إتفاق الطائف في العشرين من عمره
كان لاتفاق الطائف الذي اكمل قبل بضعة ايام عامه العشرين دور كبير في إنهاء الحرب في لبنان وفي حل الميليشيات العسكرية واعادة بناء هيكل الدولة اللبنانية وتعويد الناس الديموقراطية من جديد وإن من خلال الانتخابات فقط في اقامة نوع من الشراكة المتساوية بين المسلمين والمسيحيين في نظام الحكم ونوع من التوازن بين الطوائف اللبنانية ولا سيما الكبرى منها وفرض امن افتقده اللبنانيون سنوات طويلة وتحرير لبنان من اسرائيل والافساح في المجال امام اطلاق ورشة اعادة بنائه بعد حروب التدمير المنهجي والمتعمد. وهي ما كانت لتبدأ ولتنفذ على الاقل في معظمها لولا همّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونشاطه وقدرته وطموحه واحلامه وتعلقه بلبنان دولة مستقلة عربية.
لكن اتفاق الطائف هذا لم يحقق كل الآمال التي علقها عليه اللبنانيون. أولاً، لان قسماً مهماً من مضمونه لم ينفذ الى الآن. وثانياً، لأن ما نفذ منه كان مشوهاً حيناً ومجتزأ حيناً آخر. وثالثاً، لأن السببين المذكورين حوّلا اللبنانيين الذين كانوا منقسمين شعبين واحداً مسيحياً وآخر مسلماً، شعوباً ينتمي كل منها الى طائفة او مذهب. في حين ان هدفه كان توحيد "الشعبين" تمهيداً لتوحيد الوطن. علماً ان مدة عشرين سنة تعتبر كافية، لو كانت النيات عند اللبنانيين واشقائهم واصدقائهم في المجتمع الدولي صافية ولو كان هدفهم الفعلي من جمع البرلمانيين اللبنانيين في الطائف وقف حرب لبنان وانهاء مأساته وليس اطفاء نار ساحته تلافياً لتأثيرها السلبي على المنطقة مع الاستمرار في حيازة القدرة على اشعالها من جديد اذا اقتضت المصالح ذلك.
ما هي البنود او الموضوعات المهمة في اتفاق الطائف التي لم تنفذ والاخرى التي نفذت شكلاً وعلى نحو لا يراعي مضمونها والهدف منها بل لا يحترمها؟
يمكن تلخيص اهم ما لم ينفذ منها وما نفذ جزئياً بالآتي:
في المبادئ العامة لم يكن لبنان "وطناً سيداً حراً مستقلاً" والممارسة السورية في لبنان المباركة لبنانياً وعربياً ودولياً منذ توقيع الطائف تثبت ذلك. والدليل هو اجماع اللبنانيين على اعتبارها اما وصاية او احتلالاً او ادارة مباشرة. الا ان احداً بمن فيهم حلفاء سوريا لم يعتبرها عملياً مساعدة لبنان دولة الاستقلال بل لبنان الدولة التابعة لدمشق. وفي المبادئ نفسها لم يكن الشعب عملياً مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية. وفيها غاب الإنماء المتوازن رغم الجهد الكبير الذي بُذل ولم تتحقق العدالة الاجتماعية بل ربما يكون تفاقم الظلم الاجتماعي. ولم يتمكن مجلس النواب من وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي. ولم يستحدث مجلس شيوخ بعد اول انتخاب نيابي غير طائفي في البلاد. ولم يبدأ في الإلغاء المتدرج للطائفية السياسية ولم تؤلف الهيئة الوطنية المنوط بها ذلك. ولم يوضع قانون انتخاب نهائي وإن قبل الغاء الطائفية ويبدو ان ذلك ينتظر اعادة نظر في التنظيم الاداري للبنان (تحديد