القبس تنشر أوراقا من مذكرات البطريرك صفير (1992 – 1998).. حول لبنان- سيادة لبنان واستقلاله وتعاون البلدين، شـروط لأي وساطة(3)
. .. ورد صفير غاضبا: «لا يجوز أن يطرح السوريون سؤالا حول ماذا أريد من سوريا؟» وفي انتظار أن تأخذ الأمور نصابها، أحجم البطريرك صفير عن المواقف العلنية المتعلقة بنظرته الى المجلس النيابي الجديد مفضلاً اختيار التوقيت الذي يعتبره ملائماً ليقول كلمته، بعد أن تكون قد هدأت النفوس، لذلك تفادى المقابلات الصحفية. وممن طلبوا اجراء مقابلة مع سيد بكركي، في تلك الفترة، صحافيان من جريدة تشرين السورية. فاعتذرت أمانة سر البطريركية منهما، لكنهما لم يقبلا بالنتيجة ولجآ الى النائب رشيد الخازن، ليتوسط لهما لدى البطريرك الماروني. وصباح الأحد الواقع فيه الخامس والعشرون من تشرين الأول، حضر الخازن الى الصرح البطريركي في الساعة العاشرة ومعه الصحافيان السوريان ومصور الجريدة. وقال نائب كسروان انه كان آتياً لسماع القداس في بكركي معتقداً أن البطريرك يحتفل به في الساعة العاشرة. ثم قدّم للبطريرك صفير مرافقيه. فدخل الصحافيان وفي يد أحدهما مسجلة وشرع المصور يلتقط الصور. ليس من عادة البطريرك صفير أن يسيء استقبال أي زائر للصرح البطريركي. كما أن ليس من عادته القبول بأن يتم وضعه أمام الأمر الواقع. ولعل ذلك أكثر ما يثير استياءه. كبس الصحافي السوري بثقة زر التشغيل، وحاول وزميله الحصول على مقابلة لم تدم الا دقائق معدودة. ومما سألاه: > يبدو أنكم اعترفتم بمجلس النواب؟ – من قال لكما ذلك؟ > رأينا المونسنيور أمين سر السفارة البابوية يحضر حفلة انتخاب رئيس المجلس النيابي. – نحن لا شأن لنا به. > هل ستعترفون بنبيه بري رئيساً لمجلس النواب؟ – هذا أمر سننظر فيه. > كيف تقيّمون الخدمات التي أدتها سوريا للبنان؟ – هذا يقتضي لبحثه زمنا طويلا. > كيف تصفون علاقتكم بسوريا؟ – نريد أن نكون أسياد أمرنا في بلادنا، وعلى حسن علاقة مع سوريا في اطار السيادة والاستقلال وننسق معها على الصعيد الخارجي. «انتهت المقابلة بسرعة»، على ما يذكر السيد البطريرك. وساد صمت، في القاعة الكبرى، في الصرح البطريركي، بدا طويلاً مع أنه لم يدم الا لحظات، وفهم الصحافيان السوريان أن عليهما مغادرة بكركي بخفي حنين. المحاولات السورية للاستيعاب لم يكن قد مضى ثلاثة أشهر على اعتلائه السدة البطريركية في السادس والعشرين من تموز 1986، عندما أسر البطريرك صفير للرئيس الراحل رشيد كرامي في الديمان أنه ينشد «التعاون مع سوريا ولكن على قاعدة حفاظنا على سيادتنا وحريتنا وكرامتنا وخصائصنا فلا نكون تابعين ولا متبوعين»، وهو منذ ذلك التاريخ، لا يكف عن اعلان موقفه هذا، في العلن وفي جلساته الخاصة. لكن باستثناء مواقفه المعلنة الداعية الى أطيب العلاقات بين البلدين وأوثقها، لم يأخذ البطريرك الماروني مبادرة في اتجاه سوريا. 5 أسباب للرفض في المقابل، لم يرفض سيد بكركي يوماً مبادرة أو دعوة للحوار مع سوريا سواء أكانت لبنانية أم سورية المصدر. ولاحجامه عن المبادرة في اتجاه سوريا أكثر من سبب. أولاً، نظرته الى موقع الكرسي البطريركي الذي لا يتعاطى الا في الشأن الوطني من موقع الموجه الى ما فيه الخير العام في لبنان. ثانياً، اعتباره أن الحوار يجب أن يكون من دولة الى دولة وأن مسألة العلاقات اللبنانية-السورية هي من شأن السلطة الرسمية. ثالثاً، رفضه القاطع لنظرية تحالف المسيحيين مع سوريا لتعزيز مواقعهم تجاه المسلمين، بكلام آخر الاستقواء عليهم بالتحالف معها. رابعاً، اقتناعه بعدم صفاء نية سوريا تجاه لبنان، والذي عززه