لبنان… والحَربُ الأهليّة المُستَدامة (44): حَربٌ على الأرضِ ونِزاعٌ على الأفكار

النوع: 

 

تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟

أرنيست همنغواي: “إنه أمرٌ خطيرٌ أن تُكتَبَ الحقيقةُ في الحرب”!

البُندُقِيّةُ في الميدان، والرصاص، والقتل، والخراب، والدمار في ساحات الموت.

القَلَمُ، والكلمةُ، والريشةُ واللون، في ساحاتِ الأفكار حيثُ تتصارَعُ الإيديولوجيات والعقائد.

هكذا هي الحروب، مُنذُ تاريخ الأزمنة، نزاعٌ على الأرض وصراعٌ على الأفكار. وهي كذلك في هذا الزمن، وهكذا ستبقى في كلِّ زمن.

ما مِن احترابٍ داخلي جذبَ إليه الأحزابَ السياسية، على مشاربها، والمُفكّرين، والكُتَّاب، والفنانين، والعمّال، كذلك العديد من الحكومات الأجنبية، مثل الحرب الأهلية الإسبانية، (التي نرجع إليها دائمًا، لنُماثلها، ونُقارنها، مع الحرب الأهلية اللبنانية)، ولهذه الأسباب، وغيرها، حظيت تلك الحرب باهتمامِ إعلامِ زمانها على الرُغمِ من أنَّ وسائلَ الإعلام، في هاتيك الأيام، لم تكن مُتقدّمة، ولا واسعة الانتشار، كما هو حال إعلام زماننا.

إنَّ التأثيرَ الإعلامي في الحروب الأهلية يُقاسُ بمدى قُربِ أو بُعدِ ميدانها من “قلب العالم” المُتَمَثّل، قديمًا وحديثًا، بأوروبا الغربية.

لذلك، لم تَنَل الحربُ الأهلية الروسية، التي أفرزتها الثورة البلشفية، (سبقت الحرب الإسبانية بسنواتٍ قليلة)، أيَّ اهتمامٍ إعلاميٍّ يُذكَر، كونها بعيدةً عن “المركز الأوروبي”، أو “نبض العالم”، كما كان جورج كليمنصو يُسَمّي القارة القديمة، على الرُغمِ من أنَّ الحَربَين مُتشابهتَين، إن من حيث النزاع على الأفكار، أو التدخّل الأجنبي. واحدةٌ في صراعٍ بين الشيوعية والحُكمِ القيصري الإقطاعي، وواحدة بين الجمهورية الاشتراكية والمَلَكِية الإقطاعية.

في الأولى تدخَّل الأميركيون والبريطانيون وأخفقوا، وفي الثانية تدخَّل النازيون الألمان والفاشيست الطليان ونجحوا.

الحربُ اللبنانية، مثل الحرب الإسبانية، قريبةٌ من “المركز الأوروبي”، جغرافيًا، وثقافيًا، وتكنولوجيًا. ولذلك لعبت فيها وسائل الإعلام والدعاية، الداخلية والخارجية، لجهةِ التحريض والتضليل، دورًا أساسيًا في جميع مراحلها، من انطلاقها، إلى توجّهها، وصولًا إلى تلفيقِ وتبريرِ مُجرَياتها ونهاياتها.

إنَّ “النزاعَ على الأرض” في الحرب اللبنانية، كان حاضرًا ولو استترَ في بعضِ الأحيان، ذلك أنَّ انخراطَ السلاح الفلسطيني في القتال، أثارَ شُبهةً لدى اللبنانيين من أنَّ هناكَ في الكواليس “مشروعَ الوطن البديل”، مما أعطى مسألةَ “النزاع على الأرض” أرجَحِيّةً على “نزاعِ الأفكار”، مُمثَّلًا بالبرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط.

لم تَكُن الصحف والمجلات، ولا الإذاعات، هي الوسائل الإعلامية الوحيدة التي كانت تؤرّخُ يوميات الحرب الإسبانية، إنّما وجود عدد واسع من كبارِ الكتّاب، والمثقّفين، والفنانين الوافدين من كل أنحاء العالم، انضموا إلى صفوفِ الفريقَين المُتحاربَين، وإن كان الحضورُ في الصفِّ الجمهوري أكثر عددًا وأرفع قيمةً، من الكاتب البريطاني جورج أورويل، والفرنسي أنطوان دو سان–إيكزوبيري، والألماني أريك فاينرت، وغيرهم. إلًّا أنَّ الروائي الأميركي أرنست همنغواي بقي أوسعهم شهرةً، فهو خَلّدَ تلك الحرب برواية “لمَن يُقرَعُ الجَرَس” (نُقلت إلى الشاشة الفضية ولقي الفيلم نجاحًا ملفتًا، باستثناء لوحة “غيرنيكا للرسام بابلو بيكاسو). إلّا أنَّ همنغواي تحفَّظ، إلى حدٍ ما، عن إبراز كامل حقيقة الحرب، بقوله في مقابلة صحافية حول الموضوع: “إنه أمرٌ خطيرٌ أن تُكتَبَ الحقيقةُ في الحرب”!

