الرئاسةُ بينَ دورَي "التحكيم" و"الحكَم"
في حديث إلى صحيفة "الحياة" الصادرة في 28 أيلول الماضي، نفى رئيس الجمهورية ميشال سليمان وجود تعطيل سوري أو إيراني في لبنان من جهة وأكد أن عدم توزير الراسبين ليس مبدأً دستورياً، وأنه إذا كان عرفاً فقد تم خرقه مرات عدة من جهة ثانية.
صدمةٌ أكثرية وتمترسٌ أقلّوي
كان لهذه المواقف الرئاسية مفعول "الصدمة" في عدد من أوساط الأكثرية التي رأت فيها نفياً للعرقلة الإقليمية و"تبرئة" لسوريا وإيران منها من ناحية وإستجابة لتوزير راسبين في الانتخابات خلافاً لـ"القاعدة" المتبعة في أول حكومة تلي الانتخابات من ناحية أخرى.
وزاد "الطين بلّة" أن قوى ضمن فريق 8 آذار "مترست" خلف تلك المواقف الرئاسية، فاعتبرتها مواقف مزكّية لمطلبها توزير راسبين، كما إعتبرت أن تلك المواقف إذ تنفي العرقلة السورية الإيرانية، إنما تؤكد أن المشكلة "محلية" وأن الأكثرية تقف وراء هذه المشكلة، داعيةً إلى إعتماد ما قاله الرئيس سليمان سبيلاً إلى حل المشكلة.
زوّار بعبدا: تسهيل مهمة الحريري
إلى أن كان بعد ذلك تفسير للمواقف الرئاسية من جانب زوّار لقصر بعبدا "نقلوا" عن الرئيس قوله إن المواقف التي أدلى بها انما كانت بغاية وحيدة هي تسهيل مهمة الرئيس المكلف سعد الحريري، ونقلوا أن الرئيس "أراد" أن يقول إن شيئاً لن يقف في وجه إنجاز الرئيس الحريري مهمة تشكيل الحكومة، وإن رئيس الجمهورية تسهيلاً لعمل الحريري مستعد لأن يغطي بنفسه توزير راسبين إذا كان ذلك يساعد على قيام الحكومة في نهاية المطاف، سيما أن الرئيس سليمان كان هو نفسه يعترضُ على توزير راسبين.
إن المقصود قولُه مما تقدم هو أن مواقف "واحدة" للرئيس كانت لها ثلاث قراءات "على الأقل" بين أوساط في الأكثرية وقوى في الأقلية وزوّار لبعبدا.
قد يكونُ الأمر طبيعياً هكذا من وجهة نظر عديدين. أي أنه ليس جديداً أن تكون لموقف واحد عدة "ترجمات".. لولا أن الأمر يتعلق برئيس الجمهورية وبمواقف رئيس الجمهورية.
المسألة الحكومية عند "مفصل"..وكذلك "التحكيم"
هنا بالتحديد دار نقاشٌ في الأيام القليلة الماضية، منطلقُه موقع الرئاسة ودور الرئيس، لا سيما أن مسألة تأليف الحكومة، بحسب جميع البيئات السياسية تقريباً، تجتاز هذا الأسبوع مفترقاً مفصلياً وقد إستكمل الرئيس المكلف فضلاً عن الإستشارات النيابية إتصالات سياسية مكثفة.
في إعتقاد العديد من المتناقشين أن الخطاب الرئاسي "الإجمالي"، خصوصاً في مراحل التأزم ولحظات إشتداده، ومن ضمنه مثلاً ما أدلى به إلى صحيفة "الحياة" الأسبوع الماضي، إنما ينتمي إلى نوع من "التحكيم" حيث يُظهر الرئيس مَيلاً إلى "تسجيل" ملاحظات أو وقائع ليست في صالح أحد الفرقاء حيناً وليست في صالح فريق ثانٍ حيناً آخر، أو إلى "تسجيل" توجه "توليفي" أو "توفيقي" في مناسبة أو أخرى.
وإذا كان المتناقشون يرون أن في ذلك قدراً من الإنسجام مع "توافقية" الرئيس، ومع كونه على مسافة من الجميع، فإن ما يخشون منه هو وقوع هذا النوع من الدور التحكيمي في دائرة ما يمكنُ تسميتُه "التآكل"، خصوصاً في ظل الهجمة التي يتعرّض لها الرئيس ودوره، من جانب فرقاء في 8 آذار المحلي والإقليمي على حدّ سواء، وهي هجمةٌ سبقت المواقف الرئاسية الأخيرة، واتخذت صيغاً "شكلية" عدة لكنها حملت رسالة واحدة، هي مطالبة رئيس الجمهورية بـ"الإنعطاف" نحو فريق الأقلية.
الولاية و"المفترق"
بكلام آخر، يبدو للمتناقشين أن ولاية الرئيس سليمان أي رئاسته تدخلُ في هذه الفترة نوعاً من "المفترق"، لأن الحكومة العتيدة هي الحكومة الأولى "الفعلية" في ولايته على إعتبار أن الحكومة السابقة حكومة تصريف الأعمال حالياً تقررت صيغةً وتوازناً في الدوحة من جهة، ولأن ثمة ضغطاً 8 آذارياً يتعرض له من جهة ثانية.. ولأن البلد أمام مرحلة إقليمية ومحلية مختلفة من جهة ثالثة.
من "التحكيم" إلى "الحكَم"
وبدخول رئاسة سليمان نوعاً من "المفترق"، يبدو أن الحاجة ماسة إلى دور تحكيمي مختلف. أي أن الحاجة ماسة بهذا المعنى إلى الإنتقال من "التحكيم" بالمفهوم الأكثر "تقنية" إذا جاز التعبير إلى "الحكَم" بالمفهوم الأكثر سياسية ودستورية أي أن المطلوب الإنتقال من التحكيم حيث يكتفي الحكَم بتسجيل الإتفاق أو بتسجيل الإختلافات والمخالفات إلى الحكَم حيث يمارس "البتّ" في إطار مرجعيتي الدستور والميثاق.
لفترةٍ من الزمن، كان 8 آذار المحلي والإقليمي يريدُ للرئيس التوافقي أن يكون "صليباً أحمر" أو "هلالاً أحمر" لكنه منذ مدة يضغط ليحوّل الرئيس إلى فريق. أما بالنسبة إلى الأكثرية، فقد عبّرت منذ انتخاب الرئيس توافقياً عن قناعتها بدور الرئيس الحكَم الذي يبتّ بالضبط لأنه حامي الدستور. وأكثر من ذلك، هي لم تتوانَ عن إطلاق كل المبادرات الآيلة إلى تعزيز دور الحكَم بما في ذلك تمكين الحكَم من "الترجيح"، ما يفيد أن موقع الرئاسة ودورها يعنيانها تماماً.
إذاً، مع إقتراب المسألة الحكومية من موعد مفصلي، من المفترض أن يخطو دور الحكَم لرئيس الجمهورية خطوات أساسية إلى الأمام، أي أن تخطو "الوظيفة الرئاسية" مزيداً من الخطوات الأساسية في إطار الدستور.