أصوات ترتفع لتقسيم لبنان: فكرة سهلة أم صعبة التحقّق؟
"تفكّك"، "تباعُد"، "مبادرات ذاتية"، "طلاق"، "تقسيم"، "انهيار المؤسسات"، "أمن المناطق"، "انفصال"... مصطلحات تنتمي إلى الحقل المعجمي لأفكار بات يُعبَّر عنها بـ"الصوت العالي" في لبنان على نطاق أوساط اجتماعية أو سياسية أو حتى شخصيات. وتنطلق هذه الأجواء من ثلاثة أبعاد، أوّلها اقتصادي نتيجة الظروف الصعبة التي تعانيها البلاد والتقلّص الحاد في دور الدولة ومؤسّساتها الصحية والتربوية والرعائية الاجتماعية وقطاع الكهرباء على السواء.
وانعكس ذلك في اتخاذ كلّ منطقة تدابير خاصة لتسيير شؤونها من خلال المولدات الكهربائية ومراكز المساعدة الغذائية والدوائية التي نظمتها الأحزاب بالتعاون مع أهالي البلدات. وتعتبر هذه المظاهر المؤشر الأول على انحسار دور الدولة الجامعة التي ارتبطت تاريخياً بقطاعات أساسية.
ويتمحور البعد الثاني حول الخلافات السياسية الجذرية التي يعانيها لبنان، وسط تعطيل مستمر للاستحقاقات الدستورية وعدم القدرة على انتخاب رئيس للجمهورية. فيما يتركّز البعد الثالث على نشاطات وندوات وتعليقات على مواقع التواصل يقوم بها بعض الناشطين الاجتماعيين، تدعو بشكل أو آخر إلى اصطفافات طائفية.
تاريخياً، ارتبطت الصيغ التقسيمية التي شهدتها الأراضي اللبنانية بمراحل نزاعات وحروب أهلية. ويقول الدكتور المتخصص في التاريخ المعاصر والحديث عماد مراد لـ"النهار العربي" إن "التقسيم يتمثّل في سلخ أي أراضٍ تاريخية تعود إلى لبنان عنه. وكان قد شكّل نظام القائمقاميتين السابق نوعاً من التقسيم نتيجة انسلاخ الأراضي التابعة تاريخياً للبنان في عهد الإمارة. وصُغّر جبل لبنان وجرى تقسيمه نتيجة الحروب الداخلية التي حُضّر لها من العثمانيين لإضعاف إمارة جبل لبنان والإبقاء على الانقسام الطائفي بين مكوّناته، فيما بدأت أول فتنة طائفية في سنة 1841 قبل أن يؤدّي الاقتتال الداخلي عام 1860 إلى وقوع 11 ألف قتيل".
وفي الانتقال إلى نظام المتصرفية، يروي مراد أن "لبنان تمتع بالاستقلالية الذاتية التي شكّلت أيضاً نوعاً من التقسيم مقارنة مع حدود لبنان التاريخية، في وقت أيّد العثمانيون تطبيقها وقضوا على حركة يوسف بك كرم بالقوّة. وشكّلت المتصرفية مرحلة ازدهار يتوق إليها أهالي جبل لبنان راهناً وسط الأزمات التي يشكّلها "حزب الله"، واتّسم عهدها بالنجاح مع دور اضطلعت به الإرساليات المسيحية على نطاق المدارس والطباعة وتجارة الحرير. وفاجأ نجاح عهد المتصرفية البعض، رغم تصغير الحدود، الذي لم ينعكس عليه سلباً، بل نجح اللبنانيون في إقامة استقلال ذاتيّ مالي وتربوي".
ويضيء مراد على "التجربة الثالثة التي شهد خلالها لبنان نوعاً من التقسيم نتيجة الحرب الأهلية، بدءاً من عام 1975، لكنها لم تترجم دستورياً ولم تعرف موافقة خارجية بل اقتصرت على أرض الواقع مع استقلال خاص يفصل بين مناطق النزاع على اختلافها. يعيش لبنان اليوم مأزقاً وجودياً لجهة أن وجه لبنان الحضاري والتاريخي والثقافي والحرّ والتعايشي القائم على علاقات تاريخية مع العالم العربي بات مهدّداً مرّة جديدة في ظلّ نمط التحكم بالسلطة الذي يتّبعه "حزب الله". ويشمل الامتعاض من طريقة تعامل الحزب على مستوى إدارة السلطة مع أقطاب سياسيين مسيحيين، يرفعون لواء السيادة ويواصلون تحذير محور "الممانعة" من أنه يُجبر بقية اللبنانيين على الطلاق وسط الفوقية والهيمنة التي يعتمدها".
