قراءةٌ مكمّلة في مقال الميثاقية: بين الشرعية والدستورية
يُحسب للدكتور سليم الزيبق أنّه طرق باباً شديد الحساسية في الفقه الدستوري اللبناني، يتعلّق بالتداخل بين ثلاثة مفاهيم متمايزة ولكن مترابطة: الشرعية (Légitimité)، المشروعية (Légalité)، والدستورية (Constitutionnalité). هذه المفاهيم كثيراً ما يختلط استخدامها في الأدبيات السياسية، فتُوظّف وكأنّها مترادفات، بينما لكل منها مجالها ودلالتها الخاصة. تعود الشرعية إلى الأصل الفلسفي - السياسي كما عند جان لوك أو ماكس فيبر، والمشروعية إلى مطابقة الفعل للنص القانوني، أمّا الدستورية فتشير إلى الإنسجام مع النص الأعلى أي الدستور.
أولاً: في المنهجية
المقال وقع - في تقديرنا - في خلط منهجي بين البُعد الفقهي النظري وبين الخصوصية اللبنانية التي تشكّلت في ظل «اتفاق الطائف» ومقدّمة الدستور (1990). ففي حين أنّ البحث في الشرعية عند فيبر يرتبط بقبول الناس لسلطة ما على أساس التقليد أو «الكاريزما» أو القانون، فإنّ البحث في الشرعية - الميثاقية في لبنان يتجاوز هذا التعريف ليصبح قيمة دستورية مُلزمة لها قوة النصوص الدستورية نفسها. وهذا ما لم يعطِه المقال حقه.
ثانياً: في العلاقة بين الشرعية والمشروعية والدستورية
أصاب د. الزيبق حين شدّد على أنّ الشرعية مفهوم سياسي، وقد تنفصل أحياناً عن المشروعية القانونية. غير أنّه قلّل من شأن الطبيعة القانونية - الدستورية التي اكتسبتها الشرعية الميثاقية اللبنانية. فالفقرة «ي» من مقدّمة الدستور اللبناني ليست إعلاناً سياسياً أو بياناً أخلاقياً، بل نصٌ ملزِم يقول بوضوح: «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
بهذا النص، انتقلت الشرعية الميثاقية من كونها قيمة معنوية إلى شرط قانوني - دستوري يوازي في قوّته أي مادة أخرى من مواد الدستور. وقد أكّد المجلس الدستوري هذا الأمر في قراره الرقم 5/2002 حين اعتبر أنّ أي سلطة تفقد الميثاقية تفقد المشروعية الدستورية نفسها. بالتالي، فإنّ الشرعية الميثاقية لم تَعُد خارج دائرة القانون، بل أصبحت جزءاً من معايير الدستورية ذاتها، فتُقرأ نصوص الدستور كلّها في ضوئها. وقد لفت الفقيه الدستوري إدمون رباط إلى هذا التحوّل، مؤكّداً على أنّ الشرعية الميثاقية أصبحت من المبادئ الدستورية العليا التي تحكم تفسير النصوص وتقييدها.
ثالثاً: في حصر الميثاقية بالمناصفة أو الرئاسات
يرى كاتب المقال أنّ الميثاقية تتجسّد أساساً في المناصفة بين المسيحيِّين والمسلمين (المادة 24) وفي توزيع الرئاسات الثلاث على الموارنة والسنّة والشيعة. هذا توصيف صحيح شكلاً، لكنّه مبتور من الناحية الجوهرية.
إنّ الميثاقية، بحسب نظرية الديموقراطية التوافقية عند أرند ليبهارت، ليست مجرّد توزيع شكلي للمقاعد أو المناصب، بل هي آلية لضمان المشاركة الفعلية للمكوّنات الطائفية الكبرى في صناعة القرار. بمعنى آخر، الميثاقية ليست محاصصة، بل ضمانة دستورية تمنع التهميش والإقصاء.
وعليه، فإنّ القول بأنّ الحكومة تبقى ميثاقية لمجرّد أنّ وزراء طائفة ما لم يستقيلوا، حتى لو استُبعدوا فعلياً من القرارات المصيرية، يتعارض مع جوهر الميثاقية. فالمادة 95 من الدستور لا تكتفي بذكر المناصفة بل تؤكّد على «التمثيل العادل للطوائف»، وهذا لا يتحقق بمجرّد الحضور الشكلي، بل بمشاركة فعلية في القرار السياسي.
رابعاً: في تفسير المادة 65
يشير د. الزيبق إلى أنّ المادة 65 من الدستور لا تفرض الإجماع في القرارات المصيرية، بل تكتفي بغالبية الثلثَين. ومن ثمّ، فإنّ اتخاذ قرار بحصر السلاح بيَد الدولة من دون مشاركة الوزراء الشيعة لا يُفقد القرار ميثاقيّته.
