التاريخ وكتابة التاريخ في لبنان في القرنين 19 و20 لأكسيل هافمان

النوع: 

 

كتاب التاريخ الموحد في لبنان مثار جدل فكري وسياسي واجتماعي نتيجة حدة الانقسامات العمودية والمدخلات والمخرجات السياسية بتأثيراتها المحلية والإقليمية والدولية التي تحصل في الساحة اللبنانية ساحة معقدة وبيوت كثيرة.

هل على اللبنانيين أن يكتبوا تاريخهم، هل يمكن التوصل الى كتاب تاريخ موحد، هل ثمة عملية وعي تاريخي مشتركة حول الحواصل التي شكلت فسيفساء البلد، هل يجب النظر الى كل الفسيفساء المتداخلة بإيجابية، بسلبية، بموضوعية؟ ثم هل ثمة عملية تضليل واضحة يقوم بها زعماء الطوائف والطبقة الحاكمة وزعماء الإيديولوجيا العقائدية ويبذلون جهداً يوظف لمصالح فئوية أو جهوية؟ ثم لماذا يشغل اللبنانيون بكتابة تاريخ موحد في جهد يشبه الاستحالة حيث كل فريق يريد أن يكتب التاريخ على طريقته؟

وإذا كان الكل يصرّ على كتابة تاريخه فما الفائدة من حروب الإيديولوجيات والمذهبيات والوجدانيات، فهل هناك من يقنع حزب الله اللبناني أن انتصاره على إسرائيل لم يكن انتصاراً إلهياً على الرغم من أنه كلّف آلاف القتلى والجرحى وكاد يسبب دماراً شاملاً لاقتصاد البلد؟ ومن بمقدوره أن يقنع زعماء الميليشيات إبان الحرب الأهلية أن حروبهم وانتصاراتهم وشهداءهم ليسوا شهداء الاستقلال؟

لكل طائفة زعماؤها وشهداؤها وانتصاراتها، إذاً كيف يمكن أن يخرج كتاب موحد بسحر ساحر يكون رافعة سحرية لطموح موقعي اتفاق الطائف لذوبان واع لكيانات طائفية تحوّلت الى كيانات جغرافية وسياسية ودينية وعقائدية أم ليكتب كل تاريخه الى أمد يعاد فيه تعميق الوعي التاريخي في المدارس والجامعات والأحزاب ويبنى البلد على ما يوحد حقيقة اللبنانيين.

مع ذلك ثمة من كتب تاريخ لبنان بتفاوت مبادئ الكتابة ومنهجيتها الأكاديمية. البعض سرد تواريخ الطوائف وما يخدم التشرذم الطائفي أكثر، والبعض اعتبر بوجدانية أن لبنان يعبّر عن مجتمع درامي ولكن مجتمع موحّد، البعض حاول أن يقدم صورة وردية عن حقبات طويلة نعم فيها البلد بحالات من الاستقرار مهمة وعلى مئات السنين فكتب نصاً مثالياً عن تاريخ لبنان الكبير، والبعض قدم صورة مراوغة عن الواقع ونوعاً من التسوية التوافقية مؤسسة على التمني لمواءمة الأحداث السيئة في الذاكرة الجماعية.

كان ممكناً التقدم في الكتابة لدى مؤرخي لبنان في محاولة التكيّف والمواءمة بين حدّين:حدّ خطاب حرب الآخرين على لبنان والتي ارتكبتها في مراحل متعددة التدخلات الخارجية والميليشيات الداخلية، وبين حدّ المسؤولية الداخلية للبنانيين عن نزاعاتهم الذاتية بفعل تركيبة الهيكل الأساس للبلد المنتج دائماً لأزماته بفعل الطائفية أو الهيكل السياسي للدولة الطائفية وليس الطائفية المركبة والبعض يفضل أنها مركبة سياسياً وليست معقدة سياسياً والدليل أنه جرى في مراحل عديدة تجاوزها بصورة مشرقة من العيش المشترك والاختلاط الديني والمستوى الثقافي والأدبي والإعلامي وعلى المستويات كافة وتفجرت هذه اللحظة تراكمياً في 14 آذار 2005 وحيث لا بد لأي كتاب تاريخ يعيد الاعتبار الى ذاكرة اللبنانيين في تلك اللحظة كنهضة اللبنانيين الثانية على المستوى الوطني والعربي والدولي وعلى المستوى الحداثوي بما شكلته من رفض أجيال كاملة وتعددية بكل أشكال العنف والقتل والعزلة والانغلاق والظلم وكل أشكال التقسيمات المذهبية والمناطقية ليحل محلها ذلك التشكيل اللبناني الذي مهد الطريق ولأمد طويل ليصبح لبنان وطناً طبيعياً.

