لبنان… الحَربُ الأهليّة المُستَدامة (45): حَربٌ على الوَرَق
تتناول هذه السلسلة من المقالات موضوعًا شائكًا يتعلَّق بالأسبابِ والظُروفِ التي جَعَلَت من لبنان بؤرةً لحروبٍ أهلِيَّةٍ مُتَواصِلة مُنذُ أواسط القرن التاسع عشر الى اليوم. ويجري فيها تقديمُ الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة (1975 – 1990) على نحوٍ مُقارن مع الحرب الأهلية الإسبانية (1936 – 1939)، ونماذج أخرى من التاريخ القديم، من أجلِ استكشافِ الأسبابِ التي جعلت لبنان مسرحًا لحروبٍ أهلية مُستدامة، وبأشكالٍ مُختلفة، منها، بالسلاح والعنف، ومنها بالعنصرية والتباعُد والتنابُذ، ومنها بالسياسة وبالصراعات الإقليمية والدولية، ورُبّما بطُرُقٍ أُخرى مختلفة. كما تطرحُ إشكالياتِ التدويل الناشئة من تلك الحالة، نظرًا لارتباطِ بعض المكوّنات اللبنانية بقوى خارجية، فما العمل؟
صيف 1975.
الليلُ، ليلتها، حلَّ بثقله، ينوءُ تحتَ وابلٍ من القصف والرصاص من مُختَلَفِ أنواعِ الأسلحة، يتطايَرُ ويلتَطِمُ بكلِّ شيء، ورَجعُ صداه يدور بين الأبنية ينشُرُ الخوفَ والحذر.
آثرتُ ليلتها البقاء في مكتبي في جريدة “بيروت”، التي كنتُ أرأس تحريرها، على المغامرة بالذهاب إلى منزلي الكائن في الواجهة البحرية من منطقة “الروشة”، في “رأس بيروت”.
في صباحِ اليوم التالي، دخلَ عليَّ مُصوّرُ الجريدة، الياس الجوهري، وهو شابٌ موهوبٌ ونشطٌ من مدينة بعلبك، وفي يده صورة فوتوغرافية، قال إنه التقطها في الليلة المرعبة على تقاطع الطرق عند كنيسة مار مخايل المارونية في منطقة الشيّاح، (كانت تلك الكنيسة شهدت في السادس من شباط/فبراير سنة 2006، توقيع ما سُمي “ورقة التفاهم” بين العماد ميشال عون، رئيس “التيار الوطني الحر”، والسيد حسن نصر الله، الأمين العام ل”حزب الله”).
أصابني الدَهشُ والذهولُ في آنٍ معًا وأنا أُلملِمُ بعينيّ أدقَّ التفاصيل المطبوعة في تلك الصورة، فشعرتُ أنَّ بين يديَّ لوحةً فنيةً مرسومةً بالريشة، وليس صورة فوتوغرافية بعين الكاميرا الزجاجية.
كانت الصورة لوَلَدَين، لم يتجاوزا العاشرة، يستولي الذعرُ عليهما، وهما يحتميان عند بابِ دُكّانٍ مُقفَلٍ، من رصاصِ القَنصِ المُنهَمِر على تلك المنطقة.
إلى الجانب الأيمن من الطريق، توقّفَت سيارةُ شحنٍ صغيرة، نزل سائقها، على ما يبدو، ليجرَّ شابًا أرداه رصاص القنص.
تولَّاني إحساسٌ، هو خليطٌ من الحُزنِ والغضب. فتلكَ الصورةُ كانت تُعبّرُ عن حقيقةِ الحرب، التي هي “مقتلة الأبرياء”، الذين كلُّ ذنبهم أنهم يخرجون من بيوتهم سعيًا وراء قوت يومهم، فلا يعرفون لماذا تُدَمَّرُ بيوتهم، ويموتون على قارعةِ الطريق.
قرّرتُ، وأنا أُشرفُ على تحضيرِعدد الجريدة، أن أنشُرَ تلك الصورة المُعَبّرة، على عرض الصفحة الأولى.