يتجاهل هذا الطرح خصوصية النظام التوافقي اللبناني الذي لا يقوم على آليات الأكثرية بل على أعراف التوافق. صحيح أنّ النص الدستوري لم يشترط الإجماع، لكنّ الممارسة والاجتهاد السياسي رسّخا قاعدة مفادها أنّ القرارات الوطنية الكبرى تحتاج إلى حدّ أدنى من التوافق الميثاقي. والمجلس الدستوري نفسه ميّز بين»المشروعية الشكلية» و»الميثاقية الموضوعية»، وأكّد أنّ النصوص لا تُقرأ إلّا بمقاصدها، وفي مقدّمها صَون العيش المشترك. وفي هذا المجال، فإنّ اتخاذ قرار استراتيجي في غياب مكوّن طائفي أساسي، حتى لو توافر النصاب العددي، يُضعِف الشرعية الميثاقية ويُعرّض القرار إلى وصمة اللاشرعية.
خامساً: في سؤال «مَن يراقب الميثاقية؟»
يخلص المقال إلى أنّ الرقابة على الميثاقية شبه معدومة، لأنّ المجلس الدستوري يراقب القوانين فقط، بينما يراقب مجلس شورى الدولة الأعمال الإدارية. هذا صحيح شكلاً، لكنّه توصيف ناقص.
فالمجلس الدستوري اللبناني وسّع في قراراته السابقة سلطته التفسيرية، واعتبر أنّ الميثاقية قاعدة دستورية عليا تدخل ضمن إطار الرقابة على القوانين. بل إنّ بعض الفقه الدستوري دعا إلى اعتبار المجلس الدستوري حامياً للميثاقية تماماً كما هو حامٍ للحريات الأساسية.
وفي الواقع السياسي، تحوّلت آليات مثل التعطيل أو الاستقالة إلى وسائل «رقابة سياسية» على الميثاقية، وإن جاءت على حساب انتظام العمل المؤسساتي. هذه الثغرة تبرز الحاجة إلى تطوير اجتهاد دستوري يمنح المجلس الدستوري سلطة واضحة في مراقبة مدى احترام الميثاقية في القرارات الكبرى.
سادساً: في الخلط بين السلطة والقرار
يرى د. الزيبق أنّ الفقرة «ي» من المقدّمة تتحدّث عن «سلطة» لا عن «قرار»، وبالتالي فهي لا تنطبق على قرارات حكومية منفردة. غير أنّ هذا الفهم يُضيّق النص إلى حدّ إفراغه من مضمونه. فالسلطة لا تمارس وجودها إلّا عبر قراراتها، والقرار هو التعبير العملي عن السلطة. وبالتالي، فإنّ أي قرار يتعارض مع ميثاق العيش المشترك يسقط معه أساس شرعية السلطة التي اتخذته. وإلّا لكان النص الدستوري معطّلاً ولا أثر له في التطبيق.
سابعاً: نحو مقاربة جديدة للميثاقية
يظهر من خلال التحليل أنّ الميثاقية في لبنان لم تَعُد مجرّد مفهوم سياسي، بل تحوّلت قاعدة دستورية فوقية تحكم الشرعية ذاتها. هي أشبه بمبدأ «السيادة الشعبية» أو «الفصل بين السلطات» في الدساتير الأخرى: لا يُتصوّر وجود نظام لبناني من دونها. لذا، فإنّ النقاش حولها ينبغي أن يتجاوز الشكل العددي إلى مضمون المشاركة الفعلية، وأن يطاول الأعراف السياسية التي تحكم تفسير النصوص.
ثم إنّ غياب مرجعية قضائية واضحة لمراقبة الميثاقية يُعزّز منطق التعطيل و»الفيتوات» الطائفية، ما يُهدِّد استمرارية المؤسسات. والحل يكمن في تطوير اجتهاد دستوري متقدّم، يجعل من الميثاقية قاعدة قابلة للتطبيق القضائي لا مجرّد أداة سياسية.
الخاتمة
يمكن القول إنّ مقالة الدكتور سليم الزيبق أثارت إشكالية أساسية لكنّها لم تذهب بعيداً في تبيان الطبيعة الدستورية الكاملة للميثاقية. فقد تعاملت معها بوصفها مفهوماً شكلياً متصلاً بالمناصفة أو بتوزيع الرئاسات، بينما حقيقتها أعمق: الشراكة الفعلية في القرارات المصيرية.
إنّ الميثاقية في لبنان ليست قيمة سياسية ظرفية، بل هي قاعدة دستورية عليا ترتبط بوجود الدولة نفسها. وإنّ خرقها لا يؤدّي فقط إلى أزمة سياسية، بل إلى انتفاء الشرعية الدستورية للنظام بكامله. وعليه، فإنّ أي قرار سيادي يُتخذ في غياب أحد المكوّنات الطائفية الأساسية يبقى، وإن بدا دستورياً شكلاً، معلولاً من حيث الميثاقية، ما يجرّده من الشرعية اللازمة لدوام العيش المشترك الذي قام عليه لبنان منذ نشأته.