من يحكم الاستقرار اللبناني اتفاق الطائف أم اتفاق الدوحة؟

النوع: 

 

بعد كل أزمة، يأتي للبنانيّين من يحل لهم تلك العقدة عبر اتفاق ينهي المشاكل، وتُطرح بعد ذلك إشكالية أخرى، إذ يختلفون على مدى إلزامية الاتفاق وصلاحيته الزمنية. والعنوانان الرئيسيان اليوم هما اتفاقا الطائف والدوحة وما حولهما من اختلاف في الرأي

جاءت وثيقة الوفاق الوطني التي يُصطلح على تسميتها “اتفاق الطائف” بعد حرب استمرت نحو 15 سنة. أُقرّت الوثيقة في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية بتاريخ 22 تشرين الأول 1989؛ ووافق عليها مجلس النواب اللبناني في جلسته التي عُقدت في مطار القليعات بتاريخ 5 تشرين الثاني 1989؛ وتضمنت أربع فقرات أساسية هي: المبادئ العامة والإصلاحات، بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي اللبنانية، تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي والعلاقات اللبنانية السورية. وبناءً على هذه الوثيقة أُدخلت تعديلات جديدة على دستور 1926، صوّت عليها المجلس النيابي بتاريخ 21 أيلول 1990. والملاحظ أن قسماً كبيراً من أحكام هذه الوثيقة لم يُفرد له مكان في الدستور ولا في مقدمته، والعديد منها لم يدخل حيز التنفيذ بعد، ومن أبرز تلك الأحكام:

ـ الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.

ـ توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامين.

ـ إعادة النظر في التقسيم الإداري بما يؤمّن الانصهار الوطني.

ـ اعتماد اللامركزية الإدارية الموسّعة عن طريق انتخاب مجلس لكل قضاء تأميناً للمشاركة المحلية.

ـ اعتماد خطة إنمائية موحّدة شاملة قادرة على تطوير المناطق اللبنانية وتنميتها.

ـ إصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني وإصلاح أوضاع الجامعة اللبنانية وتقديم الدعم إليها، وخاصةً في كلياتّها التطبيقية.

ـ إقفال ملف المهجرين وتأمين عودة كريمة لمن بقي منهم خارج قراهم.

ـ إعادة النظر في المناهج التعليمية وتطويرها بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين.

ـ إعادة تنظيم استخبارات القوات المسلحة.

في ما يخص القيمة القانونية لاتفاق الطائف، فإن المجلس الدستوري في قراره رقم 1/2002 اعتبر تاريخ 31 كانون الثاني 2002 “أنه ومن الرجوع إلى ما يدلي به المستدعون من مبادئ وخطوات مدرجة في وثيقة الوفاق الوطني، لا يتبين أنها أُدرجت جميعها كما وردت في الوثيقة في مقدمة الدستور أو في متنه، أو أنها تؤلّف جميعها مبادئ عامة ذات قيمة دستورية، وبما أن المجلس يرى أنه بقدر ما تتضمن وثيقة الوفاق الوطني نصوصاً أُدرجت في مقدمة الدستور أو في متنه، أو مبادئ عامة ذات قيمة دستورية، بقدر ما تكون مخالفة تلك النصوص والمبادئ خاضعة لرقابة المجلس الدستوري”. وتالياً، فإن رأي المجلس الدستوري هو أنه ما دامت كل أحكام الوثيقة لم تُدرج في متن الدستور أو مقدّمته فإنه لا يمكن أن يكون لهذه الأحكام أي قيمة دستوريةوعلى الرغم من قرار المجلس الدستوري هذا، فإن العديد من السياسيّين يدافعون عن اتفاق الطائف ويعدّونه “أمانة وطنية وقومية في ضمائرنا جميعاً. أمانة يجب أن نبني عليها في بناء دولة حديثة وقادرة. وفي ترسيخ نظام ديموقراطي برلماني”. وأكثر من ذلك يرى هؤلاء أن الطائف هو “الإطار الذي يجب أن يحكم مسار المصالحات بين أطراف الساحة السياسية اللبنانية”.

أما في خصوص اتفاق الدوحة، فقد أُقرّ بعد سلسلة من الأحداث، بدأت باستقالة ستّة وزراء من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2006، وانتهت بأحداث أيار عام 2008. وقد نص الاتفاق على خمسة بنود، أولها، دعوة رئيس مجلس النواب البرلمان إلى الانعقاد طبقاً للقواعد لانتخاب المرشح التوافقي العماد ميشال سليمان، رئيساً للجمهورية؛ ثانياً، تأليف حكومة وحدة وطنية من 30 وزيراً توزّع على أساس 16 وزيراً للأغلبية و11 للمعارضة و3 للرئيس، ويتعهّد الأطراف بمقتضى هذا الاتفاق عدم الاستقالة أو إعاقة عمل الحكومة؛ ثالثاً، اعتماد القضاء طبقاً لقانون 1960 دائرةً انتخابية في لبنان؛ رابعاً، تعهد الأطراف الامتناع عن أو العودة إلى استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية و“حظر اللجوء إلى استخدام السلاح أو العنف أو الاحتكام إليهما فيما قد يطرأ من خلافات مهما كانت هذه الخلافات، وتحت أي ظرف كان، بما يضمن عدم الخروج عن عقد الشراكة الوطنية القائم على تصميم اللبنانيين على العيش معاً في إطار نظام ديموقراطي، وحصر السلطة الأمنية والعسكرية على اللبنانيين والمقيمين بيد الدولة بما يمثّل ضماناً لاستمرار صياغة العيش المشترك والسلّم الأهلي ويتعهد الأطراف ذلك... تطبيق القانون واحترام سيادة الدولة في المناطق اللبنانية، بحيث لا تكون هناك مناطق يلوذ إليها الفارّون من وجه العدالة احتراماً لسيادة القانون، وتقديم كل من يرتكب جرائم أو مخالفات إلى القضاء اللبناني”؛ خامساً، إعادة تأكيد التزام القيادات السياسية اللبنانية بوقف استخدام لغة التخوين أو التحريض السياسي أو المذهبي على الفور.

