مئوية لبنان الكبير: تجربةٌ آيلة إلى أفول
يروى إنه عندما قابل البطريرك الحويك الرئيس الفرنسي كليمنصو وطالبه بحدود لبنان الكبير الحالية، أجابه الأخير أنه يجدر إما إبقاؤه صغيرًا، أو الذهاب إلى الاندماج مع سوريا الحالية. أصرّ الحويك على طرحه، فكان له ما أراد.
أول أزمة كيانية ألمّت بلبنان الكبير كانت لجوء فلسطينيي ١٩٤٨ إليه مع ما عنته هذه النكبة من ضغطٍ سياسي واجتماعي وأمني على لبنان، فاستيقظ الشعب المسيحي على واقعٍ ديموغرافي جديد لم يعد فيه أكثرية مرجّحة.
لم تمضِ عشر سنوات حتى اندلعت ثورة ١٩٥٨ تحت راية الرئيس المصري جمال عبدالناصر مدعومًا حينذاك من الاتّحاد السوفياتي. هذه المرّة انتفض الشعبان السنّي والدرزي بشكلٍ واضح ضد الحكم المسيحي وتمّ إجهاض مشروع الرئيس كميل شمعون، والإتيان برئيسٍ جديد هو الأمير فؤاد شهاب الذي أقل ما يقال فيه إنه كان حالة وسطية سطّرت انتهاء هيمنة المارونية بشكلها التأسيسي وانتقال الجمهورية إلى توازنات جديدة، قائمة على التوافق والتراضي لاسيّما على المستويين الأمني والسياسي.
بعد مضي نحو عشر سنوات وتحديدًا سنة ١٩٦٩ قام الشعب السنّي بالاشتراك مع الزعيم كمال جنبلاط بممارسة ضغوط هائلة إلى درجة التهديد بالحرب الأهلية توصّلًا لاتّفاق الإذعان أي اتّفاق القاهرة الذي خوّل الفلسطينيين التسلّح والتنقّل على الأراضي اللبنانية ضاربًا بعرض الحائط مبدأي السيادة والاستقلال. (في هذا الصدد يمكن مراجعة كتاب الصحافي أنطوان سعد "مسؤولية فؤاد شهاب عن اتّفاق القاهرة، دار سائر المشرق.)
هذا الاتّفاق الرهيب، كما كان توقّع الوزير السابق فؤاد بطرس، عندما سأله الرئيس شارل حلو رأيه حول قبول الاتّفاق: إما تقبل به الآن فتندلع الحرب بعد 5 سنوات، أو ترفضه فتندلع الآن (وفق ما ورد في مذكّراته الصادرة عن دار سائر المشرق)، مهّد لحرب ١٩٧٥ حين اندلع الاقتتال الوحشي بين الشعوب اللبنانية (كلمة الشعوب اللبنانية مقتبسة من الصحافي سركيس نعّوم وهي معبّرة في معانيها) والتي انتهت بشكلٍ درامي بالنسبة إلى الشعب المسيحي الذي خرج منها مهزومًا ومهجَّرًا ومنكوبًا.
بعدها بدأ العصر السوري بكلّ وهجه متّكئًا على الثلاثي برّي، وجنبلاط والحريري الذي أدّت جريمة اغتياله إلى أفول العصر السوري، وقد حاول الشعب السنّي حينذاك الإمساك بزمام الأمور في البلد إلّا أن سلاح الشعب الشيعي حينذاك كان له في المرصاد، فدخلنا بعد عملية ٧ أيار الشهيرة بالعصر الإيراني ومرتكزه تحالف حزب الله والتيّار الوطني الحرّ.
اليوم يشهد لبنان انهيارات دراماتيكية غير مسبوقة في تاريخه تطاول الاقتصاد والمال والمصارف والطبقة السياسية وربما الأمن. لأول مرة أيضًا في التاريخ الحديث بات الاقتصاد اللبناني يتماثل مع الاقتصاد السوري، وأصبحت الفرادة اللبنانية أي المدرسة والمستشفى والجامعة بحالة خطر وجودي.
سقوط الفرادة اللبنانية إذا حصل، بعد صمودها بوجه عبدالناصر والحرب الأهلية وياسر عرفات وحافظ الأسد، سيسطّر بالتأكيد نهاية الشعب المسيحي في لبنان المنهك أصلًا بالهجرة والتناحر الداخلي والإفقار الممنهج منذ سنة ١٩٩٠، والإخراج من معادلة الحكم.