المحافظات) وهو ما لم يتحقق الى الآن. وتدهور التعليم الرسمي من ابتدائي وتكميلي وثانوي وجامعي. وبدأ التعليم الخاص يتدهور عبر تفريخ مدارس وجامعات "ليس معروفاً اصلها من فصلها". ولم ينظم الاعلام على تنوعه بطريقة تخدم التوجهات الوفاقية وتنهي حال الحرب. وعلى العكس من ذلك صار الاعلام بعد الطائف البديل الاول من الميليشيات والعسكر في الحرب الاهلية التي لا تزال مستعرة وإن سياسياً. ولم تطبق اللامركزية الادارية الموسعة ربما لان كل فريق لبناني يريد مضموناً لها مختلفاً عما يريده الآخر او الآخرون. وليس معظم هذه المضامين ضامناً لوحدة لبنان وللمساواة والتكافؤ بين ابنائه او بالاحرى بين شعوبه. واستمرت القوات السورية في كل لبنان رغماً من ارادة معظم ابنائه قرابة 13 سنة زيادة عن السنتين اللتين كان يفترض ان تنسحب بعدهما الى البقاع حيث الخطر الاسرائيلي عليها اكبر. علماً ان "شروط" الانسحاب او اعادة الانتشار كانت نفذت كلها مثل "المصادقة على وثيقة الوفاق الوطني وتشكيل حكومة الوفاق الوطني واقرار الاصلاحات السياسية في صورة دستورية" والاقرار تم. ولم ينص الطائف على التنفيذ كما قالوا عندما تذرعوا بأن الانسحاب لن يبدأ قبل الغاء الطائفية السياسية او البدء بالغائها. ولم تقم علاقة مميزة ولكن متكافئة بين لبنان وسوريا. والدليل ليس فقط الممارسة السياسية والامنية والعسكرية والاقتصادية اليومية بل هو ايضاً "النصوص" التي عكست ميزان القوى غير المتوازن بين بيروت ودمشق اكثر مما عكست اخوة "بلدين مستقلين يعيش فيهما شعب واحد".
طبعاً ربما تكون هناك نواقص كثيرة في هذه العجالة وخصوصاً من حيث الإحاطة بدقة بكل ما نفذ وما لم ينفذ وما نفذ جزئياً ومشوها من اتفاق الطائف. لكن اللبنانيين. يعرفون كل شيء بالتفاصيل يبقى ان المهم هو السؤال الآتي: من هو المسؤول عن عدم تنفيذ اتفاق الطائف؟
اللبنانيون، يحمّل بعضهم سوريا مسؤولية كل ذلك. وهو محق. ويحمّل بعضهم الآخر "العرّابين" العرب للاتفاق وفي مقدمهم السعودية ذلك لانسحابهم من الميدان مخلين اياه لسوريا. وهو محق. ويحمِّل بعضهم الآخر العراب الدولي للاتفاق اي اميركا مسؤولية ذلك لانها اتفقت مع سوريا على قضايا اساسية واستراتيجية في مقابل ترك لبنان لها فعلياً وليس رسمياً، والموافقة على اقصاء العرب الآخرين عنه، وهو محق. لكن الإنصاف يقتضي ليس الاشارة بل التأكيد ان المسؤولية الاولى في عدم تنفيذ اتفاق الطائف اولا وتالياً تطويره اذا دعت الحاجة تقع على اللبنانيين الذين انقادوا الى غرائزهم الطائفية والمذهبية والى قياداتهم المهتمة بمصالحها وطموحاتها والمستعدة للتعامل مع اي شيطان يؤمنها لها ويحميها.
هل ينجح اللبنانيون في استكمال تطبيق الطائف؟
لا يستطيعون ان يحققوا ذلك في ظل تحولهم شعوباً ومجتمعات ومحميات اقليمية ودولية. ولا يستطيع الخارج ان يفرض عليهم ذلك او ان يقودهم الى اتفاق آخر كما حصل عام 1989 لأن اطرافه في اوج تواجههم ولأن لبنان هو احدى ابرز ساحات المواجهة هذه.