لكن الى الآن كيف كتب اللبنانيون تاريخهم؟

د. اكسيل هافمان من جامعة برلين كتب العديد من الأبحاث وفي الميادين المختلفة عن البلدان العربية وتناول في كتاباته التاريخ الاجتماعي والثقافي الكلاسيكي الإسلامي وكذلك تاريخ لبنان.

كتاب اكسيل هافمان حمل عنوان“التاريخ وكتابة التاريخ في لبنان خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، الفهم الذاتي للتاريخ، أشكاله ووظائفه”، وصدر حديثاً عن المعهد الألماني للأبحاث الشرقية، في طبعة أولى 2011 وفي 380 صفحة.

يعالج الكتاب تطور الكتابة التاريخية تلك منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى وقتنا الحاضر(بالتأكيد لم تصل إليه مدوّنة مجلس الوزراء الأخيرة في الصيغة المستحيلة على الفهم والوعي حتى العام). دراسة هافمان تعنى إذاً بالأعمال التاريخية التي وضعت بأقلام مؤلفين لبنانيين كانوا أو لا يزالون يعيشون على أراضي الدولة اللبنانية الحديثة.

يدور السؤال الأساسي أو الإشكالية الأساسية في البحث حول العلاقة بين كتابة التاريخ والإيديولوجيا، أو التاريخ والهوية في سياق تطورات وتغيرات في العوامل التاريخية نفسها، والمناظرات، والنزاعات بين التيارات المذهبية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والفكرية(الطائفية أو القومية أو الاثنية).

يعطي الباحث في كتابه أهمية خاصة للفهم الذاتي للتاريخ داخل المجتمع اللبناني، وبمختلف الجماعات الكيانية، ولمسألة الوعي التاريخي القومي، ولصورة التاريخ في تواصله وتحوّله في كتابة التاريخ اللبناني، وكيف بدا ذلك نتاجاً ومرآة حقيقية لأشياء كثيرة وما خلف المرآة والأشياء نفسها.

تشمل المادة كتابات علمية مطبوعة وكتابات أخرى ذات طابع شعبوي، وبعض المخطوطات التي أصدرها مؤرخون لبنانيون معاصرون ومؤلفون آخرون، الى جانب مقابلات شخصية إبان فترة الحرب الأهلية.

المهم في الكتاب توقيته في حمأة السجال حول كتاب التاريخ الموحّد والذي طويت إحدى فصوله المتفجرة، وبما يساعد على فهم أشياء ما على أرضية مشتركة لجميع الأطياف، وما قد يساعد على فتح النوافذ المغلقة في أمل قيام رؤى مشتركة لكتابة تاريخ موحّد للكيان اللبناني.

في كتابة التاريخ لا يمكن فصل أي كتابة عن الشروط التاريخية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية وهي تمثل ارتباط المؤرخ بالزمان والمكان وما قد يوصل الى تاريخية نتائج بعينها. ثم هناك التأثير المتبادل بين الإيديولوجيا وكتابة التاريخ أو علم التاريخ، والأمر نفسه يسري على الهوية الذاتية والثقافية لبلد ما.

صعوبة“المسألة اللبنانية”من منظور المؤلف هافمان أنه لا توجد دراسة متماسكة حول كتابة التاريخ اللبناني الحديث. فحتى الآن لم يتم التطرق إلا لمحاولات جزئية وعند بعض المؤرخين.

يستفيد هافمان في دراسته من النظريات التاريخية والنظريات العلمية في مادة كتابة التاريخ يحاول النفاذ منها الى محاولة فهم كيف يبدو الفهم الذاتي لدي المؤرخ اللبناني؟ وما هي التغيرات التي يخضع لها، وما الذي يجعلها غامضة أو واضحة، وما هي التصورات والمقاصد وكيف تتفاعل مع محيطها الاجتماعي والثقافي، وما هي أشكال ووظائف ومضامين كتابة التاريخ نفسها؟

الأقسام

يقسم الدراسة الى أربعة أقسام:

-الأسس النظرية لكتابة التاريخ.

