الحرب التي وضعت المسيحيين في مواجهة أنفسهم!

النوع: 

 

السردية "الرسمية" للمسيحيين عن الحرب الأهلية سردية دفاعية بالدرجة الأولى. بمعنى أنّ المسيحيين يستعيدون الحرب انطلاقاً من موقفهم الدفاعي عن الدولة و"الكيان" أولاً، وعن أنفسهم ثانياً، في وجه السلاح الفلسطيني. هذه السردية، وإن كانت تتشعب لتتناول أسباباً أخرى لاندلاع "الأحداث" كالصراع على السلطة، إلّا أنها لا تخرج عن مبدئها الدفاعي الأول، أي أنّها تردّ اندلاع النزاع بشكل أساسي إلى محاولة "الفلسطينيين" السيطرة على المجال اللبناني. هذه قراءة وإن كان يصعب نفيها بالمطلق، إلّا أنّها تغفل السياق السياسي للحرب، وتقلّص إلى حدّ بعيد إمكانات نقد المسيحيين لتجربتهم فيها. فمن يكون في موقع دفاعي لا يمكن مطالبته بمراجعة نقدية طالما هو لم يعتد أو لم يبادر إلى الهجوم، ولا هو يجد حاجة لمثل هذه المراجعة. وبالتالي خطورة هذه السردية أنّها تنفي أي مسؤولية للمسيحيين عن الحرب، وبالتالي تحمّل "الآخرين" المسؤولية كاملة عنها، سواء كانوا الفلسطينيين أو المسلمين اللبنانيين. وتحميل "الفلسطينيين" المسؤولية الأساسية عن الحرب، هو في جزء منه مخرج للفئات اللبنانية يتيح لها المناورة والهروب من تحمل مسؤولية أخطائها في الحرب وما قبلها.

هكذا يرى النائب الأول لرئيس "حزب الكتاب" جوزيف أبو خليل أنّ "تجنب الحرب كان مستحيلاً. إذ كيف يمكن تجنبها في ظل تناقض سلطة الدولة مع سلطة الثورة الفلسطينية التي أرادت وضع يدها على لبنان". لا يشير أبو خليل بداية إلى أي عامل  لبناني في اندلاع الحرب، لكنّه يستدرك لاحقاً أن "ثمّة أفرقاء لبنانيين استخدموا السلاح الفلسطيني في معركتهم للاستيلاء على السلطة بوسائل غير شرعية، مدعّين المطالبة بإصلاح النظام". ثمّ لا يلبث أن يعيد التأكيد أنّ "المسألة الأساسية لم تكن يوماً حاجة النظام إلى الإصلاح، وإلا لكانت استوت الأمور بعد اتفاق الطائف، إنما المشكلة كانت في استخدام لبنان ساحة للصراع مع إسرائيل من جانب الفلسطينيين بداية". وهذه سردية تحيلنا إلى تجنّب نقاش الأسباب اللبنانية للحرب، كونها لا تزال موضوع احتدام داخلي لم تتخطّاه أطراف الحرب جميعاً، التي يتمسك كل منها إلى حد بعيد بسرديته الأساسية عن النزاع، وهو ما يؤكد ضعف المراجعات التي حصلت في شأنه، كما يؤكد أن قضاياه لم تمت بمرور الزمن، لا بل هي تعيد انتاج نفسها وإن بسياقات مختلفة.

في المقابل يضع النائب السابق سمير فرنجية الحرب في سياقها اللبناني الصرف. فهو إذ يرى، بخلاف أبو خليل، أنّ تجنب الحرب كان ممكناً، يعتبر أنّ الحرب وقعت نتيجة تراكم أخطاء لا يتحمل مسؤوليتها فريق بعينه. وهو يرجع بداية هذا التراكم إلى عملية تفشيل تجربة فؤاد شهاب لإصلاح الدولة، والتي يتحمل مسؤوليتها الأفرقاء جميعاً، وتحديداً الأحزاب ذات البعد الطائفي، سواء المسيحية أو الإسلامية. فالطرفان أخطآ بمجرد اعتبارهما أن في استطاعتهما الاستمرار في الصراع على السلطة من دون انفجار البلد". يضيف فرنجية: "الموقف المسيحي كان أنّ الإصلاح غير ممكن، ولا نستطيع إعطاء المسلمين ما يطالبون به لاننا غير ضامنين لوطنيتهم"، وبالتالي رفض المسيحيون "الإصلاح، بينما اعتبر المسلمون أن في إمكانهم ان يتحالفوا مع أي كان لتحقيق العدالة".

