"مخطّط كبير" يلاحق جنبلاط... والمواجهة في بداياتها!
إحتاجت واقعة البساتين أياماً معدودة فحسب، حتى تكشّف النقاب عن اللغز السياسي الذي بدا أكثر وضوحاً وعمقاً من أحجية اطلاق النار والنار المضاد، وهو كان قد كشفه تصريح الوزير محمود قماطي في زيارته عشية الحادثة الى دارة خلدة، اذ قال: “ولّى عصر الميليشيات”. وما لبثت خلفيّة موقف قماطي أن برزت، في خُطب الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله، وما تلاها من مواجهات علانية صوّبها رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على “رأس الهرم”، خالعاً “كرافات” التأنّق السياسيّ. ويبدو جليّاً أن الاسابيع المقبلة ستشهد اشتداداً في سرعة العصف التي تستهدف قصر المختارة، وفق أوساط سياسية مطّلعة على واقع مآلات المواجهات. فلا حلول في أفق البساتين وجوارها، بل مستوى جديداً من التصعيد، الذي تتخوّف الأوساط من ان يحمل معه دماءً مسفوكة ويقود الى الانجرار نحو لعبة التقاتل، وهذا ما هو ظاهرٌ في بلّوْرة التطورات المرتقبة.
وتتلقف الأوساط محاولات خطيرة لضرب الاستقرار في البلاد واللعب بالدمّ، وهي لعبة يرفض جنبلاط الدخول فيها الا اذا أجبر عليها. فالقضية أبعد من واقعة البساتين، في ظلّ مخطط جهنمي ينفّذ في هذا الاتجاه.
ويسير جنبلاط في معركته السياسية و”البحر أمامه والعدوّ وراءه”، ولا خيارات سوى المواجهة أو الاستسلام الذي يريده “حزب الله” على شاكلة تطويعٍ والسير في مشاريع مشبوهة هدفها اضعاف موقع رئاسة الحكومة، وضرب اتفاق الطائف، ومصافحة النظام السوري. ويرفض زعيم المختارة شروطاً مماثلة تبدو أبعد من حدود الشحار وحادثته الزمانية الواقعة في صيف 2019. ويستقرئ ذهنيّةً تريد ارجاعه زمانياً أيضاً الى آذار 2005، ونقله مكانياً الى دمشق بواسطة سيارة الوزير صالح الغريب المخردقة. وتختصر الأوساط حرب السفر عبر الزمن، بأمر عمليات صادرٍ من غرف اقليمية سوداء ينفّذه محور الممانعة.
لا يستمدّ جنبلاط صموده ولا يغذّي نبرة حنجرته العالية من همسٍ دوليّ في أذنيه. فلا دعم غربيّاً كما يروّج اعلامياً منذ أيام، وهي محاولات يقودها محور الممانعة لرسم علامات استفهام على دوره السياسي، وفق الأوساط. ويقاتل جنبلاط وحده، مستمداً صموده من شعبيّته وناسه ومؤيّديه الذين يحمون خطّه السياسي منذ عشرات السنين. ويحكى في الصالونات بأن ذخيرة المواجهة الجنبلاطية مردّها الى المبايعة شبه الكاملة من الطائفة الدرزية لزعامته، وأن أي استهداف مباشر يطاوله، هو استهدافٌ لطائفة بأكملها لا تزال مستعدّة للسير وراءه الى أبعد الحدود، والتضحية بالغالي والنفيس وبذل الدماء، اذا ما اقتضى الأمر. وهذا يعني بأن السير باتجاه الحرب، هو الخيار الوحيد المتبقي اذا كان ثمة نيات بعيدة في السير حتى النهاية في مخطّط كسر جنبلاط أو جرّه الى سيناريو شبيه بما حصل مع “القوات اللبنانية” في زمن الوصاية. وستهدد أي مواجهة محتملة كيانية البلاد بأسرها، ذلك أن تهديد وحدة الجبل يهدد الوطن ككلّ. ولا يعدو ما حصل في البساتين، وفق الأوساط، سوى انتفاضٌ للكرامة والتاريخ والوجود بعد تعدي موكب الغريب على المواطنين بالرصاص.
وتبقى بوادر الحلّ محصورة بنديّة التفاوض مع “حزب الله”. فجنبلاط لن يصافح ارسلان ولن يصعد الى القصر الجمهوري بل سيتفاوض مع نصرالله، وهي رسالة مفادها أن حاكم البلاد هو “السيد حسن” الذي أقام محاكمة علانية مستبقاً نتائج التحقيق وتسليم أي مطلوب في واقعة البساتين. فهل ثمة بوادر فعلية لحوارٍ مرتقب بين الحزب التقدمي و”حزب الله”؟
ترى الأوساط أن “حزب الله” مستفيد من التعطيل الذي يشهده مجلس الوزراء، وهو لا يأبه للمخاطر والاستحقاقات الاقتصادية، وكان سبق أن عطّل تشكيل الحكومة ثمانية أشهر وجمّد الاستحقاق الرئاسي أكثر من سنتين. ويمكن أن يستخدم ورقة التعطيل الحالي على طبق مفاوضات أبعد من حدود لبنان.
ويدخل تطوّر المفاوضات التي رست على نشر قوى أمنية روسية في جبل الدروز في سوريا، كتفصيل يقال انه ساهم في تردّي العلاقة أكثر بين جنبلاط ونصرالله، خصوصاً أن هذا القرار انعكس سلباً على النفوذ الايراني في المنطقة المذكورة. الا أن مصدراً عليماً في خبايا القضية، ينفي ما يروّج في الاعلام على هذا النحو، معتبراً أن القضية مختلفة هنا. فنشر شرطة روسية في جبل الدروز، هو توزيع أدوار منسّق مع الايرانيين، ولا جامع بين هذا التفصيل الصغير والنزاع بين جنبلاط و”حزب الله” الذي كان جمره هامداً تحت الرماد على مدى سنوات، حيث شهد الجبل أحداثاً أمنية في الشويفات والجاهلية وعلى تخوم المختارة، حاول جنبلاط استيعابها رغم الرسائل الواضحة التي كانت توجّه له.
تبقى هذه الرسائل الموقعة بحبر الدم ما يخشاه جنبلاط، هي السرّ وراء التنازلات الذي قادها على مدى الاعوام الماضية من الانتخابات النيابية وصولاً الى تخلّيه عن المقعد الدرزي الثالث ومبايعته لقدّاس دير القمر وتخلّيه عن الادعاء الحزبي في قضية حادثة الشويفات. لم يبقَ لزعيم المختارة ما يقدّمه، وهو يرى أن الحملة عليه لا تزال في بداياتها… وكلّ ما تبقى أمامه بين البحر والعدوّ، هو امتطاء فرس المواجهة نفسه الذي صوّره رأس حربة حقبة الرابع عشر من آذار.