فخامة الرئيس، النسبية تتعارض مع اتّفاق الطائف
تحية طيبة وبعد،
يوم ناديت بالنسبية لم تكن أسباب معارضتها مسموعة كما هي اليوم، وقد عكفنا في اللجنة الدستورية والقانونية المنبثقة عن الرابطة المارونية التي لي شرف الانتماء إليها، إلى بحث في إيجابيات ومساوئ اعتماد النسبية في اقتراح قانون الانتخاب الذي أعدّته وزارة الداخلية.
إنطلقنا لتقويم النسبية من الدستور اللبناني وفقاً لتعديلات عام 1990 الذي أناط بموجب المادة /17/ منه السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء في إطار مشاركة الجميع في صنع القرار السياسي، ولهذه الغاية كرّست المناصفة بين المسلمين والمسيحيين بموجب المادة /24/ من الدستور والنسبية بين الطوائف والمناطق ...
فإذا كانت المناصفة أحد أهم الأركان التي ارتكزت إليها تعديلات الطائف والتمثيل النسبي بين المناطق والطوائف فهل يعقل أن نعتمد نسبية على النسبية؟
وكيف السبيل إلى ذلك والنسبية تفترض أقله وجود مقعدين لأي طائفة ، فيما لا يوجد في كثير من الدوائر إلّا مقعد نيابي واحد لمرشّح عن إحدى الطوائف، كالمقعد الماروني والكاثوليكي والإنجيلي والدرزي ومقعد الأقليات في بيروت والمقعد العلوي والماروني والأرثوذكسي في طرابلس، والعلوي والماروني في عكّار، والشيعي في جبيل، والكاثوليكي في المتن، والدرزي في بعبدا، والأرثوذكسي في عاليه إلخ إلخ... ومعظم دوائر لبنان إذ يوجد 32 مقعداً لطوائف مختلفة لا يمكن تطبيق النسبية عليها لعدم وجود مقعدين في الدائرة عينها. وهذا الأمر يشمل 14 دائرة من أصل 24 دائرة معتمدة في القانون الحالي أي 60 % تقريباً من الدوائر.
وبالتالي نكون قد طبّقنا النسبية في 40 % من الدوائر وعلى 70 % تقريباً من المرشحين والنظام الأكثري في 60 % من الدوائر وعلى 30 % من المرشحين، ما يجعل من العملية الانتخابية مطبّقاً عليها نظامين انتخابيين في الوقت عينه، فيفوز مرشّح على أساس النسبية وآخر على أساس النظام الأكثري وهذا ما لا يجوز على وجه الإطلاق.
فخامة الرئيس إنّ التطبيق المعْتَور لاتّفاق الطائف جرّاء إشراف نظام الوصاية السورية على لبنان، هَجّر اللبنانيين إلى الخارج ومعظمهم من المسيحيين الذين رفضوا أن تُقمع حرياتهم السياسية ولم يتحمّلوا صعوبة الأوضاع الاقتصادية في تلك المرحلة، أضف إلى ذلك ما رتّبته مراسيم التجنيس ممّا جعلهم اليوم عددياً ما يقارب ثلث اللبنانيين، مع العلم أنّ التجنيس في تلك المرحلة لم يشمل مَن هم من أصل لبناني في بلدان الاغتراب ولهم علينا أحقية منحهم الجنسية اللبنانية.
وعليه، إنّ نظام النسبية (كمصطلح حسابي) يعبّر عن نفسه بنفسه، إذ لا يمكن للمسيحيين أن يتمثّلوا تمثيلاً حقيقياً إلّا بنسبة 36 % وفقاً إلى نسبة وجودهم الديموغرافي في العام 2013، فهل نعود إلى تطبيق العددية فيما أخرجنا اتّفاق الطائف منها؟؟؟
وعلى سبيل المثال لا الحصر، هل يمكن تطبيق النظام النسبي في المربّعات الأمنية التي تحظّر قيام تيار سياسي آخر وفقاً لما حصل مع التيار الأسعدي الذي لاقى كوادره الاضطهاد على اختلاف أنواعه من حرق لمكاتبهم وسياراتهم وإلقاء القنابل عليهم.