تعود وتطرح من جديد أفكار الفدرلة في الكيانات السياسية الثلاثة ونعني بذلك العراق، سوريا ولبنان كحلٍّ لمشكلة التنوّع الطائفي والثقافي والشعوبي. هذا الحلّ طرحته الجبهة اللبنانية خلال الحرب الأهلية ورفضته الشعوب السنّية والشيعية والدرزية. ومع هزيمة المسيحيين سنة ١٩٩٠ بقيادة التيّار العوني أصبحت الفدرالية طرحًا من الماضي السحيق لا يهمس به إلّا بعض المثقّفين المسيحيين بخجل وهيبة.
من الواضح أن اندثار المسيحية من الشرق هو أولًا قرار إسلامي من حرب الجزائر ومسألة "الأرجل السود"، إلى تهجير الجالية اليونانية التاريخية من مصر من قبل عبدالناصر وسياساته، إلى تهجير مسيحيي العراق، وقد اشترك بتهجيرهم الشعب الشيعي، كما السنّي، إلى حرب لبنان الشهيرة. ولم يتبقَّ من هؤلاء المسيحيين إلّا حفنةً في سوريا وبلد الأرز.
إذا كان قرار تهجير المسيحيين من الشرق قرارًا إسلاميًا بالدرجة الأولى، فهو يشكّل أيضًا مصلحة إسرائيلية، أولًا لضرب النخب العربية وفكرة العروبة بشكلٍ عام، وثانيًا لفتح الأبواب مشرّعة أمام الصراع الدموي بين الشعبين الشيعي والسنّي.
كما أن بقاء المسيحيين أو عدمه في الشرق لم يعد يشكّل مسألة مهمّة لأوروبا التي تشرّبت الأفكار العلمانية، وهي لا تمانع باستيعاب هؤلاء المسيحيين ضمن دولها.
هل تكون اليوم الفدرالية حلًّا لشعوب المنطقة من العراق إلى لبنان؟ في ما يتعلّق ببلد الأرز يبدو أن المسيحيين عاجزين عن إعادة إنتاج زعامة مدنية أو دينية باستطاعتها مواكبة تحدّيات بهذا الحجم. فالوضع المسيحي مفكّك وهو يدور في فلك قوى أخرى، ولا يبدو أن لديه الاستقلالية والإرادة اللازمتين لإدارة موضوع بهذه الضخامة. في حين أن الشعب الدرزي موجود بحالة اندثار ديموغرافي وعزلة ووهن لم يسبق لها مثيل في تاريخه. فهل يتحوّل الشعب السنّي في لبنان إلى رافعة لطرح مسألة الفدرالية بعد أن كان أشدّ مناوئيها؟
يعلم السنّة جيدًا أن مناطقهم الأساسية باتت مهدّدة من قبل الشعب الشيعي، لاسيّما بيروت التي يخشى أن يتمّ تشييعها كما حصل في بغداد ودمشق. في حين أن مدينة صيدا محاصرة كما القرى السنّية في البقاع الشمالي والأوسط. لذلك يرى بعض المراقبين أن النظام الفدرالي حلّ للشعب السنّي الذي يحتفظ بهذه الطريقة بانتشاره على الأرض اللبنانية وبوجوده في عاصمة القرار. وقد سبق لرئيس تحرير صحيفة اللواء البيروتية أن تطرّق لهذا الموضوع في افتتاحيةٍ له قبل سنوات قليلة.
قد تكون الفدرالية حلًّا لكنه قد يتحوّل إلى مشكلة في حال أصرّ الشعب الشيعي على أخذ كلّ لبنان، كما حصل في الماضي السحيق حين رفع الرئيس بشير الجميّل شعار ١٠٤٥٢ كم٢، فدفع حياته ثمنًا لطرحه.
أيًا تكن الحلول أو المشاكل التي ستواجه لبنان وشعوبه إلّا أنه بات من المحسوم أن اتّفاق الطائف مات وشبع موتًا وأن الجمهورية إلى أفول، وأن هذه الحكومة لن تحكم، وأن مصير البلد على كفّ عفريت، وأن لا وجود لرجالات تاريخية تسهر على مستقبلها، وأننا كسفينة من دون ربّان وسط محيط هائج. لبنان ما قبل ١٧ تشرين الأول لن يعود، ورجاله إلى قعر التاريخ الأسود.