جدلية الدستور تسقط مقولة الفراغ الدستوري في المجلس النيابي
إنَّ الجدل السياسي الذي يدور في لبنان حول إقرار قانون جديد للانتخابات، ما زال مستعراً في الأروقة والمنابر السياسيَّة اللبنانيَّة، بحيث بات موضع كباش بين القوى والأفرقاء كافَّة، في ظل تقدُّم صيغ وتبخُّر صيغ واستقدام صيغ أخرى لاستخدامها في المناورات السياسيَّة، يضاف إلى ذلك ما يطرح من لاءآت ثلاث أصبحت لازمة للخطاب السياسي، تظهر كأنَّها ضوابط لإدارة أزمة مستعرة، فيما هي متاريس وتموضعات تخفي مواقف مبطنة، يضغط فيها كل طرف بثقله الطائفي والجماهيري والسياسي والتحريضي، لتحسين موقعه وشروطه وقوَّته التمثيليَّة ضمن اللعبة السياسيَّة، يتجاوز فيها حدوداً قد تطال قواعد النظام والانتظام برمته.
فيما ظهر في الأفق بوادر سلبية أطاحت بموعد الانتخابات النيابيَّة التي كانت ستجري في 21 أيار 2017، مع تقدُّم الخيار الأصعب بعدم إجرائها قبل انتهاء ولاية المجلس النيابي الحالي، نتيجة رفض رئيس الجمهوريَّة توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، واقتراب دخول الموعد النهائي المحدَّد بالحادي والعشرين من آذار دائرة الإعلان عن عدم التمكُّن من إجراء الانتخابات في المواعيد الدستورية، وطرح حصول تأجيل تقني في حال تمَّ التوصُّل الى اتِّفاق حول قانون الانتخابات قبل 20 حزيران 2017، والذي لا يبدو معه أنَّ هناك ملامح لإمكانية التوصُّل إلى قانون انتخابي قريب.
وأمام هذا الواقع الذي يحمل معه أزمة سياسيَّة ودستوريَّة بدأت تلوح في الأفق، وتهدِّد معها فعاليَّة ودور السلطة التشريعيَّة، ومعها المؤسَّسات الدستوريَّة الأخرى، تطرح التساؤلات الكثيرة. هل يسمح الدستور بحصول الفراغ الدستوري في المؤسَّسة التشريعيَّة؟ كيف سيواجه المجلس النيابي هذا الوضع في حال حصوله؟ ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لمنع حدوث ذلك؟ ما هي المسؤولية ومبانيها على من حرَّض وساهم ونفَّذ لخلق أزمة في النظام؟ هل إنَّ الحدث بمفاعيله المختلفة هو النموذج للتفاوض على نتائج جديدة منه؟ هل سقطت أدوات السلطة بمناهجها لتبني أفكاراً يسوَّق فيها تغيير مبانيها وأزمة فيها وعليها.
إنَّ التساؤلات هي سمة الجدليَّة وتحدِّي الرهبة من المجهول المسؤول، حتى لا تسقط المقولة وتبقى المؤسَّسات.
أولاً- مصير اللاءآت الثلاث وتداعيات سقوطها:
إنَّ المواقف السياسيَّة المعلنة قد قدمت تصوُّرات الحلول، دون أن تقدِّم الضمانات اللازمة في هذا الشأن حول نتائجها، وتركت التساؤلات مشروعة حول صدقيَّة النوايا لدى الأطراف السياسيَّة، ومدى الحرص للحفاظ على انتظام عمل المؤسَّسات الدستوريَّة. وإنَّ هذه المواقف التي أجمعت على اللاءآت الثلاث لم تحرِّك ساكناً لتجنُّبها، والانطلاق منها إلى واقع جديد يخرج الدولة من أزمتها.
ففي الأولى، التي تتمثَّل بلا لقانون الستين عبر إعلان وفاته سريرياً، ليترجَّل عن صهوة جواده ويدخل كتاب التاريخ قسراً، بعدما تمَّ استنزافه طيلة ما يزيد عن أكثر من نصف قرن، بلعنةِ واضعيه وجحود جمائله ونكران فضائله على النظام الطائفي بتسوية الممكن لنتائجه، واتِّهامه بتعطيل الإصلاح السياسي المنشود، يظهر لنا أنَّ عقوبة الإعدام التي تمَّ إنزالها به، لم تصاحب الإجراءات الطبيعيَّة التي يجب اتخاذها في هذا الشأن.
