المسيحية المقاتلة" في الوضع اللبناني: أزمة معنى ودور

النوع: 

قيل

منذ 26 نيسان 2005، تاريخ خروج آخر جندي سوري من لبنان، لا تنقسم المسيحية السياسية داخل النظام الطائفي اللبناني الى فريقين متصارعين فحسب، بل ايضا – وربما كان هذا هو الأهم في السياق المتعلق بصورة لبنان – تشهد هذه المسيحية السياسية انقساما صراعيا بين نوعين من ورثة "المسيحية المقاتلة" التي عرفتها الحرب الاهلية بين 1975 و1990، هما اساسا "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع والى جانبها "حزب الكتائب" برئاسة الشيخ امين الجميل من جهة، و"التيار الوطني الحر" بزعامة العماد ميشال عون من جهة اخرى.

لهذا كانت معركة انتخابات "المتن الشمالي" آخر حلقة حساسة من حلقات هذا الصراع المستمر ضمن الازمة الوطنية – الخارجية المندلعة منذ صدور القرار 1559. كان رمزان من اكبر الرموز المتبقية لـ"المسيحية المقاتلة" التي وُلدت بعد تأسيس "لبنان الكبير"... مع "حزب الكتائب" وتبلورت في الحرب الاهلية – الخارجية عام 1958... هما اللذان يتواجهان: امين الجميل الوريث الكلاسيكي لخطاب هذه "المسيحية المقاتلة" في الصيغة اللبنانية وميشال عون الرمز الذي انتجته سياسيا المرحلة الاخيرة من حرب 1975 – 1990 في النصف الثاني من الثمانينات وتبلور وضعه يومها كرمز لـ"المسيحية المقاتلة" في سياق ضد سيطرة "القوات اللبنانية" الكتائبية المنشأ وحزب الكتائب على مناطق المسيحيين في جبل لبنان الشمالي وعلى خط تماس عسكري هو ما كان يعرف بـ"جبهة سوق الغرب".

صحيح ان امين الجميل في ما آل اليه وضعه هو الآن اقرب الى ممثل لاحدى العائلات المسيحية التقليدية، فيما سمير جعجع كقائد لـ"القوات اللبنانية" عاد عمليا هو الرمز الاكثر التصاقا بدور "المسيحية المقاتلة" ضمن صيغة "ميليشيات الطوائف" او "احزابها" المسلحة كما هو الحال عند السنة والشيعة والدروز.

صحيح ذلك... لكن "الرمزية" في المتن الشمالي هي ان "العصب القتالي" في الخطاب السياسي كان بين هذين النوعين من "المسيحية المقاتلة" التي تنتمي ولو بالوان مختلفة الى ارث الدفاع المسلح عن "الكيان" في الازمات الوطنية.

في انتخابات المتن ينبغي الا ننسى، على كثرة القوى التي شاركت فيها، ان الخطابين اللذين تنافسا، كانا بسبب حدة المواجهة وخصوصيتها، خطابين متطرفين ينضح منهما ارث هذه "المسيحية المقاتلة"... مع ان المفارقة، بل احدى اهم المفارقات التي قدمتها هذه الانتخابات وتحتاج الى الكثير من التأمل، هو ان البيئة المسيحية اظهرت حاليا في جو الاحتقان العميق الداخلي – الاقليمي ان البيئة المسيحية في لبنان هي البيئة الوحيدة التي تتحمل تنافسا سلميا (اي انتخابيا) في حين من المستحيل تصور امكان احتمال البيئات الاخرى السنية الشيعية الدرزية معارك انتخابية – اي سلمية – في الجو الحالي. وفي بيروت كان خوض معركة انتخابية جدية يعني حربا اهلية. وهكذا يمكن تصور الامر نفسه لو طُرح الموضوع مثلا بالنسبة الى البيئة الدرزية في بعبدا – عاليه، او الشيعية في مرجعيون – حاصبيا، او في الضاحية الجنوبية لبيروت، الا حيث السلم ناتج عن كون المعركة محسومة سلفا.

فهل سبب هذه "الظاهرة" الديموقراطية في البيئة المسيحية هو الانقسام العميق الحاصل داخلها بما يمنع سيطرة جهة واحدة ام هي ميزة ما ديموقراطية حاليا لهذه البيئة واجزاء كبيرة من جمهورها ونخبها ام كلا العاملين معا؟

· · ·

كل ما سبق هو للتوصيف... كمقدمة ل"هدف" آخر لهذه المقالة... هو طرح السؤال التالي:

