هل بقيَ نظامٌ وصيغةٌ لنُغيّرَهما ؟
ضجر اللبنانيون من نظامهم بعدما أتعبهم وأتعبوه. هم يطالبون بتغييره وهو يطالب بالهجر. الاثنان مستعدان للطلاق لعدم التجانس، لكن كلا منهما يريد أن يعترف الآخر بأنه هو من ضُبِط بالجرم المشهود كيلا يتحمل نفقات الطلاق.غريبون نحن اللبنانيين؛ في الزواج نختلف وفي الطلاق. نجعل الحادث حدثاً، والنقطة بحراً، والاستحقاق تحدياً. شعوب العالم تواجه تحديات توازي أضعاف ما نواجهه في لبنان، فتحلّها بصمت وحوار وتضامن عبر المؤسسات والقوانين. شعوب العالم تؤلف حكوماتها وتنتخب برلماناتها ورؤساء جمهورياتها وتعدل دساتيرها من دون أن تطرح مصيرها وكيانها، ومن دون أن تعيد النظر بوحدتها.
إن ظاهرة تحوُّل كل استحقاق دستوري أو سياسي أو إداري أو حتى سياحي، إلى أزمة حكم فمشروع حرب، ففتنة، لا تكشف عن وجود خلل تأسيسي في بنية النظام اللبناني، بقدر ما تكشف عن وجود أطماع لدى مكونات لبنانية تتخطى قدرة النظام على استيعابها.
النظام اللبناني الأساسي ابتُكِر لجماعات يفترض أن تعيش متحدة بعدالة ومساواة وولاء وطني في ظل دولة واحدة، لا بذهنية الهيمنة والسيطرة والاستئثار والعصيان. ويفرض الإنصافُ أن يطالب النظامُ اللبنانيين أن يغيروا هم عوراتِهم قبلَ أن يرموه بحجر. فالمشكلة اليوم ليست ببنية النظام الديموقراطي بل بذهنية أنظمة الطوائف.
مسار التغيير الخطأ
نظامنا الديموقراطي البرلماني جربته الدول الغربية بنجاح باهر نحو مائتي سنة قبل أن نعتمده في لبنان ونكيّفه مع بيئتنا المشرقية وتعدديتنا الحضارية وتقاليدنا الروحية. لكن سوء تطبيقه ناتجٌ عن عدم الانسجام المتصاعد بين مثالية الصيغة اللبنانية وتناقضات التعددية اللبنانية. لا يوجد لدينا مفهوم المشاركة ولا حتى المنافسة، بل مفهوم المضاربة.
وسوء تطبيقه ناتجٌ أيضاً عن الإضافات الظرفية التي أثقلنا بها النظام كالطائفية والمذهبية والأحوال الشخصية والمحاصصة والإقطاع والاقتطاع. والغريب أن مسارَ التغيير عندنا يتجه لإغراق النظام بمزيدٍ من هذه الإضافات عوض إخراجه منها ليستقيم.
الذي سقط اليوم ليس النظامُ بمفهومه الديموقراطي بل النظامُ بمفهومه الصيغوي والسلطةُ بمفهومها المركزي. الصيغةُ قتلت النظامَ الديموقراطي، والطائفيةُ نحرت التعايش الديني، والولاءُ الخارجي سخَّف الميثاق الوطني.
لقد حوّلت فئات لبنانية الصيغةَ النموذجية التي ابتدعها أجدادنا وآباؤنا إطاراً للتعايش المسيحي الإسلامي صيغةَ تخاصُمٍ مسيحيٍّ إسلامي، وإسلاميٍّ إسلامي، ومسيحيٍّ مسيحي ناقضةً بذلك مبرِّرَ وجود لبنان الموحَّد. لقد استوردت هذه الفئات جَهالةَ المحيط وأحاديَّتَه ومشاريعه المتناقضة بدَل أن تورِّد إليه حضارة لبنان وتعدديته ورسالته. فلا نستحقّ نظامنا وصيغتنا، ولا نَستأهِل مسيحيتَنا وإسلامنا.
ليس النظام بل الصيغة هي ما يمنع تأليف الحكومة. ليس النظام بل الصيغة هي ما يحول دون وضع قانون انتخابات جديد ودون إجرائها. ليس النظام بل الصيغة هي ما يفرض صنفاً معيناً من رؤساء الجمهورية. ليس النظام بل الصيغة هي ما يعطل دور الجيش اللبناني.