وفي الثانية، التي تتمثَّل بلا للتمديد للمجلس النيابي الحالي، بعد أن شهد لبنان حالات كثيرة منه قبل وبعد الطائف، تمَّ في الأولى التمديد للمجلس النيابي ستة عشر عاماً(1976-1992)، تحت مبرِّرات متعدِّدة، منها اندلاع الحرب في العام 1975 وحتى ما بعد اتِّفاق الطائف وتمكُّن الدولة اللبنانيَّة من إجراء الانتخابات في العام 1992. ومنها التمديد أربعة أعوام أخرى بعد الطائف وعلى دفعتين (2013-2017) بأسبابها المتعدِّدة وحيثياتها المتباينة، من أوضاع أمنيَّة، إلى فراغ في رئاسة الجمهوريَّة، إلى عدم الاتفاق على قانون انتخابي، اشترط فيه المجلس الدستوري في حال وجوده إنهاء حالة التمديد التي ما زالت مستمرَّة لغاية اليوم.
وبالتالي فإنَّ هذا التمديد سيصبح أمراً واقعاً مع اقتراب موعد 21 آذار تحت مسمَّيات تقنيَّة، إذا ما تمَّ إقرار قانون جديد للانتخابات قبل انتهاء ولاية المجلس الحالي بتاريخ 20 حزيران 2017. وهي رغبة مستمرَّة مبطنة لإدارة آليَّات العمل السياسي، لتأمينها مع ما تحمل من أزمات مع منطلقات الرغبات الدولية.
وفي الثالثة، التي تتمثَّل بلا للفراغ في السلطة التشريعيَّة، كموقف حتمي يتمَّ تداوله واستخدامه بالتلويح به، واستخدامه كوسيلة للتهديد عبر الضغط منه لإقرار قانون جديد للانتخابات النيابيَّة، وهو قد ظهر كموقف سياسي أكثر منه واقعة دستوريَّة. وبالتالي، فإنَّه وبغض النظر عن مسألة الوصول إلى إقرار قانون للانتخابات النيابيَّة قبل انتهاء ولاية المجلس النيابي الحالي، فإنَّ ذلك يطرح جدلاً دستورياً يحتاج إلى التوقُّف عنده ملياً في لبنان، خصوصاً بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف. لا سيَّما وأنَّ موعد 21 آذار يعلن بداية الدخول في مسار الفراغ في حال لم يتم ما ورد في الثانية، ولم يكن هناك مخرجاً دستورياً يؤمِّن متطلِّبات تفاديه.
وبالرغم من أنَّ الترويج عن بلوغ حلّ يجنب الأزمة السياسيَّة التي تلوح في الأفق، عبر اختيار إحدى صيغتين لقانون انتخابي جديد، تتوزَّع بين المختلط والتأهيلي، وَفْقَ معايير واحدة، يضاف إليها صيغ مختلفة تعتمد النظام النسبي من خلال دوائر وسطى وكبرى، والترويج بأنَّ هناك تصوُّر لقانون جديد للانتخابات سيبصر النور، فإنَّ المداولات والأفكار والردود التي تطرح بشأن ذلك تضع الاقتراحات في خانة تقطيع الوقت، دون أن تؤمِّن قواسم مشتركة ونقطة عبور يحافظ فيها على المهل، وهذا انتقاص للمهام يحتاج للتمديد، ويمنع من الوصول إلى موعد انتهاء ولاية المجلس النيابي دون اتفاق جامع، يؤمِّن المسار الدستوري لاستمرارية المؤسَّسة التشريعيَّة التي تعتبر أمّ المؤسَّسات وركيزة النظام البرلماني الفاعل في لبنان.