-الشروط المحيطة بكتابة التاريخ اللبناني.

-كتابة التاريخ اللبناني بين الواقع والادعاء.

-تاريخ لبنان في مرآة مؤرخيه.

وتدور الإشكالية حول الأسس النظرية لكتابة التاريخ نفسها، والوعي التاريخي كرابط بين الماضي والحاضر والمستقبل، والموضوعية والانحياز كعناصر ترتبط ببعضها في كتابة التاريخ وليس آخراً أشكال كتابة التاريخ ووظائفها.

القسم الثاني يرصد كيف انعكس التطور التاريخي في لبنان في النظرة الى الحاضر والمستقبل.

أما القسم الثالث، فيجري اختباراً مهماً بين الكتابات على اختلافها لإيضاح التغيرات والاستمراريات والتوجهات في كتابة التاريخ. وتربط الخاتمة بين الفصول لتطرح السؤال المركزي عن وجود وعي تاريخي أولاً و”عام”لرؤية التاريخ في لبنان. وتجدر الإشارة مسبقاً الى ان علم التاريخ الحديث ينتقد المطالبة بصورة تاريخية ملزمة، كما يعمل على القبول بصور عدة تكون الى جانب بعضها البعض، وذلك لأسباب متعلقة بالتاريخ الذي لم تعد مهمته الماضي فقط، بل يوميات الحياة المعاصرة نفسها والربط ما بين العلاقات السياسية السائدة، والصور التأويلية المختلفة التي صارت مقبولة وساهم بذلك في تطور الوعي العام والحياة التعليمية ووعي المشكلة الإنسانية بفعل العولمة، مع القدرة على النقد وتشكيل تعددية المنظورات. لذلك فالمطلوب هو ثقافة تاريخية توصل قوتها المعرفية الى عمل سياسي وفعل سياسي وعقل سياسي منظم، والتصرف والسلوك المناسب له. بذلك تكون مهمة علم التاريخ:لا النظر الى السلوك الإنساني، مع مراعاة الشروط التاريخية وتوضيحها فحسب، بل تحويلها الى ممارسة أيضاً. هنا تشكل كتابة التاريخ أداة حاسمة فعلاً.

يعطي اكسيل هافمان أهمية للجمعية السرية التي تأسست العام 1875، قوامها خمسة شبان مسيحيين ينتمون الى نخبة مثقفة نشطت في كنف الكلية البروتستانتية(الجامعة الأميركية)مع فروعها في طرابلس وصيدا ودمشق ومبادرتها في بعث القومية العربية ونشرها الى مساعيها في التحديث والإصلاح في الوسطين المسيحي والإسلامي، وقد قام بصياغة تصوراتها شبلي الشميل(1850 1917)وفرح أنطون(1874 1922)وهي تصورات بعيدة المدى في الدين والقومية والعلمانية.

ويعتبر هافمان المؤرخ يوسف الدبس الممثل للصورة التاريخية للموارنة بامتياز بوصفه مؤرخاً وبسبب مؤلفاته في هذا المجال، مع ما في ذلك من تناقض غريب مع مسلكية السياسي الذي يعكس موقفاً ليبرالياً فعلياً ويتجاوز الطائفية الى حد ما.

أما الأب بولس نجيم(1880 1931)فكان أول من قدم حياته كاملة لبناء الترابطات التاريخية في لبنان والتي قادت بول جوبلان الى إعادة رسم تاريخ الرقعة اللبنانية الصغيرة“كأمة صغيرة”.

من الكتّاب والمؤرخين الذين يعتبر هافمان كتاباتهم بداية الكتابة الاحترافية للتاريخ في عصر الانتداب:زكي النقاش وعمر فروخ وفؤاد افرام البستاني وأسد رستم وفيليب خوري وجواد بولس ومحمد جميل بيهم وفيليب حتي.

تكمن أهمية حتي في كتابه“عصر ما قبل التاريخ وبداية التاريخ”والذي جمع لأول مرة المعلومات المتوافرة وعلى 5000 عام من قبل مؤرخ لبناني وعرضها في إطار منطقة الجمهورية اللبنانية طبعاً بين خياري الانحياز او الموضوعية(…).