لديه، العداء التاريخي السوري للكيان اللبناني، ومنظومة حزب البعث الحاكم في دمشق الداعي الى وحدة عربية اندماجية، والدور الذي لعبته القوات السورية خلال مفاصل الحرب اللبنانية، وكذلك خبرته الشخصية مع القيادات السورية، خامساً، اقتناعه بان ما تطلب سوريا تغييره في النظام اللبناني يُفقد لبنان مبرر وجوده. فهو يتمسك بقوة بالمبدأ القائل ان لبنان ملجأ لكل مضطهد. وفي هذا الاطار، لطالما ذكّر البطريرك بالحكام السوريين الذين ناصبوا الكيان اللبناني العداء، ثم لجأوا اليه، وأمضوا بقية حياتهم فيه هرباً من أنواع الاضطهاد السياسي. و4 أسباب للضرر أما أسباب عدم رفض أي دعوة حوار مع سوريا فهي أيضاً متعددة: 1- التأكيد للقيادات السورية وكذلك للقيادات اللبنانية، الموالية والمعارضة على حد سواء، أن لا خلفية عدائية لدى البطريركية المارونية حيال دمشق، وأن بكركي تؤيد شتى أنواع التعاون والتفاهم بين لبنان وسوريا طالما أن ذلك لا يمس السيادة اللبنانية ومصالح اللبنانيين. 2- الرغبة في تخفيف الاحتقان السوري تجاه لبنان عموماً والمسيحيين خصوصاً، وجعله أقل وطأة عليهم. اذ من شأن فتح صفحة حوار أن ترطب الأجواء وتشجع سوريا، على الأقل في فترة الحوار، على تخفيف ضغوطها على القوى المسيحية التي كان مناصروها يتعرضون للملاحقة شبه الدائمة. 3- عدم اهمال أي احتمال أو وسيلة أو امكانية للتوصل الى تفاهم مع القيادة السورية من شأنه أن يقنعها بعدم ممارسة الضغوط على السلطة السياسية اللبنانية وبرفع هيمنتها عن لبنان ووقف تدخلها في شؤونه الداخلية. 4- اعطاء برهان قاطع لكل اللبنانيين القائلين إن الحوار المباشر بين بكركي ودمشق من شأنه أن يعالج الأوضاع المتفاقمة ويضع حداً لعدم ثقة النظام السوري بالمسيحيين بأن هذه المقولة خاطئة. فهو دأب في القول لكل من فاتحه بهذا الموضوع ما معناه: اذهب وجرب تر. رفض مبادرة القومي واذا كان البطريرك صفير قد بدا منفتحاً على كل اقتراح أو مبادرة للتفاهم مع السوريين، فانه لم يكن كذلك عندما عرضت قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي خدماتها في هذا المجال في الزيارة التي قامت بها الى بكركي في نهاية عام 1992، وقد جدّد النائب غسان مطر هذا العرض، في أكثر من مناسبة، غير أن البطريرك صفير اكتفى بالاستماع شاكراً للسوريين القوميين استعدادهم. ولم يفاجأ النائب مطر ورفاقه من موقف سيد بكركي: «فالبطريرك يعرف، ونحن نعرف، والجميع يعرفون أنه لن يتبنانا على المستوى السياسي وبالتالي لن يعطينا هذا الدور. حتى النواب الموارنة الذين وصلوا الى البرلمان في ظل المقاطعة، وكان تمثيلهم موضع تشكيك كل المسيحيين، لم يكونوا يعتبروننا موارنة». بعد انتهاء العمليات الانتخابية التي أظهرت دمشق قبلها، وخلالها الكثير من المواقف الحادة، واقتناع البطريرك صفير، من جهته، باستمرار الأوضاع السياسية في لبنان على ما هي عليه بنتيجة اهتمام الولايات المتحدة المنصب على محادثات السلام، برز توجه لدى كل من دمشق والبطريرك الماروني لترطيب العلاقات بينهما. اقتنع الجانبان أن الحدة التي امتازت بها مواقفهما لا تجدي نفعاً بعد أن كان ما كان. غير أن ما حكم بالفشل السريع على هذه الاتصالات اعتقاد القيادة السورية أن الانتصار الذي حققته في الحصول على الاعتراف الدولي بمجلس النواب المنتخب، على الرغم من المقاطعة، من شأنه أن يدفع البطريرك صفير نحو المزيد من اللين والقبول بالأمر الواقع. فالبراغماتية تقضي، من منظار السوريين، بأن يمزج البطريرك الماروني نبيذ كأسه ببعض الماء. من هنا، يمكن فهم ردة فعل القيادة