من هنا، تظهر إشكاليَّة التحليلات الدستورية المتباينة التي تتقدَّم لتأمين مقتضيات الطروحات، لترسم توجُّهات واضعيها، بحيث يرى البعض بأنَّه إذا لم يوقّع الرئيس فلا خشية من الفراغ لأنَّ النصوص تربأ الفراغ، وهو ما ورد أيضاً في قرار المجلس الدستوري الواضح، ولأنَّ النظام الدستوري القائم يلحظ أنَّه حتى لو انتهت ولاية مجلس النواب، وإن لم يصدر قانوناً لتمديد ولايته وأصبح شاغراً، فإنَّ الحكومة تتحوَّل إلى حكومة تصريف أعمال، وتنحصر مهمَّتها بإجراء الانتخابات النيابيَّة وفق القانون ساري المفعول 25/2008 أو الستين معدلاً، وذلك وَفْقَ المادَّة 24 من الدستور التي تنصّ على حصول الانتخاب وَفْقَ القانون الساري المفعول.
لكن على الرغم من ذلك، فإنَّه لا يمكن إجراء الانتخابات من دون توقيع الرئيس على مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، مع وجود رأي ثابت بمسؤوليَّة الرئيس عن التوقيع، لأنَّ ما أقدم عليه هو قرار سياسي من شأنه أن يفتح أفق لتفسيرات متناقضة، وهي من أدوار المجلس النيابي. كذلك المسؤولية عن توقيع مراسيم تأليف لجان القيد، ولجان القضاة الذين يشرفون على الفرز وعلى نتائج الانتخابات، وفي حال وقَّع على ذلك حينها فإنَّ توقيعه يكون قد تمَّ خارج المهل.
يضاف إليها الافتراضات التي أطلقت وتطلق حول نتائج رفض توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وتعذُّر الإتفاق على قانونٍ جديدٍ وعلى التمديد أيضاً، والتي قد ذهبت بأوهام مطلقيها إلى نقل صلاحيات تشريعيَّة إلى مجلس الوزراء، فاعتبرت أنّه من حقّ وواجب الحكومة أن تشرّع منعاً للفراغ بموجب قانون منفذ بمرسوم لغياب المجلس النيابي، عبر طلب رئيس الجمهورية من الحكومة إصدار قانون جديد.
ثانياً- مخارج الأزمة الدستورية للفراغ الموعود:
إنَّ اعتبار رفض رئيس الجمهورية لمسألة التمديد لولاية جديدة، يضعه في موقع ممارسة سلطة ميثاق 1943، بحيث أنَّه إذا قام المجلس النيابي بالتمديد لنفسه، فإنَّ رئيس الجمهوريَّة سيردّ المرسوم إلى مجلس النواب ليتمّ التصويت عليه بالثلثين، لأنَّ صعوبة إقرار مجلس النواب لقانون التمديد للمجلس النيابي بأكثرية الثلثين، ينتج عنه حصول فراغ في المؤسَّسة التشريعيَّة، وهذا ما يتناقض مع موجب احترام فلسفة التفسير للقرار الصادر من المجلس الدستوري. وإنَّ الهروب من إقرار تمديد المجلس لنفسه بأكثرية الثلثين هو نتيجة إشكالية موجودة بعدم رغبة الأفرقاء السياسيين بإسقاط الدور والموقع، والحفاظ على صيرورة السلطة. كما أنَّ إقراره وفق ما تقدَّم دون رغبة رئيس الجمهورية، فإنَّ ذلك يعطيه حقّ الطعن بالتمديد الثاني أمام المجلس الدستوري. وهو أمر طغى عليه الكثير من الشكوك ولا ضمانات لنتائجه
كما أنَّ الأسباب الموجبة لحلّ المجلس النيابي التي تترتَّب في الحالات المنصوص عنها في المادَّتين 65 و77 من هذا الدستور غير متوفرة، لأنَّ المـــادَّة 55 من الدستور اللبناني، التي حدَّدت حالة الفراغ عبر طلب رئيس الجمهورية من مجلس الوزراء حلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة، في حال توافرت الأسباب، هي مقيدة بمهل صارمة، بحيث أنَّه إذا قرَّر مجلس الوزراء حلّ المجلس، بناء على ذلك، يصدر رئيس الجمهورية مرسوم الحلّ، وفي هذه الحال تجتمع الهيئات الانتخابيَّة، وفقاً لأحكام المادَّة الخامسة والعشرين من الدستور، ويدعى المجلس الجديد للاجتماع في خلال الأيام الخمسة عشر التي تلي إعلان الانتخاب. وفي حال عدم إجراء الانتخابات ضمن المهلة المنصوص عنها في المادَّة الخامسة والعشرين من الدستور، يعتبر مرسوم الحل باطلاً وكأنَّه لم يكن، ويستمرّ مجلس النواب في ممارسة سلطاته وفقاً لأحكام الدستور.
