لبنان… الحَربُ الأهليَّة المُستَدامة (27): “حَميرُ” السَرَّاج!
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
أَحدَثَت الوِحدَةُ المصريَّة-السوريَّة، في مطلع العام 1958، زلزالًا مدوِّيًا في معظم أنحاء العالم العربي. كانَ من أوّلِ ارتداداته إطلاقُ الأجهزة السورية المُوالية لجمال عبد الناصر، وعلى رأسها جهاز “المكتب الثاني” الذي كان يتولّاه عبد الحميد السَرَّاج، حربًا أهلية مُصَغًّرة في لبنان صيف تلك السنة. أمّا الارتدادُ الأكبر كان سقوط النظام الملكي الهاشمي في العراق، ومعه “حلف بغداد” الذي كَرَّسه رئيس الحكومة العراقية آنذاك، نوري السعيد، لمُقاوَمةِ المَدِّ الناصري. إلّاَ أنَّ الاضطرابَ المُسَلَّح، الذي حَصَلَ في لبنان قبيل ذلك، كان الأصدقُ إنباءً عن طبيعة التطوّرات التي ما زالت ارتداداتها السرطانية سارية فوق السطح وتحته في كافة أنحاء العالم العربي.
وقبلَ الدخولِ في تلك الارتدادات، لا سيما اللبنانية منها، يجبُ تَصحيحُ صورةٍ شَوَّهَتها الدعايات الإعلامية عن الواقعِ السياسي السوري في تلك المرحلةِ الحَرِجة، وكذلك الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى سقوطِ دولةِ الوِحدة في دمشق بعد نحو ثلاثِ سنواتٍ فقط من قيامها المُدوِّي. فالحالةُ الإعلامية الدعائية الصاخبة، والتحرّكات الشعبية الواسعة، العفوية منها والمُفتَعَلة، أظهرت وكأنَّ سوريا بأسرها أرادت الوِحدة الاندماجية مع مصر الناصرية وسعت إليها. وهذا أمرٌ غير صحيح، أو هو غير دقيق وغير موضوعي، ولو أنه وَرَدَ بلسان جمال عبد الناصر، الذي كان من مصلحته الترويج لهذا الانطباع.
فالقوى السورية المُعارِضة للوِحدة مع مصر لم تكن قليلة الشأن، ومنها الأحزاب والهيئات التقليدية الساعية في حينه، (أو الراغبة من ناحية المصلحة الاقتصادية)، إلى الاتحاد مع العراق (الهاشمي). ومنها أيضًا الحزب الشيوعي السوري (اللبناني)، بقيادة زعيمه خالد بكداش، الذي كانَ فازَ فوزًا مؤزرًا بمقعدٍ في البرلمان السوري عن مدينة دمشق في الدورة الأولى من الانتخابات، لكنه غادرَ سوريا بعد إعلان الوحدة. ومنها أيضًا أحزابٌ عريقة لها مُحازِبون ومُناصِرون مثل “الحزب السوري القومي الاجتماعي”، و”جماعة الإخوان المسلمين”، وكلاهما له تمثيلٌ في البرلمان، ناهيك بتململ بعض الضباط الذين كانوا يتقبلّون على مضضٍ التخبّط السياسي بين فريقَي الوِحدة في دمشق والقاهرة. وحتّى في صفوفِ مؤيِّدي الوحدة، كان هناك فريقٌ يميلُ الى المملكة العربية السعودية (ويتموَّل منها)، اعتبرَ أنَّ الخيارَ المصري هو خيارٌ اضطراري مَرحَلي أفضل، بالنسبةِ إليهم، من الخيار العراقي الهاشمي. ومن هذا الفريق بالذات انطلقَ انقلابُ الانفصال، بتوقيتٍ سعودي على الأرجح.
كما إنَّ “حزبَ البعث العربي الاشتراكي”، الذي كانَ المُحَرِّكَ الأوّل في سوريا للوحدة مع مصر، سرعانَ ما خابَ ظنُّه وانسَحَبَ من حكومةِ عبد الناصر قبل الانفصال. وقد أعلن أمينه العام ميشال عفلق، عندما طُرح موضوع الوحدة للبحث في دمشق، أنه طلبَ من نواب الحزب في البرلمان أن يتقدّموا بمشروعِ “إقامة اتحادٍ فيدرالي” مع مصر، وليس وِحدة اندماجية كما حصل. وقد عزا بعضهم، الدفع باتجاه الوحدة الاندماجية إلى الوفد العسكري المُمَثِّل للجيش السوري.
لكنَّ وَقعَ التحوّل السوري، مع قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، كانَ أشدّ وطأةً على لبنان لكون مصر الناصرية أصبحت لها حدودٌ مفتوحة معه، بل صارت في داخله من خلال القوى المعارضة للرئيس كميل شمعون، فأخَذَ التدخّلُ في لبنان من خلال الأجهزة السورية، منحى عنيفًا من حيث الاغتيالات وتهريب مختلف أنواع الأسلحة للقوى المُعارضة.