الظروف اللبنانية الحالية
هل الظروف اللبنانية الراهنة شبيهة بالمراحل التي عرف خلالها لبنان تقسيماً؟ يجيب مراد أن "التقسيم كان مرتبطاً دائماً خلال المحطات التاريخية اللبنانية باندلاع مواجهات أو نزاعات أو حروب أهلية، وما دام ليس هناك أي احتدام كبير له طبيعة أمنية في مكان معيّن، فلا يمكن الحديث تالياً عن تقسيم. ولا يلغي ذلك استمرار تصاعد المطالبة بالتقسيم إذا وجدت فئات لبنانية نفسها خارج اللعبة السياسية. لكن، يحتاج الانتقال إلى صيغة تقسيمية دعماً خارجياً أولاً، مع الإشارة إلى أن الظروف الخارجية الراهنة لا تعزّز الوصول إلى صيغة تقسيمية، رغم أن هناك بعض المداولات في الأروقة الخارجية حول تقسيم لبنان إلى قسمين بين مناطق سيادية حرّة ممتدة بين بيروت والشمال اللبناني، ومناطق نفوذ "حزب الله" في الجنوب والبقاع. ويعمل لبنانيون على طرح مماثل في الخارج، إلا أن لا مؤشرات ملموسة حول أي استعداد خارجي لبحث الانتقال إلى نموذج تقسيمي".
المساحة اللبنانية
ديموغرافياً، لا يرجّح الباحث كمال الفغالي في حديث لـ"النهار العربي" أن "المساحة اللبنانية قابلة للانتقال إلى صيغة تقسيمية في المرحلة المقبلة، لاعتبارات عدّة، أبرزها انهيار البلاد ورداءة أوضاع المؤسسات والمرافق التي تحتاج تأهيلاً عاماً. وإذا كانت البنية التحتية متردية في لبنان فكيف بالحريّ العمل على تقسيمها أو بناء مرافق جديدة في وقت تحتاج المرافق المبنية إلى إعادة تأهيل؟ ويتمثل السبب الآخر في أن مساحات البلاد غير قابلة للتقسيم نظراً إلى صغر حجمها، فيما قد يكون الحلّ في اللامركزية الإدارية الموسعة وإعطاء صلاحيات للبلديات. ويتمحور السبب الثالث حول غياب إمكان الفرز السكاني الذي لا يعتبر متاحاً نظراً للتداخل الطائفي بين المناطق وغياب المساحات الجغرافية المحسوبة على فئة واحدة. وإذا كانت السلطة في المناطق تسلّم للأكثرية في حال افتراض التقسيم، فماذا عن الأقليات؟".
وفي القراءة الديموغرافية للمناطق اللبنانية وفق المذاهب، يقول الفغالي إن "محافظة عكار مكوّنة في غالبيتها من مواطنين سنّة ثم موارنة وعلويّين. وتتألف محافظة الشمال من مواطنين سنّة وموارنة وأرثوذكس أساساً. وتتنوع الفئات اللبنانية في محافظة بعلبك - الهرمل بين شيعة وسنّة وموارنة وكاثوليك وأرثوذكس. ويعيش في البقاع الأوسط والبقاع الغربي سنّة وكاثوليك وموارنة وشيعة وأرثوذكس. ويتنوع سكان محافظة النبطية بين موارنة وشيعة وسنّة وأرثوذكس ودروز. ويقطن في محافظة الجنوب سنّة وشيعة وموارنة وكاثوليك وأرثوذكس. وتضمّ محافظة جبل لبنان مواطنين من كل الأطياف والفئات. ويسكن محافظة كسروان جبيل موارنة وشيعة".
ويستنتج الفغالي أن "التقسيم شبه مستحيل راهناً وسط صعوبات تحول دون القدرة على تطبيق صيغة مماثلة، في ظلّ مؤسسات مهترئة وبلد مساحته صغيرة. وهناك مذاهب لا يمكن تحديد مساحة جغرافية محدّدة لها، بل منتشرة في كل المناطق اللبنانية وعلى امتداد خريطة البلد".