السورية حيال تصلب سيد بكركي وتمسكه بما نادى به منذ اعتلائه السدة البطريركية. الخازن والشهابي أولى محاولات تقريب وجهات النظر بين بكركي ودمشق، بعد الانتخابات النيابية، كانت في اليوم التالي لانتهاء المرحلة الأخيرة من الانتخابات في دائرة كسروان أي في الثاني عشر من تشرين الأول. وقد حمل النائب المنتخب رشيد الخازن، في صبيحة ذلك اليوم، الى الصرح البطريركي اقتراح عقد لقاء بين مندوب عن البطريرك صفير ومندوب عن القيادة السورية. وجعل الخازن يستفيض في شرح موجبات تحسين العلاقة مع سوريا مبرزاً أهمية الدور الذي تلعبه القوات السورية في الحفاظ على الوجود المسيحي في المناطق الخاضعة لنفوذها المباشر. وكشف للبطريرك صفير عن العلاقات الوثيقة التي تربطه بمواقع القرار في سوريا، وبخاصة مع رئيس أركان الجيش السوري حكمت الشهابي الذي تشده اليه رابطة صداقة ترقى الى عام 1969، وأخبره أن الشهابي شريك لشقيقه في شركة تجارية. وفي نهاية المقابلة، سأل الخازن الحبر الماروني مجدداً عن رأيه في اقتراح عقد لقاء بين مندوبين عن بكركي وعن دمشق. فأجاب: «سنرى». وأبدى البطريرك صفير أمام زائره «شكاً في نجاح المسعى لأن للسوريين مطامع قديمة في لبنان». في صباح السادس عشر من تشرين الأول، جاء النائب رشيد الخازن الى بكركي ليخبر البطريرك صفير أنه قابل الرئيس السوري حافظ الأسد طوال أربعين دقيقة، برفقة رئيس أركان الجيش السوري العماد حكمت الشهابي، في الساعة الحادية عشرة من الليلة الماضية. وتلا الخازن على مسمع سيد بكركي ما سمعه من الأسد: «لا نسمع سيدنا البطريرك ينتقد اسرائيل، انما نسمعه ينتقد سوريا. نحن، في الحقيقة، نقدّره ونحب أن نراه في دمشق، لكنه لا يزورنا، وقد اشترط دعوة منا اليه. لكن نحن لا يمكننا أن نوجه اليه هذه الدعوة وهناك رؤساء روحيون كثر في لبنان وسوريا. فنضطر اذ ذاك الى دعوتهم جميعاً وهذا غير وارد». قصة لقاء مع الأسد وقال الخازن للأسد، على ما روى للبطريرك الماروني: «قابلت غبطته قبل مجيئي الى دمشق، وهو يكن لسوريا ولسيادتكم شخصياً كل تقدير. هو يريد أن ينسق معكم انما يطلب أن يترك للبنان اختيار وزرائه ونوابه والمسؤولين عن ادارة شؤونه، وهذا غير حاصل الآن. أقترح على سيادتكم ايفاد مندوبين الى بكركي من قبلكم لبحث الأمر مع البطريرك». وأضاف نائب كسروان: «قال لي الرئيس الأسد أن أمر ايفاد مندوب سيبحث في مجلس الحزب ومن ثم سيعطينا جواباً على الاقتراح. بتقديري، سيكون الجواب ايجابياً، لأن الطريقة التي تحدث بها معي كانت في منتهى الايجابية. اذ كان يوجه الي الكلام بالقول الأخ الشيخ رشيد. وعندما يتكلم عنكم، كان يقول سيدنا البطريرك». وختم الخازن ملخص لقائه مع الرئيس السوري: «بدا لي أن الرئيس الأسد عميق الاطلاع على الأشخاص وأوضاعهم وأقوالهم في لبنان». وقال لي في نهاية المقابلة: «طلب منا الرئيس الياس الهراوي أن يُعيّن رفيق الحريري رئيساً للوزراء، فقبلنا على رغم أنه يخص السعودية وهي ليست معنا». وسيط آخر وفي تحرك مواز، منفصل كلياً عن مبادرة رشيد الخازن، جاء وزير الطاقة والموارد المائية والكهربائية الجديد، جورج افرام، الى بكركي، في السادس من تشرين الثاني، في زيارةبروتوكولية لابداء«استعداده للخدمة»، وجدد طرح وجهة نظره بوجوب اقامة خطوط مع سوريا. وقال ان بمقدوره أن يقوم بدور الوسيط في هذه المهمة. فأجابه الحبر الماروني: «مطلبنا وحيد ومعروف وهو سيادة لبنان واستقلاله واستعادة قراره. وهذا لن يكون ما دام هناك جيش سوري يرابط في لبنان». ووعد افرام بالعمل على تأمين خط اتصال مع دمشق يمكن