الطائف اللبناني بين ناريْ «المثالثة» و… «الفيديرالية»

النوع: 

 

منذ أن غادر الموفد الفرنسي جان – إيف لودريان بيروت، والتكهنات تدور حول دعوة الحوار التي تبحث فيها باريس من أجل جَمْعِ المسؤولين اللبنانيين.

ومنذ أن تم تَداوُل فكرة الحوار التي قد يحملها معه لودريان في الجولة الثانية من مهمته الشائكة، والنقاشُ يتركز حول عنوانه وجدول أعماله: رئاسة الجمهورية فقط، أم البحث في تعديلات على النظام اللبناني بتوازناته الجديدة التي أرساها اتفاق الطائف والجمهورية الثانية.

ويعكس التباين حول مبدأ الحوار ومندرجاته، نظرتين متناقضتين لمستقبل العلاقات بين المكوّنات اللبنانية في ظلّ 3 اتجاهات: واحد لا يزال تتمسك باتفاق الطائف ميثاقاً ودستوراً وحيداً، ويضم قوى مسيحية وسنية.

وثانٍ برز أخيراً ويتحدّث عن الفيديرالية، والى جانبها المطالبون بتوسيع اطار اللامركزية الموسّعة التي ذكرها الطائف، وهؤلاء جلّهم من المسيحيين.

وثالثٌ يرمي إلى تعديل الاتفاق بحيث يتجه نحو صيغة أكثر مرونة تكرّس دور المكوّن الشيعي في السلطة التنفيذية، ما يَفترض أن الداعي له هو الثنائي («حزب الله» ورئيس البرلمان نبيه بري) الذي لا يزال يرفض الاعتراف بأنه وراء هذه الفكرة التي يتّهمه بها مُعارِضوه.

ليست المرة الأولى يكثر فيها الكلام عن تعديلاتٍ دستورية، مترافقاً مع وقائع عملانية، ولا سيما في مراحل الشغور الرئاسي. لكن مع مرور الوقت يتخذ هذا الكلام طابعاً أكثر واقعية، مع تكريسِ منهجيةٍ جديدة في ممارسة «حزب الله» وحركة «أمل»، لإدارة عجلة الدولة بكل مفاصلها.

وقد كرّس اتفاق الطائف قبل 33 عاماً، المناصفة الكاملة بين المسيحيين والمسلمين، وعاود تحديد أدوار السلطتين التنفيذية والتشريعية، وعدّل دستور الجمهورية الأولى، بما يتوافق مع مرحلة انتهاء الحرب الأهلية.

فَرض تنفيذ الاتفاق في ظل الوجود السوري ممارسةً تتخطى النص الدستوري. ومعها تَكَرَّسَ دور «الترويكا» التي جمعتْ رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان، واستفاد منها رئيس مجلس النواب، الذي أخذ دوره حجماً سياسياً لم يقرّه اتفاق الطائف، خارج إطار السلطة التشريعية.

وبعد عام 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري والانسحاب السوري، ثبّت الثنائي الشيعي دورَه كقوة أمر واقع وأقرب إلى سلطة في ذاتها، مع تظاهرات 8 مارس مقابل 14 مارس، ومن ثم حرب يوليو (2006)، فازداد الشرخ بين القوى السياسية إلى حدٍّ بات من الصعب تجاوز الخلافات الحادة والانقسامات السياسية والشعبية.

لم يُنْتِجْ الحوار، الذي جرى في مجلس النواب حينها وأطاحتْ به حرب يوليو، أي تَقَدُّم داخلي، فكان اقتراحُ الحلِّ الخارجي بعقْدِ طاولة حوار في سان كلو في فرنسا عام 2007.

في هذا اللقاء بدأت الأنظارُ تتجه نحو «حزب الله» الذي قال مُشارِكون في مناقشات سان كلو، إنه طرح فكرة «المثالثة» في النظام اللبناني.

لاحقاً وبعد سنوات، أي في 2014، نفى «حزب الله» هذا الطرح، على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي رمى الكرة في الملعب الفرنسي، وكشف أن باريس هي التي طرحت الفكرة على إيران وليس العكس.

وحينها نفت الخارجية الفرنسية في شكل رسمي أن تكون وراء هذا الطرح مؤكدة تَمَسُّكها باتفاق الطائف.

لكن نصرالله عاد وجدد الكلام عن رفض الحزب طرحاً فرنسياً على ايران بالمثالثة في عام 2021، مؤكداً أن «مصلحة لبنان مع المناصفة».