إنَّ الصحافيين والكُتاب الأجانب الذين كتبوا عن الحرب الأهلية اللبنانية، وأبرزهم جوناثان راندال والإيرلندي روبرت فيسك، لم يستطيعوا، باعترافِ راندال الذي زار مكاتب مجلة “الحوادث” في لندن في العام 1983 وجلس الى الحديث مع عدد من محرريها، أن يستوعبوا بصورةٍ كاملة الحالة اللبنانية التي أوصلت إلى الحرب.

ومع ذلك فإنهما انطلقا من زاويةٍ مُنحازة ضمنيًا: فيسك إلى الفلسطينيين ومنظمة التحرير، وراندال إلى بشير الجميل و”القوات اللبنانية”.

على صَعيدِ الإعلام المحلّي، كان الأمرُ مُختلفًا، لأنَّ الصحفَ اللبنانية، تاريخيًا، كثيرةُ العدد ومُتفاوِتةٌ في تَوَجّهاتها السياسية. فهناكَ بلدات ومدن عديدة في لبنان، صدرت فيها جرائد ومجلات أسبوعية وشهرية، وهي ظاهرة ملفتة في الشرق العربي. منها للتعداد لا للحصر: مرجعيون، صيدا، وطرابلس، وكفرمتى، وزحلة، بالإضافة إلى عددٍ منها في العاصمة بيروت، بحيثُ يُمكِنُ القولَ بأنَّ نسبةَ الصُحُف الصادرة في لبنان إلى عدد السكان، قبل قرن من الزمان، هي الأعلى في العالم، وربما حتى الآن.

في الحرب الأهلية (1975)، وفي المرحلة التي أسّست لها منذ سقوط الشهابية، كانت الصحافة اللبنانية “شرعة المتحاربين”. وبالتالي كانت من مُسَبِّباتها، وبعد اندلاعها، كانت الصوتُ الأعلى النافخ في نارها. فالحربُ بحدِّ ذاتها هي حدثٌ إعلامي بالدرجة الأولى. فليسَ من عَجبٍ أن يشهدَ لبنان في مرحلةِ الحرب “طوفانًا” من الوسائل الإعلامية على أنواعها، المكتوب منها والمنشور، المرئي والمسموع، المُحرّض والمُنضَبِط، والفالت والمُتَفَلّت، كلُّها أثرت ونفخت في نيران الحرب، إن بالتضليل، أو بالحشد والتحريض، أو بالمبالغة، أو بتأجير الخدمات وتضخيم، أو تجاهل، المعتركات (القتالية أو السياسية والفكرية).

بل يُمكِنُ القول بأنَّ الإعلامَ اللبناني، زرعَ بذورَ الحرب الأهلية، وكان شريكًا كامل الشراكة مع الأفرقاء المتحاربين، الذين كانَ لكُلٍّ منهم وسيلة إعلامية أو أكثر تساندُهُ، وترفعُ صوتَهُ، وتتطاولُ على خصمه، فأصبحت الصحافة رهينة قوى الأمر الواقع على الأرض، يخوضُ بعضها، البروباغندا السياسية، والحروب النفسانية، والتضليل، والإشاعات، وتزوير الحقائق وتشويهها، لمآرب مشبوهة، وبعضها القليل الآخر، لازَمَ الحياد، حتى احتجب!

من سنة 1975 إلى 1990 خرجت الصحافة اللبنانية عن كونها “صحافة تبليغ” سياسي، وثقافي، وفني، واجتماعي، فتحوّلت إلى “صحافة حرب” تُقاتل بالكلمة المُحَرِّضة، وتُلَوِّنُ حبرَها بألوانِ مَن يمدُّها بالمال. بعدما وضعت الحرب أوزارها، عاشت تلك الصحافة في غُربةٍ، وتفكُّكٍ، وضياع… فمنها ما لم يعد له أثر، ومعظم ما تبقَّى لم يعد له تأثير.

الكاتب: 
سليمان الفرزلي
التاريخ: 
الخميس, أبريل 11, 2024
ملخص: 
إنَّ “النزاعَ على الأرض” في الحرب اللبنانية، كان حاضرًا ولو استترَ في بعضِ الأحيان، ذلك أنَّ انخراطَ السلاح الفلسطيني في القتال، أثارَ شُبهةً لدى اللبنانيين من أنَّ هناكَ في الكواليس “مشروعَ الوطن البديل”،