عبره التوصل الى تفاهم بين الموقعين. في غضون ذلك، عاد النائب رشيد الخازن من سوريا وأخبر البطريرك صفير، في الخامس عشر من كانون الأول، أن المسؤولين السوريين سألوه: «ماذا يريد البطريرك؟». فاغتاظ سيد بكركي من هذا السؤال الذي يحمل في طياته الكثير من المعاني، أولها أنهم لا يولون اعتباراً لمطالب اللبنانيين، وآخرها أن السوريين يوحون بأنهم لا يريدون أن يفهموا أن منطلقات البطريرك الماروني مبدئية، وأنه ليس في وارد الدخول في بازار تحت الطاولة. وقال بغضب: «لا يجوز بعد أن يطرح هذا السؤال، كأنهم لا يعرفون ماذا نريد. اننا نريد السيادة والاستقلال وانسحاب كل الجيوش الأجنبية من لبنان». وفي السادس عشر من كانون الثاني 1993، جاء الوزير جورج افرام، في السابعة والنصف مساء، ليقول للبطريرك صفير انه ذاهب الى دمشق حيث سيلتقي صديقاً سورياً له، هو بدوره صديق للرئيس السوري حافظ الأسد، ليرى ما اذا كان بامكانه أن يأتي ليلاً الى بكركي، بعيداً عن الأضواء، للبحث في مسألة فتح خط غير مباشر بواسطته مع دمشق وبخاصة مع الرئيس الأسد. فرد سيد بكركي: «كل ما نطلبه السيادة والاستقلال ونحن نؤيد فكرة التعاون بين لبنان وسوريا في كل الميادين». عاد افرام الى بكركي، في نهاية شهر كانون الثاني، غداة رجوعه من دمشق. وصل في الخامسة عصراً، والتقى البطريرك لدقائق كاشفاً عن زيارة سيقوم بها مساء اليوم عينه برفقة صديقه السوري، المقرب من الرئيس حافظ الأسد، المكنّى بأبي باسل. لكن الوزير افرام اتصل بعيد السابعة معتذراً قائلاً انه لن يتمكن من المجيء «لأسباب طارئة». دور خدام وكنعان والجدير ذكره أن أحداً لم يعرف باللقاء الذي تم بين الخازن والرئيس السوري، ولا حتى ابن شقيقه فريد الخازن الذي يقول: «لا علم لي بحصول مثل هذا اللقاء»، في حين، يذهب نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام الى حد الجزم: «اني أؤكد أن رشيد الخازن لم يقابل أبداً الرئيس حافظ الأسد». لم تمض ثمان وأربعون ساعة، على زيارته الأخيرة، حتى عاد النائب رشيد الخازن الى بكركي ليخبر البطريرك صفير أنه دُعي الى دمشق لقضاء يومين، بواسطة أحد معارفه. وقال الخازن انه يتوقع أن يدور الحديث على ما سبق له أن تحدث عنه مع الرئيس الأسد، وهو اقامة علاقة مع بكركي عبر ارسال موفد. فقال له سيد بكركي: «فليكن وسيقابل الموفد أحد المطارنة في الكرسي البطريركي وسنرى كيف ستتطور العلاقة». بعد يومين، أي في الثاني والعشرين من تشرين الأول، جاء الخازن الى بكركي في الثامنة والنصف صباحاً، ليقول للبطريرك صفير انه لن يذهب الى دمشق لوفاة خاله الشيخ عدوان الخازن. وأخبره أنه استقبل، في الليلة السابقة، في الساعة الحادية عشرة والنصف، رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان، غازي كنعان، والمسؤول عن أمن دمشق، عيسى الشدياق في زيارة تعزية. وقال نائب كسروان ان الحديث مع الضابطين السوريين تطرق الى «الأثر الطيب الذي تركته زيارتي في نفس الرئيس الأسد. وأبديا رغبة في مواصلة العلاقة معهما لأكون الوسيط بين دمشق وبكركي، وأظهرا تمسكهما بفكرة ارسال موفد الى بكركي. كما دار الحديث معهما على الهواجس التي أثارها لديكم خطاب رئيس مجلس النواب نبيه بري، الأسبوع الماضي، اثر انتخابه رئيساً للمجلس، عن الغاء الطائفية السياسية. فما كان من العميد غازي كنعان الا أن اتصل ببري على رغم أن الوقت متأخر. وبعد أن طلب منه استقبالي وحدّد لي موعداً معه لهذه الغاية، قال كنعان لبري: على رئيس المجلس أن يزور بكركي». الـحلقة الرابعة محاولات لدفع صفير لزيـــارة دمشق