وبالتالي فإنَّ المهلة التي حدَّدها الدستور اللبناني في حالة حلَّ المجلس النيابي التي قيَّدت رئيس الجمهورية ومجلس الوزارء، أراد المشرع وضعها لعدم وقوع السلطة التشريعية في الفراغ، بحيث أنَّ مرسوم الحل يعتبر باطلاً في حال عدم إجراء الانتخابات، وكأنه لم يكن. لأنَّ قواعد انتظام المؤسسات الدستورية، وعلى رأسها السلطة التشريعيَّة تفرض وجود قواعد ثابتة تؤمن الإلزام والالتزام، تحكم آليَّة الانتخاب كي لا يحصل هذا الفراغ. وعليه يصبح عرض الموازنة بعد إقرارها من مجلس الوزراء لزاماً على السلطة التشريعية، لضمان صيرورة بقائها واستمرارية فعاليتها، وتحصينها من الحل، والحفاظ على دورها كصمام أمان لمسؤولية الدولة واستقرار المؤسسات.
هذا على مستوى القيود التي وضعت على حلّ المجلس النيابي للأسباب التي حدَّدها الدستور اللبناني، فكيف إذا لم تتوفَّر أسباب الحلّ، ولم يكن هناك من تبرير لتقاعس السلطة التنفيذيَّة عن إقرار مشروع قانون جديد للانتخابات، وإجرائها وفق ما نصَّ عليه الدستور، أو السير بإجراء الانتخابات وَفْقَ القانون النافذ، بالرغم من عيوبه، حرصاً على انتظام المؤسسات الدستورية وسير المرفق العام.
من هنا، فإنَّ استمراريَّة هيئة مكتب المجلس في تصريف الأعمال حتى انتخاب مجلس جديد في وضع كهذا لا يؤمِّن هذه السيرورة، نظراً لعدم وجود مهلة واضحة كالتي وضعت في حلّ المجلس، بل أنَّه يخل بالنظام البرلماني القائم على الفصل والتعاون والتوازن بين السلطات، ويضع الدولة أمام مخاطر كبيرة، كان قد رفضها ونبه منها المجلس الدستوري في نصّ قراره رقم 7/2014 تاريخ 28/11/2014 بشأن الطعن بقانون تمديد ولاية مجلس النواب، المنشور في العدد 48 من الجريدة الرسمية بتاريخ 11/11/2014. حين اعتبر أنَّ إبطال قانون التمديد المخالف للدستور، في الوضع الراهن، قد يؤدِّي إلى فراغ في السلطة الاشتراعيَّة، يضاف إلى الشغور في رئاسة الجمهوريَّة، ما يتعارض جذرياً والدستور، وبالتالي ومنعاً لحدوث فراغ في مجلس النواب، وقطعاً للطريق على انتخاب رئيس للجمهوريَّة، اعتبر التمديد أمراً واقعاً، وأكَّد معه على أنَّ دوريَّة الانتخابات هي مبدأ دستوري لا يجوز المسّ به مطلقاً، وأنَّ ربط إجراء الانتخابات النيابيَّة بالاتِّفاق على قانون انتخاب جديد، أو بأيّ اعتبار آخر، هو عمل مخالف للدستور. وقد قرر المجلس الدستوري حينها قبول المراجعة شكلاً، وردّ الطعن للحيلولة دون التمادي في حدوث الفراغ في المؤسَّسات الدستوريَّة.
من هنا، فإنَّ التذرُّع بالاتفاق على قانون انتخاب جديد والسير نحو تعطيل إجراء الانتخابات النيابيَّة ليس له ما يبرره دستورياً، بل هو عمل مخالف للدستور وَفْقَ ما توصل إليه المجلس الدستوري، وأنَّه لا يمكن أن يحدث فراغ في السلطة الاشتراعيَّة لأنَّ ذلك يتعارض جذرياً والدستور. وإنَّ التفسير الواسع لقرار المجلس الدستوري الملزم للسلطات كافَّة، يقتضي إعمال جوهر مضمونه بأدوات العمل المؤسَّساتي الدستوري لدى مقام رئاسة الجمهورية.