فخامة الرئيس، النسبية نظام انتخابي يُمثّل الأقليات وهذا صحيح، لكنّ تطبيقه من شأنه أن يُلحق ضرراً كبيراً يطاول الوجود والتمثيل السياسي لمكوّن أساسي من مكوّنات المجتمع اللبناني. وإنّ رئاسة الجمهورية مؤتمنة الحفاظ على الدستور واحترام أحكامه فلا يجوز والحال هذه تطبيق العددية بدلاً من المناصفة.
فخامة الرئيس، بالأمس أشار إلى كلّ ذلك عدد من النواب الذين شاركوا في إقرار وثيقة الطائف للوفاق الوطني، وتمسّكوا بالطائف الذي يبقى المرجع الوحيد حتى تعديله، فلا يجوز الاستناد إلى غايات وأهداف أخرى ونحن نعلم أنّها نبيلة وصادقة لكنّها وللأسف لا تأتلف مع أحكام الدستور.
صحيح أنّ النسبية من شأنها أن تُعَصرن العملية الانتخابية، لكنّها تأتي في آخر المسار المتعلّق بتطوير الحياة الديموقراطية حيث يبدأ هذا المسار بالانتقال من النظام الطائفي إلى الدولة المدنية وصولاً إلى تطوير الحياة الحزبية، لتصبح الأحزاب وطنية الانتماء تعتمد الديموقراطية كآلية لعملها، فتبتعد عن العائلية والزعامة الدائمة على رأس الحزب حيث يتمّ التداول على هرميتها وصولاً إلى إقرار حقّ الانتخاب لمَن بلغ سنّ الـ 18، شرط أن يسبق ذلك تربية مدنية وثقافة وطنية يتلقّاها الناخبون في المدارس، ليتمكّنوا من تحديد خياراتهم قبل وضعهم أمام خيارات انتخابية وحزبية طائفية لا بديل عنها، حيث تكون ثقافتهم الديموقراطية محدودة، وبالتالي لا تأتي الممارسة على قدر أهمية الحق الممنوح إليهم.
وإلى أن تُقرَّ كل تلك القوانين الإصلاحية التي لا بدّ أن تترافق مع تعديلات دستورية وإقرار تشريعات تواكب هذه الإصلاحات، عندها يُمكن الولوج إلى النسبية على أساس لبنان دائرة انتخابيّة واحدة.
أمّا وأنّنا لا نزال في نظام الجماعات التي تحتفظ وبموجب الدستور بحقوق تمثيلية، فلنلج إلى تصغير الدوائر وقد لاقى مشروعنا المؤلّف من 47 دائرة تأييد معظم القوى السياسية الذي تشبه تقسيمات الدوائر المعتمدة فيه الدوائر المعتمدة في كلّ محافظة الجنوب بعد فصل حاصبيا ومرجعيون عن بعضهما ونصف الدوائر في الشمال وفقاً لقانون المعمول به حالياً فلا يتجاوز عدد المقاعد في الدائرة الـ 4 كما هو الحال في صور ولا تقلّ عن اثنين كما هو الحال في صيدا، وهذا القانون فيه توازن تقريبي بين عدد الناخبين وعدد المقاعد للمرشحين، ويؤمّن الحفاظ على العيش المشترك ولا يوجد فيه عزل طائفي كما يحلو للبعض تسميته (علماً أنّ هذا العزل الطائفي يمارس في حياتنا اليومية مدى أربع سنوات وبصورة متجددة وليس لحظة الاقتراع).
فخامة الرئيس، فلنعد إلى الرأي العام الوطني الجامع المعارض للنسبية ولنتمسك بمَن يؤمن بالمناصفة لا سيّما من أيّد هذا الأمر علناً، كتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وكثير من القوى المسيحية لا سيّما تلك المنضوية في لقاء بكركي حيث تجمع على وجوب تصغير الدوائر على أساس النظام الأكثري، فتصغر الأقضية الكبيرة لتصبح متناسبة مع الأقضية الصغيرة لجهة عدد المقاعد حيث يكون عدد المقاعد والناخبين متقارباً من دون أن يكون الفارق بينها شاسعاً، كما هو الحال في صيدا (مقعدان)، بعلبك الهرمل (عشرة مقاعد)، فنحقّق صحة التمثيل ونحترم اتّفاق الطائف ونحافظ على كل حقوق الجماعات المكوّنة للمجتمع اللبناني كما فعل المشرّع الدستوري، أملاً في أن تمكّن صحة التمثيل من العمل لاحقاً على تطوير الحياة الديموقراطية في لبنان كما سبق وأشرنا.