ماذا يعني استمرار الدور الفاعل في بيئة المسيحيين اللبنانيين لتيارات "المسيحية المقاتلة" التقليدية وتأثيره على موقع هذه البيئة في مستقبل الصيغة اللبنانية التي تشهد فعلا تحولا اقليميا عميق الشحنة، واقوى حتى من شحنته داخل لبنان هو الحساسية السنية – الشيعية التي تتبلور تحتها او باسمها  او عبرها صراعات متعددة الدول والمصالح وفي مرحلة تجري فيها ربما اكبر محاولة لحل الصراع العربي – الاسرائيلي في حلقته الرئيسية الفلسطينية بما سيساهم في فتح آفاق المنطقة على هذا الجو السني – الشيعي الذي رغم كل ما يقال، لا سابقة له لتوتره بهذا الشكل في التاريخ الحديث للمنطقة، وهنا اعني بالتاريخ الحديث المائتي عام الاخيرة، ولربما، وإن كان هذا التحديد من شأن المؤرخين، لا سابقة لهذه الحساسية منذ انتهاء الصراع الصفوي – العثماني قبل ثلاثمائة عام... بالمعنى الجيوبوليتيكي حين يدور الصراع السياسي بين الدول وحول الدول... ولربما ايضا وايضاً، منذ نهاية العصر العباسي، مع فارق ان الشيعية المسيطرة في مواجهة الدولة العباسية كانت الشيعية الاسماعيلية (الفاطمية) وهي الشيعية السائدة آنذاك، في حين اختلف الامر – حتى عدديا – بعد العهد الصفوي مع انتشار الشيعية الجعفرية وتحولها الأكثر عدداً بين الفرق الشيعية؟

لقد عرف القرن العشرون، قرن نهاية الامبراطورية العثمانية وولادة دول المنطقة الحالية، ثلاثة انواع بارزة من "المسيحية المقاتلة" في الشرق. الاولى في السنوات الاخيرة للدولة العثمانية ومثلتها الاحزاب الارمنية في جنوب شرق وغرب الاناضول خلال الحرب العالمية الأولى. اما الثانية، وهي الاولى مع ولادة دول المنطقة، فكانت الحركة الاشورية المسلحة في شمال العراق في اواخر العشرينات والتي انتهت بنكبة ديموغرافية سياسية في منتصف الثلاثينات من القرن العشرين مع الضربة التي تلقتها هذه "المسيحية المقاتلة" على يد الجيش الملكي العراقي (وبعدها فورا قام قائد هذا الجيش اللواء بكر صدقي باول انقلاب عسكري في العالم العربي عام 1936. فهل هذا صدفة؟!)... الا ان النتيجة الاهم لتلك الاحداث كانت عمليا خروج "الاشورية السياسية" من معادلة الحكم الداخلي في العراق. وما يحدث الآن ليس الضربة الاولى بل هي التصفية النهائية إذاً ديموغرافيا بعد ضربة الثلاثينات السياسية.

"المسيحية المقاتلة" الابرز هي التي شهدها "الكيان اللبناني".

القرن العشرون بـ"مسيحية مقاتلة" وبدون "مسيحية مقاتلة" (كما هو الحال في فلسطين التي انخرط فيها المسيحيون بقوة في الحركة الوطنية الفلسطينية منذ ولادة المشكلة في العشرينات) هو قرن تراجع ديموغرافي - سياسي لدور المسيحيين في المنطقة.

السؤال هو: هل ازمة المسيحيين اللبنانيين بما هي فعلا جزء عميق من ازمة الصيغة اللبنانية، باتت تطرح معضلة دور "المسيحية المقاتلة" في الرد على القلق الكياني؟ وهل السؤال يتعلق بـ"قتالية" هذه المسيحية في وقت تتزايد فيه سيطرة "المدارس القتالية" (بسلاح وبدون سلاح) في الطوائف الاخرى، ام هو يتعلق بالرؤية الفكرية – السياسية لموقع المسيحيين، وهذا يعني ابطال قيمة السؤال من حيث حصره ب"المسيحية القتالية" ليصبح متعلقاً بالبنى الاجتماعية – الكنسية – الثقافية – الإقتصادية لكل البيئة المسيحية؟

ثم بعد ان "أبطل" سؤالٌ سؤالاً... ما هي مسؤوليات نخب الطوائف (او الطائفيات) الاخرى... التي سمتها الاساسية – واعني النخب السياسية والسلطوية – انها تبدو مشغولة بنفسها اي بموقع الجماعة التي تسيطر على تمثيلها... حتى لو اظهرت  هذه النخب الدرزية السنية الشيعية خطابا عن "لا قيمة للبنان بدون المسيحيين".

لكن بين الخطاب والمسؤوليات العملية هوة لا اقول سحيقة فقط ولكن معقدة جدا ايضاً بحيث يبدو في معظم الأحيان لأسباب عديدة انه لا صلة بين خطاب الحرص على المسيحيين والمجرى الفعلي للامور؟

الكاتب: 
جهاد الزين
التاريخ: 
الجمعة, أغسطس 17, 2007
ملخص: 
السؤال هو: هل ازمة المسيحيين اللبنانيين بما هي فعلا جزء عميق من ازمة الصيغة اللبنانية، باتت تطرح معضلة دور "المسيحية المقاتلة" في الرد على القلق الكياني؟ وهل السؤال يتعلق بـ"قتالية" هذه المسيحية في وقت تتزايد فيه سيطرة "المدارس القتالية" (بسلاح وبدون سلاح