ردّ على الردّ حول مقال «الميثاقية: بين الشرعية والدستورية»

النوع: 

 

في جريدة «الجمهورية» الصادرة بتاريخ 22 من شهر آب الجاري، تفضّل الدكتور علي محمود الموسوي بإبداء بعض الملاحظات على مقال كنّا قد نشرناه في العشرين من الشهر نفسه على صفحات الجريدة عينها بعنوان «الميثاقية: بين الشرعية والدستورية». عندما قرأنا العنوان الذي اختاره المؤلف لملاحظاته: «قراءة مكمّلة في مقال الميثاقية: بين الشرعية والدستورية» اعتقدنا للوهلة الأولى أنّ الدفاع عن «قضيّتنا» سيكون أمراً يَسيراً، لأنّ ما سيؤخذ علينا إنّما هو الإيجاز في التوضيح لا الخلل في جوهر ما أوضحناه. إلّا أنّه بعد التمعّن في ملاحظات الكاتب أيقنّا أنّنا أخطأنا التقدير.

جمع الكاتب ملاحظاته في نقاط عدة، وسنحاول الردّ عليها مع مراعاة أمرَين رئيسيَّين: الحفاظ على الرصانة الحضارية للنقاش، التي تميّز بها مقال الكاتب، وأعمال المنطق القانوني الصرف الهادف إلى إعلاء مصلحة الوطن والدولة.

ضمن هذا الإطار، من الصعوبة بمكان مجاراة الكاتب عندما يقول، في النقطة الأولى من مقاله، إنّنا وقعنا في «خلط منهجي بين البُعد الفقهي النظري وبين الخصوصية اللبنانية». فكما يمكن ملاحظته من دون عناء، لقد نظّمنا مقالنا على شكل مسألتَين: المسألة الأولى تتمحوَر حول تحديد العلاقة بين المفاهيم الثلاثة: الشرعية (la légitimité) والمشروعية (la légalité) والدستورية (la constitutionnalité). أمّا المسألة الثانية، فتتعلّق بإسقاط هذه المفاهيم على القانون اللبناني لمعرفة متى تُعتبر السلطة غير شرعية لعلّة مناقضتها ميثاق العيش المشترك». فأين يكمن «الخلط» الذي تكلم عنه د. الموسوي؟

كذلك يشير الكاتب، في النقطة الأولى والثانية من مقاله، أنّه مع الفقرة «ي» من مقدّمة دستور الطائف التي تنصّ على أنّ «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العَيش المشترك»، انتقلت الشرعية من مفهوم سياسي إلى قيمة دستورية ملزمة «وهذا ما لم يُعطِه (مقالنا) حقه». من المستغرب عدم ملاحظة الكاتب أنّنا في مقدّمة مقالنا وبالتحديد في السطر الثالث منه، أشرنا إلى أنّ مقدمة الدستور»، ومنها الفقرة «ي»، تُعتبر بحسب اجتهاد المجلس الدستوري جزءاً لا يتجزّأ من الدستور».

كذلك، وفي معرض تشكيكنا بقدرة السلطة القضائية على التصدّي للسلطة غير الشرعية، أشرنا إلى أنّ اللجوء إلى القضاء يتوقف على وجود نصوص تعطي القاضي صلاحية التدخّل في مجال سياسي بامتياز. وأكدّنا على أنّ «هذا ما أقدم عليه المشرّع الدستوري سنة 1990 بإدخاله مفهوم الشرعية في مقدّمة الدستور، ممّا أدّى الى تحويل هذا المفهوم السياسي إلى مفهوم تتقاطع فيه السياسة مع القانون».

أخيراً، ولنأخذ في الإعتبار الإنعكاسات القضائية «لدسترة» مفهوم الشرعية، أشرنا إلى عدم صلاحية المجلس الدستوري لمراقبة أعمال السلطة التنفيذية، ومنها قرار حكومة الرئيس سلام المتعلق بحصرية السلاح، لأنّ صلاحية القضاء الدستوري محصورة بمراقبة دستورية القوانين. أمّا في ما يتعلّق بصلاحية مجلس شورى الدولة، فكنّا قد نبّهنا إلى خطورة هذا الإختصاص وانعكاساته السلبية على سمعة المجلس الذي سيتعرّض، بلا محالة، إلى محاولات التسييس واتهامه، مهما كان قراره، بممارسة العدالة السياسية. فالقول بأنّنا لم نُعطِ هذه الفكرة حقها فيه شيء من المغالاة.

في النقطة الثالثة من مقاله، يأخذ علينا الكاتب قولنا أنّ الميثاقية تتجسّد، على صعيد تكوين المؤسسات، بالمناصفة بين المسيحيِّين والمسلمين في مجلس النواب وبتوزيع الرئاسات الثلاث على الموارنة والسنّة والشيعة وبتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة. فبالنسبة إليه «إنّ هذا توصيف صحيح شكلاً، لكنّه مبتور من الناحية الجوهرية»، لأنّ الميثاقية، بحسب نظرية الديموقراطية التوافقية عند أرند ليبهارت، ليست مجرّد توزيع شكلي للمقاعد بل هي آلية لضمان المشاركة الفعلية للمكوّنات الطائفية في صناعة القرار».

وعليه، فإنّ قولنا بأنّ حكومة الرئيس سلام تبقى ميثاقية طالما أنّ الوزراء الشيعة لم يستقيلوا، لا يستقيم، بحسب الكاتب، لأنّه يتعارض مع جوهر الميثاقية. يجب الإعتراف بأنّنا لم نستطع سبر أغوار المنطق القانوني الذي يدعم هذه الحجة. فالمناصفة، كما تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الحكومة، هي القرينة على المشاركة الفعلية في السلطة، كما أنّ عدم الحضور الشكلي يُشكّل القرينة على عدم المشاركة الفعلية. ثم أنّه ليس على علمنا أنّ مُنظّر الديموقراطية التوافقية، ليبهارت، هو من أنصار المشاركة «عن بُعد» (à distance).