أما تصورات جواد بولس وشروحاته عن تاريخ لبنان، فتذكره بتصورات فرناند بروديل عن الزمن.

هذا إزاء تحقيقات جميل بيهم ذات الطابع العلموي والشعبوي حيث هي ليست تحقيقات أكاديمية لعالم في التاريخ سعى من خلال التحليل النقدي وتأويل المصادر من أجل بحث القضايا التاريخية.. مقابل أعمال أسد رستم الريادية في ميدان الوثائق الأرشيفية وقد التقى معه لاحقاً أحد أبرز طلابه قسطنطين زريق في بحثه النظري“نحن والتاريخ”في إطار مسؤولية المؤرخ السياسية والاجتماعية والإنسانية.

فاعلون جدد في كتابة التاريخ

أحمد عارف الزين(1884 1960)، السيد محسن الأمين(1867 1952)، محمد جابر آل صفا(1875 1945)في إطار خلفية الاعتزاز بالماضي الثقافي لجبل عامل ونهضته وأهمية التحرر والتبحر بالعلوم الشيعية ورفض لبنان المستقل، ورفض السيطرة الأجنبية(…)وتتلخص في ما يصفه الزين فلسفة البعد القومي للتاريخ الذي لا يعرف حدوداً زمنية ولا مكانية، الى جانب تمظهر“التاريخي”في أوساط شعب جبل عامل.

كتابة التاريخ منذ الاستقلال حتى الحرب الأهلية

-المؤرخ عادل اسماعيل والبحث في المصادر الديبلوماسية لعرض التاريخ السياسي وتأويله وهو يلتقي مع أسد رستم مع تفوقه على الأخير في أبحاثه الخاصة وتحليلاته ومن أهم أعماله دراساته حول الأمير فخر الدين ومرحلة الحركات(1840 1860)، واللافت رؤيته لفخر الدين صورة عن التكامل من أجل أداء متجانس لتعايش مختلف الجماعات وليس فقط المسيحية والدرزية ويعكس تأويل اسماعيل التاريخي موافقته على العلاقات السائدة في عصره.

-إيليا حريق في فرضيته التي لا تناقض الوقائع التاريخية وحسب بل تبالغ في تصدير الحركات الاجتماعية الريفية في دراسته نظام السلطة السياسي للإمارة في ظل الأسرة الشهابية، مع ذلك كتابه بعيد عن التعددية في المنهج والمضمون في الكتابة اللبنانية للتاريخ.

-توفيق توما(1919 1998)يذهب في الاتجاه نفسه لإيليا حريق في دراسة واسعة جداً(862 صفحة)يتناول فيها التاريخ السياسي والتصور الاقتصادي، الاجتماعي/ القانوني وتاريخ الكنيسة المارونية بمواضيع موثقة جداً مع تحليل عميق لبنى الإقطاع اللبناني ولفرادة الجبل وأصالته، لكنه لم يبد تعاطفاً مع الفلاحين رغم التقويم الإيجابي لأعمالهم التي اعتبرها ديموقراطية وعصرية بل تعاطف مع المؤسسة المارونية وكبار الأكليروس والنبلاء(…).

السعي لأجل كتابة تاريخ وطني

ينتمي كمال الصليبي(1929 2012)الى طائفة خاصة من الكتّاب بالجو الفكري والسياسي وبطريقة تعامله مع تاريخ لبنان وعناصر من المنهج التاريخي النقدي والرغبة في التدقيق بين مصالح ومواقف الجماعات المختلفة وبوعي الحقيقة التاريخية وتفكيك الأسطورة التاريخية أو بناء أسطورة جديدة منها.

سعى صليبي من أجل إبراز تركيبة المجتمع اللبناني والحفاظ على جذوره وتم الحفاظ على الموارنة بتشكيل أساسي وبوضوح تام وهو لم ينفك معجباً أشد الإعجاب بلبنان إلا أنه يمكن التشكيك بحججه أحياناً وحتى باستنتاجاته ومزاعمه سواء بشأن النظام الإقطاعي أو بخصوص أطروحة لبنان الملاذ أو المأوى. هذه النظرية طورها اليسوعي هنري لامنس(1862 1937)وهي فرضية لا تزال تدور في رأس كثيرين. أما اسطفان الدويهي(1629 1704)وطنوس الشدياق(؟-1861)وجبرائيل ابن القلاعي(1450 1516)فأعمالهم شكّلت مادة درس عليها الصليبي مادته ووصفها بالنماذج اليونانية القديمة واستخدمها للتأكيد على خصوصية أو خصوصيات لبنان(…)