ليس النظام بل الصيغة هي ما يؤخر حسم موضوع سلاح حزب الله. ليس النظام بل الصيغة هي ما يعرقل التصدي الجدي للسلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها والرفض الجدي للتوطين. ليس النظام بل الصيغة هي ما يُبْلي الناس بتعيينات اعتباطية في الأمن والإدارة والقضاء والديبلوماسية. ليس النظام بل الصيغة هي ما يُسقط الدولة.
مشاريع القوى الطائفية في لبنان أقوى من وجدان الشعب. والانقسام السياسي أقوى من إرادة الوحدة، وإلا كيف نفسر استمرار الصراع في لبنان، والبلاد محررة؟ لطالما قلنا للغرباء: «إرفعوا أيديكم عنا ونحن نتكفل بحل مشاكلنا بأربع وعشرين ساعة».
انسحب الفرنسي ولم ينته الصراع، سقطت المشاريع الوحدوية العربية ولم ينته الصراع، انتهت سيطرة المنظمات الفلسطينية ولم ينته الصراع، انسحب الجيش الإسرائيلي ولم ينته الصراع. خرج الجيش السوري ولم ينته الصراع.
ربما الحل بخروج اللبنانيين من لبنان ليحل السلام. الحقيقة هي أن الصراع، وإن كانت وقوده خارجية، فجوهره داخلي بامتياز، وبالتالي، لا بد من البحث عن صيغة أكثر واقعية لإنقاذ حدٍّ معين من مظاهر وحدة لبنان.
السأم الوطني العام
بغض النظر عن مسؤولية النظام أو الصيغة، مختلف المكونات الطائفية والعلمانية الرئيسية في البلاد غير راضية ـ عن حقٍّ أو عن باطل ـ عن واقعها. وهي تربط كل استحقاق بتحسين وضعها السلطوي في الدولة اللبنانية. قبل اتفاق الطائف كان بعض المكونات منزعجاً من واقعه، بعده صار الجميع منزعجين:
•المسيحيون يشعرون بأنهم خسروا على الورق وعلى الأرض: على الورق من خلال التنازلات التي اضطروا إلى تقديمها في اتفاق الطائف، وعلى الأرض بسبب الهزائم العسكرية الناتجة عن الحروب في ما بينهم. لكن خسارة المسيحيين الكبرى، والآتية، هي سقوط رهانهم على لبنان الكبير.
• السُنَّةُ ظنوا أنهم كرّسوا عروبة لبنان وربحوا دوراً أوسع على صعيد السلطة التنفيذية لكن هذه العروبة انهارت أمام الأصوليات الإسلامية والفارسية. أما الصلاحيات الدستورية فعطّلها الاحتلال السوري ومن ثم سلاح حزب الله.
• الشيعةُ اعتقدوا أنهم حصّلوا استقراراً مهيباً في السلطة التشريعية (ولاية رئيس المجلس النيابي أربع سنوات سرمدية)، وقوّةً على الأرض من خلال سلاح حزب الله، فتبيَّن لهم مع الوقت أن ما غنِموه لا يُصرف عربياً ودولياً ولا حتى لبنانياً، لاسيما مع تصاعد حدة الصراع السنّي الشيعي في المنطقة.
• الدروز سئموا فَضَلات الجمهورية مقارنة بفضائل الإمارة. ورغم أنهم أنشأوا منذ الحرب الأخيرة حالة إماراتية في الجبل فلم يُنشأ مجلسُ الشيوخ ليترأسوه، فعوّضوا عن السلطة الواسعة بالدور الوازن.
• الجماعة العلمانية وهي خارقة الطوائف والطبقات توقعت أن يقوم لبنان جديداً بعد الحروب والتحرير، فاصطدمت بتراجع النزعة العلمانية في المجتمع والديموقراطية في الدولة والحريات في الوطن.
• الدولة التي حلمت أن تقوم من بين الأنقاض، فوجئت بسلطاتها مبعثرة وبمؤسساتها موزعة وبسيادتها مشرعة. ولإنها الخاسرُ الأكبر، لا هي راضية عن نفسها ولا الناس راضون عنها.
