وطهران، ولولا تحّسن روابطها خلال الأشهر القليلة الماضية مع الرياض. سيقال أيضاً أن الأمور كانت ستكون أصعب لولا علائق الدوحة المتينة بواشنطن.
وكل هذا صحيح بالطبع. لكن الصحيح أيضاً ان ثمة ثالوثاً ذاتياً مهماً في هذا التطور يتمثل في: روح المبادرة، والديناميكية السياسية، والحيوية الدبلوماسية في قطر التي ساهمت في السابق في تمكين فضائية "الجزيرة" من "الهيمنة" على قلوب وعقول نحو 30 مليون عربي، والتي خدمت اليوم في سبيل تحقيق هذا الخرق الدبلوماسي الإقليمي الكبير.
ماذا الآن عن الإتفاق نفسه؟
إيجابيات
ثمة إيجابيات واضحة، وسلبيات أكثر وضوحاً.
الإيجابيات تتمّثل بالطبع في وقف إنزلاق بلاد الأرز إلى هوة الحرب الاهلية مجدداً. وهو خطر كان شبه مؤكد بعد أن تقاطع الإحتقان المذهبي - الطائفي الداخلي اللبناني مع إحتقان آخر إقليمي - دولي بالغ الحدة، خاصة بين السعودية وإيران.
وعلى سبيل المثال، في 19 مايو، أي قبل 48 ساعة من الإختراق الدبلوماسي القطري، كانت الرياض وطهران تتبادلان القصف العنيف سياسياً بكل أنواع الأسلحة، بسبب الوضع في لبنان.
فقد أعلن مجلس الوزراء السعودي الذي التأم برئاسة الملك عبد الله أنه يأمل في «أن تصل الزعامات اللبنانية إلى الاتفاق المرجو الذي يهيئ لانتخاب رئيس للبنان، والوصول إلى صيغة مقبولة لحكومة وحدة وطنية، وتعديلات دستورية بما يكفل للبنان استقلاله من هيمنة القوى الخارجية، ومن الارتهان للطموحات القومية غير العربية، وبما يضمن للشعب اللبناني أمنه وطمأنينته وانفكاكه من سيطرة أفكار وسلاح أي فئة من فئاته". وبالطبع، ليس هناك سوى إيران من يمتلك طموحات "قومية غير عربية".
في المقابل، كان وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي يرد على الرياض بالإعلان أن «التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط يدفع نحو مزيد من التطرف والإرهاب، لا سيما بعد الهجوم الإسرائيلي العام 2006، حيث يسعى أعداء لبنان إلى الاستفادة من ملف اغتيال الرئيس رفيق الحريري لإشعال الفتنة المذهبية والمحاصصة السياسية لضرب المقاومة، وكلما اقترب اللبنانيون من الحل تدخلت أمريكا لإفشال هذه المساعي. أي حل في لبنان يجب أن يكون بعيداً من التدخلات الأجنبية وحتى العربية". وبالطبع، "التدخلات حتى العربية" هنا لا تعني سوى المملكة السعودية.
الخوف
لماذا هذا التشنج في العلاقات بين هاتين الدولتين البراغماتيتين؟
ببساطة، لأنهما تشعران بقلق شديد على أمنهما: إيران من مخططات إدارة بوش لتغيير نظامها بالقوة قبل نهاية عهدها؛ والسعودية من صعود نفوذ إيران في منطقتي العراق - الخليج والمشرق العربي، الامر الذي لا يهدد نظامها فحسب بل حتى أيضاً كيانها السياسي بسبب وجود أقلية شيعية مهمة في المنطقة الشرقية من المملكة.
وحين يكون "الخوف الوجودي" هو سيد الموقف، ينتصر التوتر ويسود التشنج، وترتسم في الأفق خطوط المجابهات الساخنة منها والباردة. وهذا ما حدث بين هذين القطبين الإقليمين خلال السنوات الثلاث الاخيرة التي أعقبت الغزو الاميركي للعراق.
فقد إندفعت إيران المحاصرة بقوات أمريكية من ثلاث جهات (العراق، أفغانستان، مياه الخليج) إلى محاولة كسر هذه العزلة بإقامة حلف جديد في الشرق الاوسط عماده المحور السوري - الإيراني، وجوهره إطلاق حركات مقاومة ضد المشروع الأمريكي لإقامة "الشرق الأوسط الكبير"، ففتحت خزائنها المالية أمام كل الفصائل اللبنانية والفلسطينية والعربية الأخرى (حزب الله وحده يحصد أكثر من 600 مليون دولار سنوياً)، وأعلنت "الحرب النهائية" على "الكيان الصهيوني العفن" (على حد تعبير الرئيس الإيراني نجاد) لعلمها بمدى شعبية هذا الشعار في قلوب الشعوب العربية.
وفي الوقت ذاته، كانت السعودية، التي شعرت بالقلق بعد تعثّر المشروع الأمريكي في العراق وتنامي النفوذ الإيراني في جنوب بلاد الرافدين والمشرق العربي، تندفع هي الأخرى لتعزيز مواقعها الإقليمية. فولد المحور السعودي - المصري - الأردني، وبدأت الظروف تهيأ لولادة ما أسمته وزيرة الخارجية الاميركية رايس "الإصطفاف الإستراتيجي الجديد"، الذي يفترض أن يضم في حلف واحد العرب والإسرائيليين ضد خصم واحد هو إيران.
لبنان سقط في وقت مبكر في اتون هذا الفرز، بسبب إنشطاره نصفين بين هذين المحورين. فشّلت حكومته قبل 18 شهراً بسبب إنسحاب النواب الشيعة منها، وتوقف برلمانه عن العمل، ومنع إنتخاب رئيس فيه لمدة خمسة أشهر، ثم جاء الإنفجار الامني الأخير ليمكّن المحور الإيراني من إعادة التوازن إلى السلطة مع غلبة سياسية- عسكرية واضحة له.