وقد نقلَ الصحافي والكاتب البريطاني أليكس رويل (المُقيم في لبنان)، في كتابه الأخير عن عبد الناصر بعنوان “نحن جنودك”، قول عبد الحميد السَرّاج في وقتٍ لاحق:” كان لزامًا علينا أن نزيح كميل شمعون وشارل مالك بأيِّ وسيلةٍ وبكلِّ الطُرُقِ المُتاحة، وهذا ما فعلناه”.
لكن سامي جمعة، معاون عبد الحميد السَرّاج في جهاز المخابرات السوري (المكتب الثاني)، كَتبَ مَلِيًّا عن موضوعِ “الثورةِ المُفتَعَلة في لبنان” في كتاب مذكراته بعنوان “أوراق من دفتر الوطن، 1946–1961” (الصادر عام 2000 عن “دار طلاس للطباعة والنشر” في دمشق، وقد كتب مقدمته العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الأسبق)، مُعتَرِفًا بتهريبِ السلاحِ إلى لبنان عبر الحدود بقوافل من الحمير والبغال المُحَمَّلة بالسلاح والذخيرة والقنابل. ويؤكّدُ أيضًا أنَّ المخابرات السورية، بطلبٍ من عبد الحميد السَرّاج، قامت بتفجيرٍ كبيرٍ في مدينة زحلة القريبة من الحدود السورية، فتمَّ تفخيخُ حمار جرى تفجيره في عاصمة البقاع باعتبارها تميلُ إلى كميل شمعون. كذلك، قامَ سلاح الجو في الجيش اللبناني آنذاك بغارةٍ جويَّة على قافلةٍ من الحمير المُسَلَّحة (نشرت الخبر بعنوان عريض جريدة “دايلي ستار” لصاحبها الراحل كامل مروة يقول: “الطائرات تقصف قافلة من الحمير المسلَّحة”).
وجاءَ في مذكّرات سامي جمعة قوله أيضًا: “من الطبيعي أن تساعد سوريا الثوار (في لبنان) بالمال والسلاح”. كما روى قصة لقائه مع الناصري اللبناني البيروتي رشيد شهاب الدين (أحد قبضايات الأحياء في العاصمة اللبنانية)، وقالَ إنَّ السَرّاج طلبَ منهُ أن يصله مع العقيد برهان أدهم، رئيس الشعبة اللبنانية في المخابرات السورية، “لأننا بحاجةٍ إلى رجلٍ مثله”، على حَدِّ قولِ السَرّاج.
أما قوافل البغال والحمير المُحمَّلة بالسلاح فكانت تعبر الى بلدة “دير العشائر” على الحدود اللبنانية-السورية، مرورًا بسلسلةِ جبال لبنان الشرقية إلى سهل الليطاني في البقاع الغربي، ومنهُ إلى سلسلة لبنان الغربية، وصولًا إلى الشوف والمختارة، دارة الزعيم الدرزي الاشتراكي كمال جنبلاط ، قبل توزيعها على بقيّةِ المُعارضين لكميل شمعون. وكانت الشرارة التي ألهبت “الثورة” قيام أجهزة السَرّاج باغتيالِ الصحافي نسيب المتني صاحب جريدتَي “التلغراف”، و”الطيار” لتعميم الفوضى والقتال في جميع أنحاء لبنان.
طبعًا، ما كانَ لذلك الوضع أن ينشأ لولا وجود قابلية لدى الفئات اللبنانية المختلفة للتعامل مع جهات مخابراتية خارجية للاستقواء بها على خصومها في الداخل. وهذا الوضعُ ما زال قائمًا، مع الأسف، وربما بصورةٍ مُتفاقمة. وقد بقي الوضع اللبناني في عهد مخابرات فؤاد شهاب مؤاتيًا للمخابرات المصرية حتى بعد انفصال سوريا عن مصر، حسب رواية سامي شرف مدير مكتب عبد الناصر، وكاتم أسراره، كما كان يُوصف في حينه. وقد كَشَفَ شرف تاليًا قصة الخطة التي وضعها عبد الناصر بنفسه لتهريب السَرّاج من سجنه في دمشق إلى لبنان ومن ثمَّ إلى القاهرة، بعد نجاح انقلاب الانفصال، وهي عملية تمّت في العام 1962، بالتعاون مع “المكتب الثاني” اللبناني. ويؤكّد سامي شرف أنه ما كان لتلك العملية أن تنجح لولا المشاركة المباشرة للمخابرات العسكرية اللبنانية فيها، “بمعرفة الرئيس فؤاد شهاب وموافقته وبغطاءٍ كاملٍ منه”.
وبعدَ فرار السَرّاج من سجنه في دمشق، انتقل مُتنكّرًا الى دار المختارة في الشوف، حيث قضى ليلةً هناك، انتقلَ بعدها إلى بيروت حيث نزل في بيت ديبلوماسي مصري بمنطقة “الروشة”، ومنه انتقل، كما أكد سامي شرف، برفقته إلى مطار بيروت بسيارة “جيب” عسكرية كان يقودها سامي الخطيب، الضابط في المخابرات العسكرية اللبنانية، حيث جلس هو إلى جانب الخطيب في المقعد الأمامي، بينما جلس السراج وحارس سجنه، الذي تواطأ في تهريبه، في المقعد الخلفي، ويقول إنهم جميعًا كانوا يرتدون ملابس عسكرية لبنانية!