«الميثاقية»: بين الشرعية والدستورية
منذ أن أخذت الحكومة اللبنانية قرار حصرية السلاح بيد الدولة، بغياب الوزراء الشيعة، لم تعُد إلى بساط البحث إشكالية شرعية هذا القرار فحسب، وإنّما أيضاً مسألة دستوريّته، خصوصاً بالنسبة إلى مقدّمة الدستور التي تُعتبر، بحسب اجتهاد المجلس الدستوري، جزءاً لا يتجزّأ من الدستور.
تنصّ الفقرة «ي» من مقدّمة الدستور، على أنّ «لا شرعية لأي سلطة تُناقِض ميثاق العيش المشترك». تطرح هذه الفقرة مسألتَين: المسألة الأولى تتعلق بتحديد العلاقة بين مفهوم الشرعية (légitimité) ومفهوم الدستورية (constitutionnalité) والمشروعية (légalité) بشكل عام، طالما أنّ الفقه يعتبر أنّ الدستورية هي مكوّن من مكوّنات المشروعية:
أمّا المسألة الثانية، فتتعلّق بمعرفة متى تُعتبر السلطة غير شرعية لعلّة مناقضتها ميثاق العيش المشترك؟
بالنسبة إلى المسألة الأولى، تجدر الإشارة إلى أنّ علماء الفكر السياسي يُجمعون على أنّ الشرعية هي الصفة التي تُمنح لسلطة أو لقرار عندما يكون مقبولاً أخلاقياً من الشعب ويتوافق مع قيمه ومبادئه.
فجوهر الشرعية بحسب الفيلسوف البريطاني جان لوك (1632/1704) هو القبول الشعبي، بمعنى أنّ النفوذ والقدرة (La puissance) لا يُشكّلان وحدهما سلطة (pouvoir) يخضع لها الشعب، ما لم تستند إلى شرعية مبنية على قبول المجتمع.
أمّا مفهوم المشروعية (La légalité) أو الدستورية (La constitutionnalité)، فيتجسد في الأساس القانوني لقرارات السلطة، أي مدى احترام هذه القرارات للنصوص المرعية الإجراء. فالمشروعية، التي ترتبط بمفهوم «دولة القانون»، هي خضوع السلطة في أعمالها وقراراتها الإدارية إلى القانون تحت طائلة الإبطال من قِبل القضاء الإداري. كذلك، فإنّ «الدستورية» هي خضوع السلطة التشريعية إلى أحكام الدستور تحت طائلة الإبطال من قِبل القضاء الدستوري.
فالشرعية لا تنطوي حُكماً على المشروعية والعكس صحيح. فالقانون الذي يُقرّه البرلمان وفق الإجراءات الدستورية يُعتبر قانوناً حتى لو كان مرفوضاً شعبياً. في المقابل، قد يحدث أن تُصدِر السلطة الشرعية قرارات خلافاً للنصوص والإجراءات المعمول بها في الدولة، بالتالي لا تتصف بالمشروعية.
إلّا أنّه مع تطوّر الديموقراطية وظهور مبدأ سيادة القانون، أصبحت الشرعية مرتبطة بالمشروعية من خلال تعميم ثقافة الديموقراطية وترسيخ دولة القانون.
يتضح ممّا تقدّم أنّ الشرعية، خلافاً للمشروعية، هي مفهوم سياسي أكثر منه قانوني، ممّا يطرح مسالة تحديد السلطة المُخوّلة التصدّي للسلطة غير الشرعية ومحاربتها. للوهلة الأولى، يمكن القول إنّ التصدّي للسلطة غير الشرعية يمكن أن يتمّ إمّا عن طريق الوسائل السلمية كالتظاهرات والإضرابات، وإمّا عن طريق الوسائل الجذرية أي الثورة والمقاومة المسلّحة. فاللجوء إلى المحاكم ممكن، لكنّه يتوقف بالدرجة الأولى على وجود نصوص تسمح للقاضي الغَوص في هذا المجال السياسي بامتياز. وهذا ما قَدِمَ عليه المشرّع الدستوري سنة 1990 بإدخاله مفهوم الشرعية في مقدّمة الدستور، ممّا أدّى إلى تحويل هذا المفهوم السياسي إلى مفهوم تتقاطع فيه السياسة مع القانون. وهذا ما يقودنا إلى سؤالنا الثاني، أي معرفة متى تُعتبر السلطة غير شرعية لعلّة مناقضتها ميثاق العيش المشترك؟
للإجابة عن هذا السؤال، تجدر الإشارة إلى أنّه لا جدوى من الرجوع إلى محاضر جلسات مجلس النواب المتعلّقة بالتعديل الدستوري الناتج من اتفاق الطائف. أمّا الدكتور إدمون رباط الذي وافته المنية قبل أن ينجز دراسته لمقدّمة الدستور (دار النهار 2004)، فكل ما تسنّى له كتابته عن الفقرة «ي» لا يتعدّى بضعة أسطر خصّصها للإشارة إلى خطورة المبدأ الذي نصّت عليه هذه الفقرة، لأنّ من شأنه «أن يجعل من كل رئيس جمهورية، وكل حكومة، وكل مسؤول، مُعرَّضاً إلى الإقالة والمقاومة، إذا ما توجّهت إليه التهمة بأنّ من سياسته ومواقفه وأفعاله قد تظهر بوادر الإنقسامات الطائفية» (ص.81).