المؤرخون اللبنانيون في ظل الحرب الأهلية

من بينهم عباس أبو صالح وتناول تاريخ طائفة الدروز منذ ظهورها من القرن الحادي عشر حتى الثورة على الفرنسيين.“وكتابه تصور ذاتي تبريري أكثر يهدف الى رفع شأن الدروز في توضيب توصيفي وتأويل للتاريخ.. واللافت هو نقاط التشابه بين تأويلاته وبين تصورات كمال جنبلاط(1917 1977)في تقدير التاريخ كتعبير عن حفظ الذات باعتبار ذلك أمرا حاسما بالنسبة لاستراتيجية البقاء وتجديد المذهب الدرزي”(…).

ويعتبر المؤلف هافمان الدكتور وجيه كوثراني واحداً من المؤرخين المهمين الحاليين في لبنان وهو مثال بارز على التبادل الضمني بين علم التاريخ والإيديولوجيا وهو يناقش تفكك السلطة العثمانية والتغلغل الأوروبي في سوريا ونشوء الوعي القومي العربي والحركات القومية، كما يدرس سياسة الإصلاح العثمانية بحذر ورزانة مع ذلك“لا يمكن تجاهل موقفه المتعاطف مع العثمانيين، الضامنين الشرعيين عن التضامن“العصبية”وعن الوحدة الإسلامية”.

وقد رد كوثراني بوضوح أن تأويلاته التاريخية لا تعني أنه معادٍ لـ”النزعة اللبنانية”أو موال لـ”الاستشراق”. ويعتبر هافمان كوثراني:من المؤرخين القلائل في لبنان الذين تفكروا في مهنتهم بشكل ظاهر.

في المقابل هناك المؤرخ جان شرف وتأويله للإيديولوجيا الاجتماعية أو للإيديولوجيات في إظهار الجذور التاريخية للثنائية المجتمعية في لبنان وبالنتيجة التي يخلص إليها لا تعايش سلميا بين الطوائف في لبنان ولا هوية وطنية في لبنان ولا مجال لتحقيق ذلك“في نقد محق في العديد من القضايا إلا أنها تصطدم بحدود معينة، وكتاباته هي انعكاس للكتابة التاريخية الطائفية نفسها”(…).

نماذج إيضاحية ايديولوجية لا طائفية

لا يجد المؤلف دراسة شاملة وضعها فيلسوف أو مؤرخ وعالم اجتماع لبناني ما خلا دراسة أحمد بيضون وما رافق طرحه النظري، وما يترتب عليه من نتائج وإشكاليات،“إذ انه حدد كتابة التاريخ اللبناني بشكل حصري انطلاقاً من الهويات الطائفية التي تبدو متناقضات عدائية غير قابلة للتغيير”(…)فيما“تعكس أعمال مسعود ضاهر موقفه الإيديولوجي الأساسي أكثر مما تعكس السعي لبحث أو لتحليل تاريخي موضوعي قدر الإمكان”. أما وضاح شرارة فهو“ممثل آخر للتحليل الاجتماعي والتاريخي من وجهة نظر ماركسية”، ويعتبر إحدى دراساته ذات أهمية حول أسس الطائفية اللبنانية(…).

إتفاق الطائف:نداء لبداية جديدة

مما كتبه المؤلف في هذه الفقرة:معظم المؤرخين اللبنانيين ومنهم من أجريت معهم مقابلات شخصية حول التصورات السياسية التربوية الواردة في وثيقة الطائف، وافقوا عليها من حيث الجوهر، اما حيال السؤال عن كيفية تحقيق توحيد تعليم التاريخ في المدارس والجامعات، وتحقيق تاريخ وطني منسجم من حيث المضمون، فكانت الأجوبة عليه مختلفة، بل ان بعضها كان متناقضاً بشكل واضح. فهي اجابات لا تؤكد في الحقيقة الا الآراء التي تم تبنيها من المؤرخين أنفسهم في منشوراتهم. أما في ما يتعلق باتجاهاتهم ومواقفهم الأيديولوجية فلم يتغير الشي

الكثير بعد الحرب الأهلية، هذا إذا كان ثمة تغير في الاساس(حول أبو صالح، كوثراني، شرف، ضاهر وشرارة). لم يتمكن القسم الأكبر من المؤرخين حتى الآن رغم إعلان النوايا المتبادلة، من ردم الفجوة بين طرق التفكير وأنماط السلوك المتفاوتة، أياً كان نوعها، والتوصل الى كتابة تاريخية وطنية. وللتدليل على ذلك نسوق أمثلة ثلاثة من فترة التسعينات.