في النقطة الرابعة من مقاله، يُصرّ الدكتور الموسوي على أنّ احترام آلية اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء المنصوص عليها في المادة 65 من الدستور، لا تُشكّل ضمانةً لشرعية قرارات الحكومة. فبالنسبة إليه، «إنّ اتخاذ قرار استراتيجي في غياب مكوّن طائفي أساسي حتى لو توافر النصاب العددي... يُعرّض القرار إلى وصمة اللاشرعية»، وإنّ طرحنا المُرتكز على المادة 65 «يتجاهل خصوصية النظام التوافقي اللبناني الذي لا يقوم على آليات الأكثرية بل على أعراف التوافق». من المعلوم أنّ المادة 65 تضع موضع التنفيذ النظام التوافقي اللبناني في ما يتعلّق باتخاذ القرارات في مجلس الوزراء، وبالتالي لا يمكن لهذه المادة أن تتعارض مع ما تضعه موضع التنفيذ. ثم كيف يمكن تطبيق «أعراف التوافق» في مجالٍ نُظِّم بدقة من قِبل المشرّع الدستوري بهدف تأمين الميثاقية في اتخاذ القرارات؟ فالمادة 65 تنصّ على نصاب الثلثَين لانعقاد مجلس الوزراء ولاتخاذ القرارات في المواضيع الأساسية. بالإضافة إلى ذلك فإنّ الدستور يلحظ حق الفيتو الذي يُشكّل عنصراً أساسياً من عناصر الديمقراطية التوافقية. فالمادة 69 تنص على أنّ الحكومة تُعتبر مستقيلة إذا فقدت أكثر من ثلث أعضائها. فهل من حاجة تبقى لتطبيق ما تمّت تسمِيَته «أعراف التوافق»؟

أخيراً، يأخذ علينا الكاتب تأكيدنا على أنّ الفقرة «ي» من مقدّمة الدستور تنصّ على أنّ «لا شرعية لأي سلطة» وليس لأي «قرار». إنّ هذا التمييز يدلّ إلى أنّ المُشرّع الدستوري يعتبر أنّ معيار تقييم القرارات هو المشروعية (la légalité) وليس الشرعية (la légitimité) التي هي معيار تقييم السلطات. فالقرار الصادر طبقاً للنصوص المرعية الإجراء يبقى قانونياً حتى وإن لم يُرضِ بعض الطوائف.

في الواقع، إنّ ما يُفرّق بين موقفنا وموقف الدكتور الموسوي يتمحوَر حول نقطتَين أساسيّتَين: أولاً، يعتبر الكاتب أنّ استبعاد طائفة عن المشاركة في اتخاذ القرارات المهمّة يؤدّي إلى انتفاء الشرعية عن الحكومة حتى لو لم يستقل وزراء هذه الطائفة من الحكومة. ثانياً، إنّ القرار المُتّخذ في غياب ممثلي طائفة أساسية لا يتسمّ، بحسب الكاتب، بالشرعية حتى لو اتُخِذ طبقاً للآلية الدستورية. نحن نعتقد أنّ حسم هاتَين المسألتَين يتمّ من خلال الإجابة عن السؤال التالي: هل إنّ اللاشرعية تتكوّن عندما تَستبعِد طائفة نفسها عن المشاركة في السلطة أم فقط عندما تُستبعَد هذه الطائفة عن المشاركة في الحكم من قبل السلطة السياسية؟

إنّ التمعن في نصّ الفقرة «ي» يُظهر بوضوح أنّ انعدام الشرعية هو نتيجة قيام السلطة بمناقضة ميثاق العيش المشترك عن طريق إقصاء طائفة عن المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية وليس عندما تَستبعِد طائفة نفسها عن هذه المشاركة. وهذا ما أكّد عليه الدكتور إدمون رباط بربطه المبدأ المنصوص عليه في الفقرة «ي»: «بوجود سلطة (رئيس جمهورية، حكومة) تظهر من سياستها بوادر الإنقسامات الطائفية. (مقدمة الدستور اللبناني، دار النهار، 2004 ص. 81)».

أخيراً، قد يكون من المفيد التذكير ببعض المبادئ والأفكار التي من شأنها أن تساعدنا في فهم الإشكالية التي نتناولها. أولى هذه المبادئ هو مبدأ استمرارية السلطات العامة الذي يقوم على فكرة أنّ نشاط السلطات والمرافق العامة يجب أن يستمر من دون انقطاع ضماناً للمصلحة العامة وحماية لحقوق المواطنين. المبدأ الثاني هو الذي يقضي بأنّ الأنظمة والدساتير وُضِعَت لتسيير شؤون ومصالح الناس وليس لتعطيلها. ثالثاً وأخيراً، إنّ الديموقراطية التوافقية ليست إلّا حصيلة حاجة إلى حسن إدارة التعدّدية المجتمعية.

الكاتب: 
د. سليم زيبق
التاريخ: 
الأربعاء, أغسطس 27, 2025
ملخص: 
من المعلوم أنّ المادة 65 تضع موضع التنفيذ النظام التوافقي اللبناني في ما يتعلّق باتخاذ القرارات في مجلس الوزراء، ولا يمكن لهذه المادة أن تتعارض معه فكيف يمكن تطبيق «أعراف التوافق» بمجالٍ نُظِّم بدقة من قِبل المشرّع بهدف تأمين الميثاقية باتخاذ القرارات