بعدَ صدورِ العدد، انهالت علي الاتصالات، وقَصَدَ مكاتب الجريدة عددٌ من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء الأجنبية، يعرضون عليَّ شراء تلك الصورة، بمبلغٍ مُغرٍ، فرفضت.
وعلى الرُغمِ من مرور عشرات السنين، بمتاعبها، وهمومها، ومشاغلها، فإنَّ تلك الصورة، الناطقة، المعبِّرة، لم تفارقْ مُخَيَّلَتي، أستَحضِرُها بين الحين والآخر، وطالما ردَّدتُ في نفسي، أنه لو قُدِّر لها أن تُعرَضَ في معرضٍ عالميٍّ للصور الفوتوغرافية، لكانت عن استحقاقٍ، وجدارة، نالت الجوائز من غير مُنازِع.
من مآسي الحرب، أنَّ العينَ التي التقطت تلك الصورة بمحض المصادفة، أُغمضت إلى الأبد، فقد قُتِلَ الياس الجوهري برصاصِ قنَّاصٍ، كان على سطح بنايةٍ مواجِهة لمخيم “تل الزعتر”، للاجئين الفلسطينيين في منطقة “الدكوانة” (المتن الشمالي)، الذي كان مُحاصَرًا من مقاتلي حزب “الكتائب”، و”نمور الأحرار”، ومَن حالفهما من تنظيماتٍ مُسَلَّحة.
يومها، الاشتباكات كانت على أشدّها، فركب الياس الجوهري دراجته النارية وتَوَجّهَ إلى المُخَيِّم، لتسجيلِ المأساة الدامية بالصور، مدفوعًا بالنجاح الهائل لصورة الشِيّاح، فذهب ضحية حبّه لعمله.
في عدد الجريدة، الذي صدر صبيحة اليوم التالي، كتبتُ الافتتاحية عنه، بعنوان: “كانَ المُصَوِّرَ فصارَ الصورة”.
كانَ من المظاهر المُلفِتة لتلك المرحلة الدامية ارتفاعُ عدد المجلات والنشرات “غير الشرعية”، فتجاوز المئة، مقابل توقّف عدد من الجرائد والمجلات الشرعية عن الصدور في لبنان، فهاجرت مع محرريها شطر أوروبا، خصوصًا إلى لندن وباريس. وقد علَّلت الصحف المهاجرة أنها بانتقالها إلى الخارج، ستكون في مأمن من الحرب، وتتمتع بحريَّة أكبر. لكن سرعان ما اكتشفَ هؤلاء أنَّ الأعباءَ المالية لهذا الانتقال كانت ثقيلة إلى درجة جعلتها أشد ارتباطًا بمصادر التمويل العربية، وأنَّ الحريةَ المزعومة في بلاد المهجر كانت مجرّد وَهم، فالرقيبُ في غير بلدٍ عربي، كان يُصادر أي مطبوعة يجد أنها لا تتماشى مع سياسة حكومته، فيمنع نزولها المكتبات وأكشاك الباعة، لتزداد خسائر تلك المطبوعات، فانخرطت في الحربِ عن بُعد.
تنوَّعت الجهات التي أصدرت المجلّاَت والنشرات “غير الشرعية”، كما تنوَّعت محتوياتها، بدءًا من التعرُّض للمناوئين، وانتهاءً بمحاولة إقناع الرأي العام بصحَّة ميولها، وبأهدافِ انغماسِها في الحرب، فكأنها كانت تستكملُ القتال، لكن على الورق وبالكلمة وليس بالبندقية.
لقد وَشَت بأنَّ المُخطّطين لتلك الظاهرة، والمُحَرِّضين، والمُنفذّين للحرب الأهلية، شعروا بأنَّ السلاحَ وحده لا يكفي لتبريرِ انخراطهم في ذلك النزاع الدامي، الذي مزَّق النسيج الوطني، وبأنه لا مناصَ من الصحافة و”الكلمة” المُوَجَّهة، وسيلةً لاستجداءِ ولاءِ الناس وتأييدهم، واستقطابِ مزيدٍ من الأنصار، وتثبيت المؤيّدين، والمُريدين، والمُحازبين، والمُحاربين أيضًا، في مواقفهم، فاقتصرت تلك النشرات والمطبوعات على البيئة الضيِّقة المُحيطة بالأحزاب والتنظيمات المقاتلة، بسببِ خوفها من هبوط حرارة داعميها، وتعبهم من الحرب.