1–عام 1993 صدر كتاب من جزءين بطبعة فاخرة وأنيقة حول“تراث لبنان وتاريخه”بمبادرة من حكومة رفيق الحريري، وبتمويل ونشر من قبل مؤسسته الثقافية“مركز الحريري الثقافي”. على مدى 26 فصلاً وبما يتجاوز الألف صفحة، تم عرض التاريخ اللبناني منذ بدايات عصور الشرق الأولى حتى حصول اتفاق الطائف عام 1989، الذي ينتهي نصه في ختام المجلد الثاني بنوع من النداء المناشدة الى جانب التاريخ السياسي، أخذت التطورات في مجالات الثقافة والاقتصاد والاجتماع حيزاً واسعاً. يضم الكتاب بشكل موحد اسهامات العديد من المؤرخين المرموقين من مختلف الطوائف، الى جانب بعض القانونيين وعلماء الاجتماع والسياسيين.على العموم أثبتت الفصول وجود نوعية علمية عالية، فهي في غالبيتها موثّقة بشكل اساسي، وبعضها مزوّد بجداول وخرائط. والملاحق المتعددة والفهارس المفصّلة تسهل عمل القارئ. ومع ذلك فليس من السهولة بمكان كسب الانطباع بأن الأمر يتعلق بعمل دعائي تقوم به حكومة الحريري، ان الرغبة في تطبيق النقاط المتعلقة باتفاق الطائف تبدو وكأنها الفكرة التي تقف وراء اصدار هذا الكتاب. يصعب التعرف على الخط الموحد، أو على المقاربة مع عرض وطني يتجاوز الطائفية، أو على تأويل للثقافة التاريخية اللبنانية. بغض النظر عن الترتيب التاريخي التعاقب

ي، وعن الكمال المضموني النسبي، فان الكتاب يفتقر الى الترابط الداخلي. فكل مساهمة مهما كانت جيدة، هي مساهمة قائمة بذاتها الى حد بعيد، وهي تعبر عن وجهة نظر كاتبها”.

ختاماً وفي ما يتعلق بأشكال كتابة التاريخ فان التوازن بين الحدين، الرواية والنظرية، كان موزعاً بشكل مختلف، وفي بعض الحالات لا يعرف الا واحداً منهما. هكذا كانت أعمال كل من جوبلان، حتي، وبولس، أو زين، سردية إلى حد ما، فيما كانت كتابات كوثراني وشرف وضاهر وشرارة تستبعد نظرية الرواية الى حد ما. بالطبع ثمة فوارق تدريجية، ولا يتعلق ذلك بشكل الكتابة التاريخية وحسب، إذ لم ينجح إلا القلة من المؤرخين بتقديم“رواية تاريخية”وأكثرهم اقناعاً كان كمال الصليبي في كتابه“بيت بمنازل كثيرة”، وبقدر أقل أيضاً عادل اسماعيل، وأبو حسين وعبد الرؤوف سنو.

يبقى ان تعكس وظائف كتابة التاريخ، لا سيما التطلعات وبعض العلاقات وتحولاتها، وأن توضح أيضاً الموقف التابع لكل منها في الوقت نفسه، قد ينطبق هذا على ما يبدو على كل أنماط كتابة التاريخ، بغض النظر عن مضامينها وأشكالها ومناهجها.

هل حقق الكتاب اللبنانيون ما أخذوه على عاتقهم في كتابة التاريخ؟ أو هل ذلك قابل للتحقيق أصلا؟ في معظم الحالات بدا لنا ان ثمة هوة بين الزعم والنتيجة، سواء كان ذلك بسبب عدم التوازن بين الموضوعية والانحياز، وهو ما يبدو بوضوح عند أبو صالح، أو بسبب فرضيات خاطئة أو غير محددة بدقة، أو بسبب طريقة تناول الموضوع المزمع التطرق اليه:مشروع كتاب مؤسسة الحريري، المؤتمر حول الكتابة المستقبلية للتاريخ، الحوار التلفزيوني. ولهذا السبب فان مقولة“العلمية”محدودة في العديد من الأعمال، هذا إذا ما تم استخدامها في الاصل.