في الواقع، إنّ عملية تحديد الحالات التي تُعتبر فيها السلطة غير شرعية لعلّة مناقضتها ميثاق العيش المشترك، مشروطة بتحديد مضمون هذا الميثاق الذي وُضِع سنة 1943 وجُدِّد في اتفاق الطائف. من المعلوم أنّ هذا الميثاق، الذي يُعبِّر عن فلسفة التعايش بين الطوائف في وطن معروف بتركيبته الطائفية المجتمعية، يتجسّد اليوم بأعراف ونصوص دستورية كُرِّست في الطائف. فبالإضافة إلى ما اتُفِق عليه سنة 1943 من توزيع للرئاسات الثلاث على الطوائف الأساسية، كرّس دستور الطائف في المادة 24 منه المناصفة بين المسيحيِّين والمسلمين. كذلك، نصّت المادة 95 من الدستور على أن تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
يتضح ممّا تقدّم أنّ الميثاقية تنطوي، بالنسبة إلى المُشرع الدستوري، على المناصفة عندما يتعلق الأمر بتكوين السلطات. أمّا في ما يتعلّق بممارسة السلطة فإنّ المادة 65 من الدستور تهدف إلى الحؤول دون استبعاد أي مكوّن، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالمواضيع المصيرية. فالمادة 65 تنص على أن «يكون النصاب القانوني لاجتماع مجلس الوزراء أكثرية ثلثَيْ أعضائه، ويتخَذ قراراته توافقياً. وإذا تعذّر ذلك بالتصويت، يتخذ قراراته بأكثرية الحضور»، ما عدا المواضيع الأساسية، كالحرب والسلم والتعبئة العامة على سبيل المثال، فإنّها تحتاج إلى موافقة ثلثَيْ أعضاء الحكومة.
استناداً إلى هذه النصوص، يمكن القول إنّ حكومة الرئيس نواف سلام ميثاقية التكوين، طالما أنّ وزراء الطائفة الشيعية الكريمة لم يتقدّموا باستقالتهم من الحكومة. فجَوهر الميثاقية، هو عدم استبعاد أي مكوّن عن إدارة شؤون البلاد، طبقاً لما نصّ عليه الدستور. في هذه الحالة، تنتفي الميثاقية بانتخاب رئيس جمهورية غير ماروني أو بتشكيل حكومة من دون الطائفة السنّية.
هناك مَن يعتبر أنّ ميثاق 1943 عُقِدَ بين المسيحيِّين والمسلمين، وليس بين جميع الطوائف، ممّا يوحي بأنّ وجود حكومة خالية من الوزراء الشيعة لا يضرب الميثاقية طالما أنّها تكمن في مشاركة المسيحيِّين بشكل عام والمسلمين، بمَن فيهم الشيعة، في إدارة شؤون البلاد. إلّا أنّ هذا الرأي يمكن دحضه بما تمّ في الطائف من تدعيم لصلاحيات المجلس النيابي ورئيسه الذي ينتمي إلى الطائفة الشيعية، لأنّ المادة 53 من الدستور لحظت دوراً لرئيس المجلس حتى في عملية تشكيل الحكومة.
في هذه الحالة، تُطرَح مسألة تطبيق الميثاقية على الطوائف الأخرى. فهل إنّ الحكومة الخالية من وزراء روم أرثوذوكس ميثاقية أم لا؟ كذلك، يمكن التساؤل عن نية المُشرّع الدستوري لسنة 1990. فهل إنّ اللاشرعية هي العقوبة التي تنالها السلطة لمناقضتها ميثاق العيش المشترك، أم أنّها مُعطاة للطوائف كوسيلة من وسائل المعارضة السياسية غير المنصوص عليها في الدستور؟ بمعنى آخر هل أنّ اللاشرعية تتكوّن عندما تَستبعِد طائفة نفسها عن المشاركة في السلطة أم فقط عندما تُستبعَد هذه الطائفة عن المشاركة في الحُكم من قبل السلطة السياسية؟
يبقى السؤال حول معرفة ما إذا كان قرار حصرية السلاح، يتمتع بالميثاقية لكونه اتُخِذ بغياب الوزراء الشيعة. للجواب على هذا السؤال يجب الإشارة إلى أنّ الفقرة «ي» تنص على أنّ «لا شرعية لأي سلطة...» وليس لأي «قرار». كذلك، تجدر الملاحظة إلى أنّه لا يوجد أي نصّ دستوري يفرض الإجماع في اتخاذ القرارات. فالمادة 65 من الدستور التي تُحدِّد آلية اتخاذ القرارات داخل مجلس الوزراء تفرض، تأميناً للميثاقية، أغلبية الثلثَين لاتخاذ القرارات في المواضيع المصيرية، وهذا ما حصل بالنسبة إلى قرار حصرية السلاح. أمّا في ما يتعلّق بدستورية هذا القرار، فممّا لا شك فيه أنّ لا غبار على دستوريّته، نظراً لاتخاذه وفق آلية المادة 65 من الدستور. وتبقى مسألة الهيئة الصالحة لمراقبة دستورية هذا «القرار»، علماً أنّ المجلس الدستوري لا يراقب إلّا دستورية «القوانين». ضمن هذه الظروف، لم يبقَ إلّا مجلس الشورى صاحب الصلاحية في مراقبة الأعمال الإدارية. فهل من مصلحة في إقحام القضاء في مسائل سياسية بامتياز؟