الانقضاض على اتفاق الطائف

النوع: 

 

أثارت دعوة رئيس التيار الوطني الحر والمرشح الأبرز لرئاسة الجمهورية النائب، ميشال عون، إلى تعديل الدستور، زوبعة مواقف وتصريحات لم تهدأ آثارها بعد. الردود على عون لم تأت من خصومه فقط، بل كذلك من قوى وشخصيات يفترض أنها لا تناصب عون العداء والخصومة.

حساسية دعوة عون ليس أنها تستلزم تعديلاً للدستور، فالدساتير تعدل بآلية محددة بالدستور نفسه وهي ليست جريمة، وقد سبق تعديل الدستور اللبناني الذي أقر في اتفاق الطائف مرتين.. الأولى عام 1995 لتمديد ولاية الرئيس الياس الهراوي ثلاث سنوات إضافية، والثانية عام 1998 لإفساح المجال أمام العماد إميل لحود الذي كان قائداً للجيش لانتخابه رئيساً للجمهورية.. الحساسية في دعوة عون أنها تمس بالتركيبة السياسية - الطائفية التي أرساها اتفاق الطائف عام 1989، الذي شكل خاتمة لأحزان حرب أهلية استمرت أكثر من 14 عاماً، حصدت في طريقها أرواح آلاف اللبنانيين، وتسببت بجراح لم تندمل بعد.

تعديل الدستور الذي يدعو إليه عون ليس اختراعاً، فهو طالب أن يكون انتخاب رئيس الجمهورية من خلال الاقتراع المباشر من الشعب وليس من خلال مجلس النواب كما هو حاصل الآن، وهي طريقة متبعة في الكثير من دول العالم، وربما تكون أكثر تعبيراً عن رأي الشعب وانعكاساً لمزاجه، وتحقيق رغبته. لكن هذا الواقع لاينطبق على الشعب اللبناني المؤلف من 18 طائفة مختلفة، في ظل خشية كل طائفة من سرقة الطوائف الأخرى لمكتسباتها.

من حيث المبدأ، المطالبة بتعديل الدستور ليست جريمة بل حق وربما واجب، وهو أداء ديمقراطي حضاري تسير على نهجه كل الدول المتقدمة، فكما يتطور العقل البشري ويتقدم ويتحضر، كذلك يجب أن تتطور الدساتير وتتقدم بما يتناسب مع هذا التطور.. الجريمة هي أن تكون المطالبة بتعديل الدستور لتحقيق أهواء خاصة، والوصول إلى مصالح صغيرة، بينما الأصل هو أن تعديل الدساتير يكون لتحقيق أهداف وطنية تعود بالنفع على البلاد والعباد، وليس على زيد أو عمرو من الناس.. لذلك تلجأ الكثير من الدول حين إقرار تعديلات دستورية إلى إجراء استفتاءات شعبية حولها، كي يشارك كل الشعب في الموافقة عليها أو رفضها.. فهذه التعديلات ستمس الوثيقة الأهم والأعم في حياة الدول والشعوب التي تنظم أوضاعهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. فالدستور هو الوثيقة الأم التي تضع المعالم الرئيسية للنظام القانوني للدولة، وبناء عليه تقوم جميع القوانين الأخرى، لذلك، يتعمّد المشرّعون إلى تحديد آلية صعبة ومعقدة لتعديل الدساتير، حرصاً على عدم استسهال الأمر، وسعياً لاستقرار الأمور، فالتعديلات المتكررة تنزع الهيبة والقدسية عن الدستور، وتجعله عرضة دائمة للانتقاد والمطالبة بالتعديل مرة أخرى.

لا يحتاج الأمر إلى كثير نباهة لإدراك أن دعوة عون لتعديل الدستور محاولة لتعبيد طريق قصر بعبدا الرئاسي أمامه، وهو يقوم بذلك بناء على ميزان قوى يظن أنه سيكون لمصلحته، بمعنى أبسط، يعتقد عون أنه يملك أغلبية شعبية تكفي لنجاحه في الانتخابات الرئاسية إذا حصلت الانتخابات من الشعب، ويبني حساباته على قوّته الوازنة بين المسيحيين وقوة حلفائه من الطوائف الأخرى، لكن ما غاب عن بال عون، هو أن القوى التي يظن أنها إلى جانبه ربما تختلف حساباتها.

فأن يكون عون حليفاً سياسياً لا يعني بالضرورة القبول به رئيساً للجمهورية. كما أن ميزان القوى الذي يستند إليه عون يمكن أن يتغير في أي لحظة، خاصة في بلد كلبنان، حيث لكل طرف امتداداته الخارجية التي تؤثر في قراره السياسي. فكيف سيكون موقف عون إذا تغيرت موازين القوى، وأصبحت الأغلبية الشعبية تميل لمصلحة شخصية من الطرف المقابل، هل سيدعو لتعديل الدستور مرة أخرى؟!

لعلّ الجانب المشرق الوحيد في دعوة عون لتعديل الدستور هو أنها تمنح الشعب السلطة لاختيار رئيسه دون المرور في مرحلة التسويات والطبخات السياسية التي تتم عادة في مجلس النواب، لكن ما يجب الانتباه إليه، هو أن منح السلطة للشعب يجب أن يكون مطلقاً دون تقييد.

وبالتالي، ماهو الموقف إذا اختار الشعب شخصية غير مارونية لرئاسة الجمهورية؟ فمن تجرأ على الدستور، يسهل عليه التجرؤ على العرف القائم بأن يكون رئيس الجمهورية من الطائفة المارونية، ثم لماذا يقتصر الاستناد إلى الأغلبية العددية في انتخاب رئيس للجمهورية، ولاينسحب على الانتخابات النيابية، وليصل إلى مجلس النواب من يحوز أكبر عدد من الأصوات أياً كانت طوائفهم، فطالما تم تعديل الدستور بما يخص انتخابات الرئيس، فليتعدل بما يخص المناصفة بين الطوائف في مجلس النواب..

لعلّ الأخطر في دعوة عون هو أنه يعيد خلط أوراق جرى ترتيبها لتكون تسوية ارتضتها جميع الأطراف المؤثرة في لبنان سواء كانت داخلية أو خارجية، وبالتالي لا شيء يمنع أن يفتح تعديل اتفاق الطائف شهية أطراف أخرى لإجراء تعديلات أخرى تكون لمصلحتها، الأمر الذي سيمهد الطريق لإعادة خلط الأوراق من جديد، وربما يقلب الطاولة على الجميع.

دعوة ميشال عون لتعديل الدستور حركشة بوكر دبابير، سيكون هو الأكثر تضرراً من لسعاتها.

الكاتب: 
أواب المصري
التاريخ: 
الخميس, أغسطس 10, 2023
ملخص: 
لا شيء يمنع أن يفتح تعديل اتفاق الطائف شهية أطراف أخرى لإجراء تعديلات أخرى تكون لمصلحتها، الأمر الذي سيمهد الطريق لإعادة خلط الأوراق من جديد، وربما يقلب الطاولة على الجميع. دعوة ميشال عون لتعديل الدستور حركشة بوكر دبابير، سيكون هو الأكثر تضرراً من لسعاتها