 إذاً، يغلّب فرنجية، بخلاف أبو خليل، الأسباب اللبنانية لإندلاع الحرب على أي عامل آخر. لكن في الواقع لا يتناول الرجلان الحرب من الزاوية نفسها.  فأبو خليل في تركيزه على الموقف الدفاعي للمسيحيين يشرح الحرب في سياق ميداني بالدرجة الأولى، على العكس من فرنجية الذي يتناولها في سياقها  السياسي العام. وهذا ليس تفصيلاً في قراءة موقفهما، خصوصاً أنّ أي مراجعة مسيحية لتجربة الحرب لا يمكن أن تبدأ منها حصراً، إذ لا مناص من  قراءة تجربة ما بعد الاستقلال وصولاً إلى عشيات الحرب، وهي تجربة كان المسيحيون لاعبين أساسيين فيها. وعليه أي إغفال لهذا الجانب يُخرج أي  مراجعة للحرب من سياقها التاريخي وبالتالي يعرضّها للتبسيط. علماً أنّ فرنجية لا يغفل الجانب الميداني من استعادته النقدية للحرب، وهو يعتبر أنّ أهمّ  ما قيل في هذا الشأن ما ورد في الإرشاد الرسولي لجهة القول إنّ "الكنيسة شاهدت أبناءَها يُقتلون ويَقتلون ويتتقاتلون"، أي أنّهم لم يكونوا ضحايا  فحسب، كما تدأب الرواية المسيحية "الرسمية" على القول، في تركيزها على موقفها الدفاعي في الحرب. لكن فرنجية يرى أنّ معظم الأحزاب المسيحية  التي شاركت في الحرب لم تجرِ مراجعة جدية لتجربتها فيها. هنا يذكر الرجل إعتذار الدكتور سمير جعجع عن أخطاء "القوات اللبنانية"، من دون أن  يعتبر ذلك كافياً على مستوى الطبقة السياسية المسيحية عموماً. في المقابل تمتّ مصالحة عفوية بين اللبنانيين في الشارع، عندما نزل المسيحيون إلى  ساحة الشهداء للتضامن مع شهيد مسلم في 14 شباط 2005، وهذا تحول أساسي لم يجد تعبيره السياسي بالشكل الكافي، بحسب فرنجية، خصوصاً أنّ  الرواية المسيحية تجنح إلى تبرئة نفسها دائماً، وهي تستعين برفع المسلمين لشعار "لبنان أولاً"، لـ"تأكيد صوابية خياراتها منذ البداية مقابل خطأ المسلمين بالإنحياز إلى الثورة الفلسيطينية وتسخيرها في اللعبة الداخلية"، بحسب أبو خليل. لكنّ التمايز في قراءة أسباب الحرب، لا يمنع اتفاق الرجلين على أنّ المسيحيين تعلموا من تجربتها، وأنّهم لا يريدون تكرارها ودفع مزيد من الأثمان مقابل انتصارات وهمية، كما يقول أبو خليل. علماً أنّ هذا لا يعني، بحسب فرنجية، أن صفحة الحرب طويت نهائياً في ظلّ عدم مساهمة أفرقاء أساسيين، وتحديداً العماد ميشال عون و"حزب الله"، في طيّها، خصوصاً بعد العام 2005، بعدما كانت "الوصاية السورية" بين عامي 1990 و2005 قد قلّصت احتمالات الخروج من حالة الحرب.

في المحصلة، شكلّت الحرب الأهلية محطة مفصلية في تاريخ المسيحيين اللبنانيين، إذ أعادت تأسيس اللعبة الداخلية على أسس جديدة، لم يستطيعوا حتى اللحظة التأقلم معها. أي أنّ الحرب وضعت المسيحيين في مواجهة مع أنفسهم أولاً قبل أن تضعهم في مواجهة مع الآخرين. فإندلاعها كان إيذاناً بسقوط "النظام" الذين كانوا ركنه الرئيسي، ما وضعهم أمام تحدٍ غير مسبوق منذ العام 1920، إذ وجدوا أنفسهم مضطرين، مرّة أخرى، للتفكير في خياراتهم ومستقبلهم في البلد التي انفجرت تناقضاته في وجههم. حاول الرئيس بشير الجميل أن يطرح مشروعاً إصلاحياً من داخل النظام لكنّه سقط باغتياله الذي شكّل نكسة كبرى للمسيحيين جعلتهم يتأرجحون من جديد بين انتمائهم إلى "لبنان الكيان" والتفكير في مشاريع بديلة. إلى أن كان اتفاق الطائف عقب "اقتتالهم الأخوي"، الذي لم يترك لهم أي مجال للمناورة، فكان هذا الاتفاق أشبه بإعلان هزيمة لهم، كونه سلبهم إمتيازهم الأهم، أي صلاحيات رئيس الجمهورية، لكنّه من جهة أخرى كان الصيغة الوحيدة المعقولة لـ"الحفاظ على الكيان"، والتي تمنحهم خارج موازين القوى والواقع الديموغرافي اللذين انتجتهما الحرب "نصف السلطة". وعليه انتهت الحرب إلى تعميق حيرة المسيحيين، فلا الطائف طمأنهم، بالرغم من أنه خلاصهم الوحيد، بحسب فرنجية، لأنه يؤسس للدولة المدنية، ولا هم قادرون على صياغة أي مشروع بديل!

الكاتب: 
إيلي القصيفي
المصدر: 
التاريخ: 
الثلاثاء, أبريل 12, 2016
ملخص: 
شكلّت الحرب الأهلية محطة مفصلية في تاريخ المسيحيين اللبنانيين، إذ أعادت تأسيس اللعبة الداخلية على أسس جديدة، لم يستطيعوا حتى اللحظة التأقلم معها. أي أنّ الحرب وضعت المسيحيين في مواجهة مع أنفسهم أولاً قبل أن تضعهم في مواجهة مع الآخرين. فإندلاعها كان إيذانا