إشكالية الخروج من المأزق
تجاه هذا الشعور العام بالغبن، كل مكون طائفي ومذهبي يتحين الآخر عند أول منعطف أو أي عثرة لينقضَّ عليه، مما يبقي الحياة الوطنية في لبنان في أزمة مستدامة والوضع الأمني في خطر الانفجار الدوري. لكن الأخطر هو أن معالجة هذا الواقع تصطدم بثلاثة عوائق:
• الأول: في ظل الدولة المركزية والصيغة الحالية، تلبية مطالب فئة ستتِمّ على حساب فئة أخرى، أي الوقوع في خطأ تسوية الطائف نفسه. وحده الميثاق الوطني سنة 1943 أعطى كل الفئات مساحة سياسية للمشاركة في الحكم من دون أي يأخذ من فئة أخرى. يومها، أتى التنازلُ على حساب الانتداب الفرنسي والوحدة السورية لا على حساب اللبنانيين.
لكن إذا كانت دولة لبنان بتركيبتها الحالية عاجزةً على تحسين الحال السياسية للطوائف، فهي بالمقابل قادرة أن تحسِّن الحالَ المواطنية لأبناء الطوائف. بتعبير آخر، لا تستطيع هذه الدولة أن ترضي المسيحي والسنّي والشيعي والدرزي، لكنها تستطيع أن ترضي المواطن اللبناني. هل يسمح أمراء الطوائف بذلك؟
• الثاني: المطالبون بالتغيير ليسوا متفقين على نوعيته وأهدافه. منهم من يريد تغيير الدولة، ومنهم من يريد السلطة، ومنهم من يريد تغيير الهوية، ومنهم من يريد تغيير الدستور، ومنهم من يريد تغيير الكيان، ومنهم من يريد تغيير الجمهورية. وما عدا فئة محددة جَهرت بالاتحادية واللامركزية الموسَّعة والحياد والعلمنة، فغالبية المكونات خشيت طرح أفكارها وأهدافها علانية كون أهدافها لا تنسجم مع وحدة الدولة، ولإدراكها محدودية آلية النظام. وبالفعل، ماذا بقيَ من النظام ليتغير؟ الاستحقاقات الديموقراطية تؤجَّل. مبدأ فصل السلطات ضُرب ببدعة «الترويكا».
صلاحيات رئيس الجمهورية سُلبت، سلطةُ مجلس الوزراء اختزلت برئيسه، تفسير التشريع في المجلس النيابي امتياز رئيسه، الجيش اللبناني جيش احتياطي تجاه سلاح حزب الله والتنظيمات السنيّة المتطرفة، الأحزاب السياسية جزء من نظام طائفي لا من نظام ديموقراطي. القضاء يفتقد هيبته واستقلاليته.
الأجهزة الأمنية مجالس ملل. هيئات الرقابة مديرية محفوظات للفضائح والفساد. الطوائفُ والمذاهب سرقت الدولةَ والنظامَ والصيغة، وبوقاحة تطالبها بالتعويض.
• الثالث: في غياب الحياد اللبناني وفي ظل انتشار سلاح أقوى من سلاح الدولة،، يصعب على المكونات اللبنانية فتح ورشة كبرى لتغيير الصيغة والنظام في هذه المرحلة بالذات من دون الذهاب حتى النهاية، ومن دون إدراك صعوبة الفصل بين نوعية التغيير في لبنان ونوعية التغيير في العالم العربي.
كان بعض اللبنانيين في السابق يبحثون عن تحقيق ذاتهم خارج الكيان اللبناني من خلال المطالبة بوحدة عربية أو سورية أو ببقاء الانتداب الفرنسي. أما اليوم، مع اندثار أوهام القوميات صاروا يريدون تحقيق طموحاتهم من خلال المطالبة بحصص أوسع في دولة الكيان اللبناني. ولأن وحدة الكيان عاجزة عن تلبية هذه الطموحات أخشى أن يتجه البعض نحو تجزئة الكيان لتحقيق ذاته بعد فشله في توحيد الكيانات العربية. إنها لمفارقة أن نجزِّئ الأصغر بعد العجز عن توحيد الأكبر.
في النهاية، ربما يغني التفكير عن التغيير. بمعنى آخر، لو ذهب شيعة لبنان إلى إيران هل سيكون دورهم هناك أهم من دورهم الحالي في لبنان؟ لو ذهب سنّة لبنان إلى دول الخليج هل سيكون دورهم هناك أهم من دورهم في لبنان؟ لو ذهب مسيحيو لبنان إلى أوروبا هل سيكون دورهم هناك أهم من دورهم الحالي هنا؟ «القناعة كنز لا يفنى» حكمة وُجدت برسم اللبنانيين، فلنعتمدْها لئلا يَفنى كنزنا الغالي: لبنان.