إن دلَّت ظاهرة المجلاَّت والنشرات “غير الشرعية” على شيء، فهي تدلُّ بشكلٍ واضحٍ وفاضحٍ، على أنَّ الفوضى مُتأصّلة في اللبنانيين على اختلافِ مللهم ونحلهم، فلا يتوانى كثيرون منهم عن تجاوز الأعراف، والقوانين المَرعيَّة الإجراء، وعن استباحة حقوق الآخرين متى وَهَنت سلطة الدولة أو غابت، بل أحيانًا يُصبح سلاح الأحزاب هو السلطة التي تفرض نفسها فوق القانون العام.
توقّفَت الحرب الأهلية بالسلاح بعد “اتفاق الطائف” في العام 1989، فعرفت البلاد نوعًا من الأمن، أشبه باستراحةِ المحاربين، بعد تعب، أو بعد انقطاع موارد التمويل، وإنجاز الغاية من الحرب للذين أشعلوا فتيلها من وراء الستار، ومن خارج الحدود. لكن تلك الاستراحة كانت على حساب الحريَّة، حيث البلاد كلُّها وُضِعَت تحت الوصاية السورية، التي شهدت الصحافة تحت ظلّها، حالات من القمع والكبت، نَغَّصَت عليها منافع انفلاتها السابقة، ومنها مَا انتفَعَ بطُرقٍ أُخرى.
مع خروجِ الجيش السوري من لبنان في ربيع العام 2005، نشأت في البلاد قوى جديدة، فتضاربت مصالحها مع مصالح قوى أخرى، تبعًا لسياسات داعميها في الخارج، فعادت الصحافة اللبنانية إلى سيرتها السابقة، لتؤسّس لاستدامةِ الحرب الأهلية.
في خضمِّ تلك التقلّبات، في السلم، كما في الحرب، تبيَّنَ أنَّ الصحافة اللبنانية كان هدفها الأوّل “المال” وليس “الحريَّة”. وما أعطاها صورة المدافع عن الحريَّة، كونها مُتعدّدة الولاءات لمصادر تمويلها الداخلية والخارجية، وهذا شيءٌ في المظهر لا في الجوهر.
قبل الحرب، وبعدها، ارتبطَ ازدهار الصحافة عبر احتدامِ التنافس بين مؤسّساتها بدعمٍ من الأنظمة العربية المتنافسة والمتعارضة في ما بينها. فقد استغلّت تلك الأنظمة، ومعها جهات أخرى أجنبية، مناخ “الحرية” في لبنان، للإنفاق على مطبوعات، تُعبِّر عن رأيها، في حمَّى تناحرها مع دولٍ تُنافسها وتُعارضها، فمرَّ زمنٌ على الصحافة اللبنانية تحوَّلت فيه إلى “سوق عكاظ” لتلك الأنظمة المُتعادية والمُتناحرة.
تبعًا لذلك، ما عادت الصحف في لبنان تعكسُ أو تهتمُّ بالواقع اللبناني، في وقتٍ كان يجري على قدم وساق، التحضير والتهيئة للانفجار الكبير، بل كانت تُخاطب مَن يمدُّ لها يدَ العون، لقاء التصدّي للذين يناهضونهم، من أحزاب، وعقائد، ودول، والتعتيم على الحقائق التي تفضحُ مموِّليهم.
من الطرائف المؤكِّدة لهذا الواقع، ما قاله الرئيس الراحل شارل حلو لرؤساء تحرير الصحف اللبنانية الذين زاروه في قصر بعبدا حيث رحب بهم بعبارة: “أهلًا بكم في وطنكم الثاني … لبنان”!