حرب الألف سنة..
حين قرر الشاب وليد رعد مع رفاقه في حراك مدينة طرابلس، بداية شباط 2020 التوجه إلى مدينة جونية للتظاهر، كامتداد لانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، لم يخطر بباله انه سيتعرض للضرب المبرح والإهانة والشتائم من قبل مرافقين للنائب زياد أسود بحجة: "إنك ابن طرابلس وشو جاية تعمل بكسروان؟".
ولم يخطر ببال وليد أيضاً أن رد الفعل على هذا التصرف الطائفي العنصري، سيكون بتظاهرات ووقفات احتجاجية مضادة مستنكرة شملت أغلب مدن وساحات لبنان، رفضاً للتفريق بين اللبنانيين، وتمسكاً بالوحدة والعيش المشترك.
صحيح أن السلطة السياسية الحاكمة، الممثلة باتحاد المقاولين السياسيين اللبنانيين، عادت ونجحت في إجهاض انتفاضة الشعب اللبناني الفريدة، عبر ظروف مؤاتية، وتطورات خدمت هدف تفريق الانتفاضة، تقدمتها إجراءات التصدي لجائحة كورونا.. لكن الباقي من آثار الانتفاضة، أن فئات واسعة من الشعب اللبناني استعادت وأثبتت في لحظة تاريخية فريدة النقطة المركزية والمحورية التي قام عليها لبنان الحديث، وهي ليست عابرة أو ضعيفة، هي أن العيش المشترك الإسلامي المسيحي هو أساس لبنان.
تراجع خطوات انتفاضة شابات وشباب لبنان أُتبعت على الفور باتجاهين مرادفين متلاصقين مع استعار الأزمة السياسية.
الأول، ويتمثل بمحاولات مستميتة لدفع الخلاف السياسي والدستوري باتجاه استعادة النزاع الطائفي الإسلامي المسيحي الانشطاري إلى قسمين متواجهين. والثاني، تصاعد أصوات في أكثر من شكل ومناسبة تقول بضرورة البحث عن صيغة أخرى للنظام السياسي، كبديل عن أزمة نظام الجمهورية الثانية المركزي، الذي قام بعد الاستقلال الأول وتجدد بعد اتفاق الطائف، عبر الدعوات إلى قيام نظام فيدرالي بخرائط ملونة وإطلالات إعلامية مدروسة.
يستند الترويج للنظام الفيدرالي إلى الفشل المتنامي لتجربة الحكم الحالية وأزمته المتفاقمة. لكن أصوات الدعوة إلى الفيدرالية في لبنان تستند إلى عدة نماذج ومرتكزات واهية وضعيفة تتمثل بتجربتين:
الأولى، هي التجربة السويسرية في الحياد ونظام الكانتونات. والثانية هي التجربة الفدرالية للولايات المتحدة الأميركية أقوى دول العالم.
لقد فات دعاة هذا الاتجاه أن النظام الفيدرالي الكانتوني في كل من سويسرا وأميركا إنما جاء ليعكس واقع الحال في المجتمعين السويسري والأميركي، ويشكل حلاً متقدماً لهما، ساهم في تقدمهما وقوتهما.
بمعنى أن انتقال سويسرا إلى نظام الكانتونات مع الحياد المعلن، ساهم في حل مشكلات سويسرية معقدة، نتيجة أنها دولة محاطة بأربع دول أوروبية كبرى مؤثرة، كانت متواجهة ومتصارعة في مصالحها، وهي فرنسا وإيطاليا وألمانيا والنمسا. وقد انعكس التناحر الأوروبي لهذه الدول على الواقع السويسري الاجتماعي والثقافي، ليجد نفسه عبر حل الكانتونات في خطوة متقدمة نحو الاستقرار والنمو.
كان الواقع الاجتماعي والديمغرافي والسياسي السويسري يعيش حال صراع بين أقليات، وتجمعات من قوميات ولغات، مختلفة ومتناحرة تمثل هذه الدول ومصالحها. ولهذا، فقد أتت خطوة الحياد والعيش في كانتونات، بالتوازي مع نظام الديموقراطية المباشرة (الاستفتاء الشعبي) حلاً متقدماً لمشكلة شائكة ومعقدة.
