قانون الانتخاب أولوية استثنائية!
ليس مردّ أزمة لبنان المزمنة قيام سلطة الوصاية السورية، بمؤازرةٍ من حلفائها اللبنانيين، بإخراج العماد ميشال عون بالقوة من القصر الجمهوري قبل 26 سنة والتسبّب بنفيه الى فرنسا. الأزمةُ تعود بجذورها الى عهد الاستقلال الناقص سنة 1943. سببُها الرئيس سوء إدارة التنوّع اللبناني باعتماد صيغة غير متوازنة لنظام الانتخاب الأكثري، فصّلتها سلطة الانتداب الفرنسية وكيّفتها الشبكة الحاكمة اللبنانية على مقاسها بغية إعادة إنتاج النظام الطائفي الكونفدرالي، وتدويم بقائها في السلطة الى أبد الآبدين.
الرئيس ميشال عون أدرك عمق الأزمة المزمنة وحدّتها، فضمّن خطاب القسم طريقةً لمعالجتها بقوله: « فرادة لبنان هي بمجتمعه التعددي المتوازن، وهذه الفرادة تقضي بأن نعيش روح الدستور من خلال المناصفة الفعلية، وأول موجباتها إقرار قانون انتخابي يؤمّن عدالة التمثيل قبل موعد الانتخابات المرتقبة».
هكذا يتضح أن قانون الانتخاب يحتل في تفكير الرئيس الجديد أولوية ماثلة، وأنه الصيغة والوسيلة الضروريتان لتصويب إدارة التنوّع، وأن شرطه الأساس توفير عدالة التمثيل لتأمين الاستقرار والوحدة الوطنية. كيف؟
يجيب الرئيس عون: «باحترام الميثاق والدستور والقوانين من خلال الشراكة الوطنية (...) وفي هذا السياق تأتي ضرورة تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني (الطائف) بكاملها من دون انتقائية أو استنسابية وتطويرها وفقاً للحاجة من خلال توافق وطني».
يعرف الرئيس بالتأكيد أن إصلاحات وثيقة الوفاق الوطني جرى إدماج معظمها في متن الدستور سنة 1990، وأن دعوته إلى تنفيذها بكاملها من دون انتقائية أو استنسابية تعني في الواقع تطبيق أحكام الدستور بدقة وبلا إبطاء. كما يعرف الرئيس أن ذلك كله يتطلّب، أولاً، إعادة تكوين السلطات والمؤسسات العامة، وأن إنجاز هذا الشرط الدستوري والسياسي يكون بإجراء انتخابات عامة، وأن ذلك يتطلّب بدوره، وبالسرعة الممكنة، «إقرار قانون انتخابي يؤمّن عدالة التمثيل قبل موعد الانتخابات المرتقبة».
وعليه، ندعو الرئيس ميشال عون الى تنفيذ دعوته تحديداً بنهج غير تقليدي، في إطار أحكام الدستور، ومن خلال حكومة يجري تأليفها بالتعاون مع رئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة المكلّف ورؤساء الكتل البرلمانية، كما بالانفتاح على القوى الوطنية والديموقراطية والتقدمية الحيّة التي طالما حاورها من موقعه الوطني والسياسي وتبنّى مطالبها الإصلاحية، لا سيما اعتماد النسبية في قانون الانتخابات النيابية.
كان لافتاً خلال جلسة انتخاب رئيس الجمهورية تقاطع خطابَيْ الرئيس عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري حول ضرورة إقرار قانونٍ للانتخابات يؤمّن عدالة التمثيل. ولا يُخفى على أحد أن كتلة «التحرير والتنمية» البرلمانية التي يرأسها بري، كما كتلة «الوفاء للمقاومة» ومجموعة الرئيس نجيب ميقاتي ونواب «الحزب السوري القومي الاجتماعي» وحزب «البعث» وغيرهم من النواب يؤيدون تكتل «التغيير والإصلاح» ورئيسه الجديد الوزير جبران باسيل في دعوته الى اعتماد النسبية في قانون الانتخابات النيابية. ذلك كله يساعد الرؤساء عون وبري والحريري (إذا أراد) على تأليف حكومة تلتزم اعتماد مشروع قانون انتخابي على أساس النسبية وإقراره في مجلس النواب.
من المحتمَل جداً أن تنبري قيادات وتجمّعات سياسية إلى معارضة النسبية وأن تلجأ إلى أساليب ملتوية، طائفية وبرلمانية، لتعطيل إقرار قانونها في مجلس النواب، فما العمل؟
ندعو الرئيس عون، بما هو قائد وطني من خارج الشبكة الحاكمة ومعارض متشدّد لنظام الفساد والمحاصصة إلى أن يلجأ لاستخدام صلاحياته الدستورية لضمان تأليف حكومة جامعة تتبنّى مطلب النسبية، وذلك برفض توقيع مرسوم تشكيلها ما لم تتعهّد بإقرار المطلب الإصلاحي الشعبي المذكور. فالفقرة 4 من المادة 53 من الدستور تنصّ على أن رئيس الجمهورية «يصدر بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم». هكذا يتضح أن من حق رئيس الجمهورية، عندما لا يتوصل الى اتفاق مع رئيس الحكومة (المكلّف) بشأن تركيبتها أو برنامجها، أن يرفض توقيع مرسوم تشكيلها إلى أن يتوصل الرئيسان إلى اتفاق.
أكثر من ذلك، ليس كثيراً على الرئيس عون أن يشفع استخدام صلاحيته الدستورية موضوع المادة 53 من الدستور باللجوء إلى الشعب والانخراط علناً، بشخصه كما بمناصري «التيار الوطني الحر»، في الحراكات الشعبية المطالبة بقانون عادل للانتخابات على أساس النسبية. بل ليس كثيراً على الرئيس نبيه بري أيضاً أن يعلن من موقعه الوطني والنيابي دعمه لمطلب الحراكات الشعبية، وأن يدعو أنصاره إلى المشاركة فيها.
قصارى القول، إن ازمةً مزمنة وحادّة عمرها من عمر استقلال البلاد تتكرّر بلا هوادة كل بضع سنوات، لا يجوز أن تعالَج بأسلوب تقليدي مكرور جوهره المحاصصة والمراوغة. ففي الظروف الاستثنائية، ونحن اليوم في قلبها، يقتضي اتخاذ تدابير استثنائية في إطار الدستور، كما بموجب أحكام الضرورة، من أجل الخروج بالبلاد من معمعتها المتأججة.
يعوّل ألوف اللبنانيين على الرئيس ميشال عون ليترجم في سدّة الرئاسة ما كان يدعو إليه ويَعدهم به في زمن المعارضة.
دقت ساعة الوفاء.