ولا يتوقف معارضو «حزب الله» عند نفيه أي طرح أو نية بـ «المثالثة»، فبالنسبة اليهم ما يطبّقه الحزب عملانياً في السياسة اليومية، هو تكريس لفكرة «المثالثة» ولو من دون أن تُدوَّن على الورق.

هي التجربة نفسها التي تكررت قبل الفراغ الرئاسي الذي حلّ بعد خروج الرئيس ميشال سليمان من قصر بعبدا (2014)، وبعد خروج الرئيس ميشال عون منه (اكتوبر 2022).

والتشابُه بين الشغوريْن الرئاسييْن، أن «حزب الله» هو الذي يتولى إدارة الدفة، وإن كان هذه المرة في شكل نافر، بفعل وجود حكومة تصريف أعمال وليس حكومة قائمة في ذاتها، كما كانت حال حكومة الرئيس تمام سلام. فتحوّل بري مقرِّراً وحيداً – ومعه «حزب الله» – في رسم خريطة طريق الرئاسة الأولى، وإدارة الحكومة المستقيلة.

وهذا يعني لمعارضي الحزب أن إبقاءه على الشغور الرئاسي يهدف إلى تحقيق هدف وحيد، يترجم فائض القوة سياسياً عبر تعديل الطائف. مع ان الحزب امتلك ورقة قوية في اتفاق الدوحة (2008) هي «الثلث المعطل»، التي استخدمها حين أطاح حكومة الرئيس سعد الحريري في يناير 2011، لحظة دخوله الى البيت الأبيض.

ويسعف الحزب في هذه المرحلة، أن الشغور يتوالى في المناصب المسيحية، ما يجعل من السهل التلويح بطروحاتٍ يُفهم منها تعديل الطائف لمصلحة رسم معلم جديد للنظام اللبناني.

منذ 2007، كان ردّ معارضي «حزب الله» الوحيد هو تمسكهم باتفاق الطائف. والفريقان الأكثر تَشَبُّثاً به كانا عند المسيحيين، وفي مقدّمهم الكنيسة المارونية، ومن ثم «القوات اللبنانية» التي دفعتْ في التسعينيات ثمن موافقتها عليه.

وكان العماد عون القيادي المسيحي الذي وقف ضد الطائف وطالب بعد عودته الى لبنان من منفاه الباريسي (مايو 2005) بتعديلاتٍ عليه وتعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية.

ولاحقاً عَدَلَ التيار الوطني الحر عن مطالبته بتعديل الاتفاق، فطرح توسيع بند اللامركزية الادارية لتشمل اللامركزية المالية الموسَّعة التي رفضها الثنائي الشيعي.

ومع ازدياد حدة الخلافات السياسية قبل انتهاء عهد عون وبعده، وفرْض «حزب الله» إيقاعه على جلسات انتخاب الرئيس وتمسكه برئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية مرشحاً وحيداً، بدأتْ بعض الأصوات المسيحية تطالب بالفيديرالية، وتوسعت حلقات النقاش لتشمل إطلالات إعلامية وندوات وحملات إعلامية وأكاديمية للترويج لهذه الفكرة.

وللمرة الأولى منذ بداية الحرب اللبنانية (1975) أخذ النقاش حيزاً واسعاً من التداول في الأوساط الشعبية.

وفي المقابل، بقي المدافعون عن اتفاق الطائف، يصرّون على إنه المعقل الأخير للدولة الذي يُفترض الدفاع عنه.

من هنا كان استباق بعض الكتل السياسية الدعوات الى حوارٍ فرنسي، خشية الانجرار وراء مشاريع سياسية تعيد طرح النظام على طاولة البحث، في غيابِ أي دعْم عربي.

فاتفاق الطائف حظي بموافقةٍ عربية وبتغطيةٍ سعودية، وأي تعديل فيه، سيحتاج حُكْماً إلى تغطية مماثلة، لا تبدو ظروفها الحالية مناسبة.

لكن في ظل هجمة المشاريع السياسية حول النظام وديمومته، بات من السهل فتْح باب الاقتراحات. فبين ناريْ «المثالثة» و«الفيديرالية»، سيكون أمام المدافعين عن الطائف مهمة صعبة.

التاريخ: 
الاثنين, يوليو 10, 2023
ملخص: 
ليست المرة الأولى يكثر فيها الكلام عن تعديلاتٍ دستورية، مترافقاً مع وقائع عملانية، ولا سيما في مراحل الشغور الرئاسي. يتخذ هذا الكلام طابعاً أكثر واقعية، مع تكريسِ منهجيةٍ جديدة في ممارسة «حزب الله» وحركة «أمل»، لإدارة عجلة الدولة بكل مفاصلها