رئيسُنا قبل أن يُغادر إلى ما قبل الطائف!
كلما اقتربت لحظة انتهاء ولاية الرئيس اللبناني العماد ميشال عون، تتكثف سياسة "الغموض البناء" التي يعتمدها الفريق الرئاسي، فلا يُعرف إذا كان "الجنرال" سيغادر القصرفي حال لم تتشكل حكومة جديدة، ولا يُعرف إذا كان سيبقى في أجنحة القصر وأروقته إذا تعثرت عملية التشكيل. بإنتظار لحظة الحسم الرئاسية في منتصف ليل الواحد والثلاثين من الشهر المقبل، تتعدد التصورات و”الإجتهادات” الدستورية المرتبطة بالخطوات المقبلة لرئيس الجمهورية، فمن قائل إن الحكومة الحالية غيرمؤهلة لإستلام الصلاحيات الرئاسية لإفتقادها الشرعية، إلى داع إلى التعاطي مع حكومة نجيب ميقاتي بإعتبارها “حكومة مغتصبة”، إلى مناد بأن يحزم رئيس الجمهورية قراره ويصدر مرسوما منفردا بتسمية رئيس جديد للحكومة على غرار ما فعل الرئيس بشارة الخوري عام 1952، حين كلّف اللواء فؤاد شهاب بتشكيل الحكومة إثر “الثورة البيضاء” التي قادتها المعارضة الوطنية. يتضح من خلال هذه الدعوات و”الإجتهادات”، أن إنكارا عالي المستوى لا يفصل بين مرحلتين وزمنين لبنانيين، أي ما قبل “اتفاقية الطائف” وما بعدها، وما قبل التعديلات الدستورية عام 1990، وكل ذلك يستدعي العودة إلى “الكتاب” كما كان يحلو للرئيس فؤاد شهاب أن يصف الدستور، ولكن قبل ذلك، قد يكون من المناسب التطرق إلى ما ينص عليه الدستور حين انتهاء الولاية الرئاسية، وما فعله الرئيس إميل لحود عام 2007. بحسب المادة 62 من الدستور “في حال خلوّ سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”، وفي حال التمعن في عبارة “لأي علة كانت”، عنى الأمر كل العلل والأسباب التي تؤدي إلى “خلو سدة الرئاسة” من الإستقالة إلى نهاية الولاية، ومن الوفاة إلى محاكمة رئيس الجمهورية، ولا يحدد الدستور في هذه المادة شكل الحكومة ولا كونها كاملة الصلاحيات او مبتورة الشرعية، فالهدف من إناطة صلاحيات الرئيس لمجلس الوزراء منع الفراغ في المؤسسات الدستورية، كما أنه بعد انتهاء الولاية الرئاسية يغدو رئيس الجمهورية رئيسا سابقا لا يقبض على أي من مفاتيح الحُكم. ثمة واقعة نزاعية شبيهة بالواقعة الراهنة بين الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي، جرت بين الرئيسين إميل لحود وفؤاد السنيورة، والمعروف في هذا المجال أن جفاء وخصاما كان وما زال بين الرئيسين السابقين، وطالما اتهم لحود (وأيضاً رئيس مجلس النواب نبيه بري) حكومة السنيورة بأنها “حكومة بتراء” وغير ميثاقية وغير دستورية بفعل انسحاب الوزراء الشيعة منها في الثلاثين من تشرين الأول/اكتوبر 2006، ومع ذلك حين انتهت ولاية إميل لحود في الرابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2007، غادر القصر الجمهوري تاركا لحكومة فؤاد السنيورة صلاحياته ومقاليد الحُكم، واستمرت هذه الحكومة قابضة على مفاصل السلطة حتى “تسوية الدوحة” وما أعقبها من انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو ميشال سليمان في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2008. ما يُمكن أن يُضاف في هذا الشأن، أن رئيس الجمهورية “لا يُسلّم” صلاحياته لمجلس الوزراء، بل هي تنتقل تلقائياً إليه، فعملية “التسلم والتسليم” تكون بين رئيس مغادر ورئيس مقبل، أي بين متعادلين ومتكافئين، وليس بين “رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن” وبين مؤسسة دستورية هي الثالثة في ترتيب المؤسسات. وإلى ما تقدم، فالطرح الآيل إلى تشكيل حكومة “مدعومة” بستة وزراء سياسيين، ومهما كان الهدف منها، عبر إدخال رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل إليها أم لا، فحكومة من هذا النوع، تعني حكومة من “غرفتين”، عُليا وسُفلى، الأولى تشرف على الثانية وتضبط إيقاعها. وإذا كان “واقع الغرفتين” مقبولاً ومطلوباً وضرورياً تشريعياً، كما هي حال مجلسي النواب والشيوخ في الولايات المتحدة، ومجلسي العموم واللوردات في بريطانيا وغيرهما من الدول الديموقراطية، للحيلولة دون طغيان مصالح فئوية على أخرى، فإن حكومة (سلطة تنفيذية) من “غرفتين” لا سابق لها في أنحاء المعمورة، ولا مبرر لوجودها سياسيا ولا ميثاقيا طالما أن الحكومات التوافقية التي عرفها لبنان منذ مرحلة ما بعد “الطائف” تضم مجمل القوى السياسية الفاعلة، أما إذا كان الهدف من حكومة بـ”غرفتين” ضبط التوازن الطائفي والحذر من البحث في القضايا المصيرية، فهذه مهمة مجلس الشيوخ الموجود حبرا على ورق في نصوص الدستور. وفي مختلف الأحوال، فإن مسار التأليف الحكومي المتعثر، رافقته تحذيرات من “فوضى دستورية”، ذهب معها قوم من “فقهاء الدستور” إلى تقديم “اجتهادات” تهديدية بإحتمال أن يلجأ رئيس الجمهورية إلى تسمية رئيس حكومة بديل عن نجيب ميقاتي، وفي ذاكرة هؤلاء مشهد الرئيس بشارة الخوري في تكليف اللواء شهاب بترؤس الحكومة عام 1952 مثلما سبق القول، وكذلك مشهد الرئيس أمين الجميل في تسمية العماد ميشال عون رئيسا للحكومة العسكرية عام 1988.