لماذا قبلت السعودية بإتفاق الدوحة برغم هذه الغلبة، ولماذا إكتفت إيران بهذه المحصلة برغم قدرة حلفائها على قلب الطاولة كلياً في لبنان؟
لسبب مثير: برغم أن السعودية وإيران لا تريان تسوية قريبة ما بينهما لا حول مناطق النفوذ في الخليج، ولا حيال مسألة النفوذ في لبنان، إلا أنهما في الوقت نفسه لا تريدان تفجير الاوضاع نهائياً في بلاد الأرز: الرياض لان حلفاءها سيتكبدون مزيداً من الهزائم العسكرية، وطهران لانها تخشى إنفجار مواجهات سنية - شيعية من شأنها تقويض أسس إستراتيجيتها في المشرق العربي المستندة إلى شعار "مقاومة إسرائيل وتحرير فلسطين".
هذه المعادلة السلبية، إذا جاز التعبير، هي التي سمحت بتسهيل ولادة إتفاق الدوحة.
...وسلبيات
هذا على صعيد الإيجابيات. أما السلبيات في هذا الإتفاق، فهي تجلت في تكريس ديمومة نظام طائفي كان في صلب كل أزمات لبنان منذ 1840.
فالترتيبات الإنتخابية التي تم الإتفاق عليها، والتي استندت إلى قانون العام 1960، فصّلت تماماً على مقاس زعماء الطوائف ومصالحهم القديمة - الجديدة. إنهم (أي الزعماء) ربحوا الإنتخابات قبل خوضها، وجددوا قدرتهم على فرض النائب الذي يريدون، داخل "الإقطاعات" التي يريدون. لا أحد في الدائرة الثالثة في بيروت سيكون قادراً على إختراق لوائح آل الحريري. ولا أحد في الجنوب سيتمّكن من منافسة حزب الله. ولا مرشح في الشوف سيكون له أمل في تحدي جنبلاط. الحماوة الإنتخابية الوحيدة ستحدث في "المناطق الرمادية" التي لم تحسم فيها السلطة الطائفية لصالح طرف واحد، كما في الدوائر المسيحية.
هذا ما يطلقون عليه في لبنان نعت "الديمقراطية التوافقية"، ربما لخجلهم من تسمية الطائفية بإسمها. لكن هذه اللعبة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالديمقراطية. إنها الديكتاتورية التي منعت، ولا تزال، قيام الوطن ووولادة المواطنية.
الديمقراطية التوافقية التي وضعت للمجتمعات الأوروبية متعددة الأعراق والقوميات، خدمت جيداً الغرض منها لأنها نجحت في نشر الثقافة والممارسات الديمقراطية داخل كل عرق أو قومية، قبل أن تحقق التوافق بين العناصر المتباينة لمجتمعاتها. هذا ما حدث في كانتونات سويسرا التي طبقت مبدأ الديمقراطية المباشرة داخل كل كانتون، فأوصلها ذلك ليس فقط إلى التوافق، بل أولاً وأساساً إلى تشييد صرح الوطنية السويسرية التي وحدها تمكنت من إنهاء حروب أهلية دامت قروناُ عدة بين السويسرييين الألمان والفرنسيين والإيطاليين والبروتستانت والكاثوليك.
لبنان، برغم كل بريقه الإنتخابي، يفتقد إلى هذه الديمقراطية، أولاً داخل كل طائفة، ثم لاحقاً بين الطوائف نفسها، بسبب القوانين الإنتخابية المتلاحقة التي وضعت منذ العام 1943، والتي هدفت إلى إعادة إنتاج الزعامات الديكتاتورية الطائفية. هذا ما يجعل أي خلاف بين زعماء الطوائف مشروع صدام مع الطوائف الأخرى. هذا أيضاً ما جعل الحرب الأهلية مكّوناً أساسياً من مكونات الكيان اللبناني.
حين تُوضع هذه المعطيات بعين الإعتبار، يفهم المرء لماذا كانت جمالية الإتفاقات الطائفية السابقة، من صفقة الميثاق "الوطني" إلى دستور الطائف، تؤدي كلها إلى سلام مؤقت؛ إلى هدنة مؤقتة، في إطار حرب دائمة.
إتفاق الدوحة لا يخرج عن هذا الإطار. لا بل هو في صلب هذا الإطار، خاصة حين نتذّكر بأنه لن يحل جذر الأزمة اللبنانية، ولن يفك تشابكاتها الخطيرة مع الصراعات الإقليمية والدولية الأخطر في الشرق الاوسط. وليس على المرء للتثبت من ذلك سوى التدقيق في البيانات الصادرة عن لبنان في الرياض وطهران وواشنطن وتل أبيب، والتي توحي كلها بأن المنطقة تتحرك نحو "الهدنات" ليس فقط في لبنان وغزة بل أيضاً في سوريا عبر صفقة سلام إسرائيلية- سورية محتملة، فيما تستعد أطراف أخرى فيها للحرب (إسرائيل وأمريكا) إذ حينئذ سنوقن ان إتفاق الدوحة قد لا يكون أكثر من هدنة في إطار حرب أو حروب في المنطقة ولبنان ربما تستأنف الخريف المقبل، أو حتى قبل ذلك بكثير.
هل هذه حصيلة متشائمة؟ قد يكون الأمر كذلك. لكن، ما يعززها أمران: إحتمال تفجّر الوضع في الشرق الأوسط في أية لحظة، وتاريخ النظام الدموي الطائفي اللبناني الذي علمّنا ألا نثق بديمومة هدناته السلمية.