من جهة أخرى لا بد من الاشادة بجهود بعض المؤرخين لا سيما في ما يخص التوجه النظري في أعمالهم، حيث انه تم الاستناد بوضوح وفي آن واحد الى نماذج عربية، وإلى ابن خلدون بالدرجة الأولى، وإلى مؤرخين أوروبيين، أو إلى تصوراتهم مثل كوثراني وشرف. إلا أن التقيد القدري بنظريات محددة أو بأيديولوجياتها يوصل أحياناً إلى إبقاء المعرفة التاريخية ثابتة، لأنه على البيانات المتوفرة أو التي تم الكشف عنها ان تظل تابعة لنموذج معطى سلفاً. هذا ما حصل الى حد ما مع الكتاب الماركسيين. ويبدو ان هؤلاء المؤرخين قد تطلعوا بصدق أكبر إلى عمل أقرب ما يكون إلى الموضوعية، وإلى النقدية الحيادية، ما يبعد عن التكوين النظري المجرد، ويوجب تفحص الفرضيات والمصادر المتوفرة. ينطبق ذلك على استخدام المصادر الأدبية السردية وتأويلها،

وعلى الروايات والمعلومات المنقولة شفهياً، أو من الوثائق الأرشيفية مثل الصليبي وابو حسين وعبد الرؤوف سنو.

هل يوجد وعي تاريخي ورؤية تاريخية في لبنان؟ يجب ان يكون الجواب بالنفي أساساً. باعتبار أن السعي قد طال الاثنين معاً، نتيجة لتصورات اتفاق الطائف مثلاً، فان الأمر بات يتعلق أساساً باستبدال النظريات المتناقضة بايديولوجية مطلقة ملزمة، لا بالسعي“للوحدة في التنوعية”. وحده أحمد بيضون دعا الى تغليب هذه النظرية، علماً ان الصليبي قد حاول تحقيقها موضوعياً لأول مرة من خلال كتاباته التاريخية.

رغم كل المشاكل والصعوبات، فان ثمة علامات على ظهور علم تاريخي ليبرالي منفتح، وكذلك ثقافة تاريخية متسامحة. لقد قطع بعض المؤرخين خطوات في ذلك الاتجاه ، وأوجدوا فرصاً تعد بتحولات ايجابية.

ومع ذلك فما زال الجليد رقيقاً. لكن بفضل الحالة التي توحي بالاحساس بالانتماء المشترك الذي ما زال موجوداً لدى العديد من اللبنانيين، أو الذي عاد للظهور مجدداً، فان لبنان استطاع ان يستمر رغم كل الأزمات. ان اختبار الألم المشترك الناجم عن الحرب قد أمّن اللحمة للشعب، وربما لأول مرة. فالتقاليد البرلمانية الديموقراطية والتعددية الأكاديمية والذهنية–الفكرية، تشكلان قوة موازنة مقابل أطراف الحرب المتنافسين من أيديولوجيين وقوميين. ومن أجل الحفاظ على عناصر الانتماء المشترك هذه وتقويتها، على لبنان دون شك أن يجد طريقة لائقة لإلغاء الطائفية من المجتمع، أو أقله إدماج الهوية أو(الهويات)الطائفية في هوية وطنية. إن إعادة توجيه الفكر التاريخي والكتابة التاريخية هي خطوة حاسمة في هذا الاتجاه. ولا يمكن التكهن بشيء واضح بالطبع .إن ذلك ينطبق على تاريخه بالقدر نفسه الذي ينطبق فيه على كتابة تاريخه.

التاريخ: 
الاثنين, مايو 14, 2012
ملخص: 
صعوبة“المسألة اللبنانية”من منظور المؤلف هافمان أنه لا توجد دراسة متماسكة حول كتابة التاريخ اللبناني الحديث. فحتى الآن لم يتم التطرق إلا لمحاولات جزئية وعند بعض المؤرخين. يستفيد هافمان في دراسته من النظريات التاريخية والنظريات العلمية في مادة كتابة التاريخ