العناصر المشتركة الأساسية المكونة للمجتمع السويسري قامت أساساً على التباعد والتناحر بين الأقليات. وبالتالي، فان نظام الكانتونات شكل حلاً تقدمياً للدولة والمجتمع السويسري وليس العكس. بمعنى أنه شكّل انعكاساً للمشتركات الجامعة في المجتمع السويسري. وهذا ما لا يصح على لبنان بأي حال من الأحوال.
نحن في لبنان من قومية واحدة، حيث تلاقى المسلمون والمسيحيون، وبعد مخاض طويل (1943 – 1990)، على عروبته ونهائيته ككيان يجمع ويضم كل اللبنانيين. لغتنا واحدة فيما ثقافتنا تنفتح وتطل على الثقافات واللغات الأجنبية الأخرى فتغنيها.
مع انفجار الحرب الأهلية بعواملها الإقليمية المضافة، عام 1975، ظهرت اتجاهات تبحث عن حلول وتفكر بالوطن الصغير. لكن سرعان ما ثبت فشلها وقصورها، في الجانبين المسيحي ثم المسلم. والشواهد كثيرة لدى الموارنة والشيعة. التيار الغالب لدى المسيحيين تقدمته بكركي، عاد وحسم خياره بخطوة تاريخية عبر الانضواء بالتسوية الوطنية الكبرى المتمثلة باتفاق الطائف وصيغة الجمهورية الثانية.
إن الفشل المتراكم والمتفجر الذي أصاب ويصيب لبنان اليوم يتصل مباشرة بفشل الممارسة السياسية والإدارية والاقتصادية لمجموعة من السياسيين، المتحدين في مصالح مشتركة. وهذا ما يجب إعادة النظر فيه والعمل على تبديله. أي إعادة النظر بنتائج تجربة القوى المافياوية الحاكمة، فيما يجنح طرح حل الفيدرالية إلى إعادة تقطيع المجتمع الواحد إلى مجتمعات متعددة وملونة، ولن يكون ذلك ممكناً إلا بالدم والدموع وتأثير البندقية والمدفع. وأي محاولة لخلق مناطق طائفية أو مذهبية صافية ومتجانسة لن تكون إلا بحد السكين، لضمان الصفاء والنقاء الطائفي والمذهبي المرتجى.
في المقارنة السريعة ومحاولة الإسقاط السويسري الكانتوني على لبنان، فإن الحل الذي شكل في سويسرا خطوة متقدمة، سيكون في لبنان حلاً دموياً ورجعياً مدمراً لما تبقى.
وما فات بعض دعاة الفيدرالية المستحدثة أن شرط الدولة الفيدرالية هو سياسة خارجية ودفاعية مركزية وواحدة. بمعنى، أنه إذا ما كانت الحرية متاحة لبعض الكانتونات إزاء بعض القضايا التفصيلية والصغيرة، فإن النظام الفيدرالي يشترط سياسة خارجية ودفاعية واحدة، يمثلها المركز، فيما أغلب مشكلات لبنان وأزماته التاريخية تفاقمت بسبب الخلافات على السياسة الخارجية واتجاهاتها في المنطقة، منذ 1958 وحلف بغداد إلى دور المقاومة الفلسطينية عام 1975، وصولاً إلى المرحلة الراهنة، بين أن يكون لبنان ضمن الإمبراطورية الفارسية الوليدة أو خارجها.
في العام 1982 كتب مراسل "واشنطن بوست" جوناثان راندل كتابه الشهير منتقداً من تحالف مع إسرائيل بعنوان: "حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي". أما الآن، وإذا ما اندفع وقوي الاتجاه الفيدرالي، فإن الكتاب المقبل سيكون بعنوان: "حرب الألف سنة حتى آخر لبناني.