من خلال استعراض ظروف كل اتفاق يمكن الخروج بالملاحظات الآتية:

أولاً: تجوز مقارنة الاتفاقين من حيث أن كلاً منهما أوقف نزاعاً داخلياً، وفرض قواعد يجري على أساسها إنتاج سلطة، إن من خلال تغيير شكل الحكم في اتفاق الطائف، أو من خلال فرض قانون القضاء في اتفاق الدوحة. والمقارنة تجوز أيضاً من خلال الأحكام التي طبّقت، فجرى تعديل الدستور لتطبيق أحكام الطائف. أما أحكام اتفاق الدوحة، فلم تكن بحاجة إلى تعديلات دستورية لكونها قد طُبقت لاحقاً.

ثانياً: إن المدافعين عن اتفاق الطائف يدافعون في الواقع عن أمرين:

1ــ الأحكام التي طبّقت وأدخلت في الدستور ويخشون من تعديلها بالطرق التي يعدّل بها الدستور، فتأتي التعديلات مخالفة لما اتفق عليه في الطائف.

2ــ الأحكام التي لم تطبّق حتى الآن والمذكورة آنفاً، وهي أحكام ضرورية لكونها قد أتت ضمن إطار إصلاحات شاملة أعقبت الفوضى التي كانت سائدة في لبنان خلال الحرب. لكن هذه الإصلاحات ليست مقدّسة لكونها لا ترتبط بحالة البلد التي كانت سائدة قبل الطائف.

تجوز مقارنة الاتفاقين من حيث أن كلاً منهما أوقف نزاعاً داخلياً وفرض قواعد يجري على أساسها إنتاج سلطة. اللبنانيون لم يتوقّفوا عن استخدام السلاح في ما بينهم والوقائع تشهد على ذلك ولم تؤثر فيه. فمثلاً صلاحيات المحافظين والقائمقامين لن تؤثر في السلم الأهلي إذا وسّعت أو ضيقت، كذلك إصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني وإصلاح أوضاع الجامعة اللبنانية.

ثالثاً: أما بالنسبة إلى أحكام اتفاق الدوحة، فقد طبّقت منها ثلاثة بنود، هي انتخاب رئيس الجمهورية وتأليف حكومة وحدة وطنية وإقرار قانون القضاء وإجراء الانتخابات على أساسه. وما بقي من أحكام هو تعهد الأطراف الامتناع عن أو العودة إلى استخدام السلاح أو العنف بهدف تحقيق مكاسب سياسية، وحظر اللجوء إلى استخدام السلاح أو العنف أو الاحتكام إليهما في ما قد يطرأ من خلافات، ووقف استخدام لغة التخوين أو التحريض السياسي أو المذهبي.

ويمكن الاعتبار أن وضع هذه الأحكام أتى نتيجة حالة الفوضى التي كانت سائدة في لبنان قبل الذهاب إلى اتفاق الدوحة، وبالتالي، فإن هذه الأحكام على درجة عالية من الأهمية، وأيّ مخالفة لها تلزمنا بالعودة إلى تطبيق روحية الأحكام التي طبّقت وهي التوافق. وتالياً، إذا ثبت أن اللبنانيين ما زالوا يعتمدون لغة التخوين السياسي والمذهبي في ما بينهم، ويلجأون إلى استخدام السلاح والعنف، فإن تطبيق روح اتفاق الدوحة يصبح ملزماً.

رابعاً: أثبت اللبنانيون منذ اتفاق الدوحة أنهم لم يتوقّفوا عن استخدام السلاح في ما بينهم والوقائع تشهد على ذلك.

خامساً: أثبت اللبنانيون أنهم لم يتوقّفوا عن استخدام لغة التخوين السياسي والمذهبي، وقد تجلّى ذلك قبل الانتخابات النيابية وخلالها وبعدها.

خلاصة القول، إن اتفاق الطائف طبّق في جزء منه من خلال إدخاله في الدستور. وبالنسبة إلى الجزء الآخر فليس هناك من مانع من إدخاله في الدستور، أو حتى تعديله لأنه لن يؤثّر في السلم الأهلي، والدليل على ذلك عدم إدخاله في الدستور على الرغم من مرور عشرين سنة على إقراره.

أما ما بقي من اتفاق الدوحة فهو ما زال ملزماً ويلزم باستمرار تطبيق ما كان قد اتفق عليه، ولأن الظروف التي حتمت توقيعه ما زالت قائمة، وتالياً فإن حكومة الوحدة الوطنية ما زالت إلزامية بموجب هذا الاتفاق، وعلى رئيس الجمهورية أن يبقى رئيساً توافقياً، وعلى اللبنانيين الالتزام بباقي بنود الاتفاق.

 

التاريخ: 
الاثنين, أكتوبر 12, 2009
ملخص: 
رأي المجلس الدستوري هو أنه ما دامت كل أحكام الوثيقة لم تُدرج في متن الدستور أو مقدّمته فإنه لا يمكن أن يكون لهذه الأحكام أي قيمة دستوريةوعلى الرغم من قرار المجلس الدستوري هذا، فإن العديد من السياسيّين يدافعون عن اتفاق الطائف ويعدّونه “أمانة وطنية وقوم