الطائف بين الانقلاب عليه والعودة إليه [1 من 2]
بعد صدور القرار 1559 عن مجلس الامن الدولي، تجدد الحديث عن اتفاق الطائف. وكرر المسؤولون السوريون واللبنانيون في اكثر من مناسبة، صراحة هذه المرة، انهم ملتزمون وثيقة الوفاق الوطني ولكن بعد تفسيرها باسلوب احادي الجانب والتعاطي والوضعية اللبنانية منذ بداية التسعينات بما يناقض نص الوثيقة وروحيتها في معظم فصولها الاربعة: المبادئ والاصلاحات، بسط سيادة الدولة، تحرير لبنان، والعلاقات اللبنانية – السورية، وهو ما جرى توصيفه "بالانقلاب على الطائف".
لكن العنوان، على اهميته، يوحي كأن سوريا كانت مقتنعة باتفاق الطائف ثم انقلبت عليه! والاسئلة التي تطرح نفسها في هذا المجال، خارج اجتهادات بناة الطائف ومنظريه وفي مقدمهم الرئيس حسين الحسيني، اسئلة جيو – استراتيجية تتخطى "المطبخ" الداخلي للطائف:
اولا: لماذا اصبح اتفاق الطائف ممكناً؟ ما هي مقدمات الاتفاق؟
ثانيا: ما هي مضامينه الحقيقية في ضوء المعادلة اللبنانية – العربية؟
ثالثا: لماذا قبلته سوريا؟ وكيف انقلبت عليه في اول فرصة سانحة؟
رابعا: ما هي النقاط الساخنة الاساسية في الاتفاق التي ترفض سوريا تنفيذها وجاء القرار 1559 يشرعنها دوليا؟
أولاً : مقدمات اتفاق الطائف
من النادر ان يطرح اللبنانيون على انفسهم هذا السؤال المركزي: لماذا لم يتوصل اللبنانيون في مؤتمري الحوار الوطني في جنيف (تشرين الثاني 1983) ولوزان (آذار 1984) الى تسوية في ما بينهم كما حصل في الطائف (تشرين الاول 1989)، علما بأن معظم القادة اللبنانيين التاريخيين شاركوا في جنيف ولم يشاركوا في الطائف، ومنهم الرؤساء: كميل شمعون، سليمان فرنجيه، امين الجميل والسادة: بيار الجميل وعادل عسيران ونبيه بري وصائب سلام ورشيد كرامي ووليد جنبلاط ورفيق الحريري وايلي سالم وحشد من المرافقين، كما حضره السيد عبد الحليم خدام نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية السوري موفدا من الجمهورية العربية السورية والوزير الشيخ محمد ابرهيم المسعود موفدا من المملكة العربية السعودية؟
لماذا اذن ما كان مستحيلا او شبه مستحيل عام 1984 اصبح ممكنا وحتى مفروضا على اللبنانيين عام 1989 بفعل مشاركة نيابية ورعاية عربية؟ ان فهما صحيحا ودقيقا لأبعاد هذا السؤال يفسر الى حد كبير اسباب عدم تطبيق الطائف حتى الآن، لانه يتناول الاسباب الموضوعية الاقليمية والدولية التي جعلت الاتفاق ضرورة والزامية على اللبنانيين وعلى سوريا بالذات التي لم تكن فيه مساعدا، بل كانت طرفا يسعى الى التخلص من الاتفاق وفرض السلام السوري Pax Syriana على لبنان. بمعنى آخر، ان فهم مقدمات الطائف يسهل فهم ما آل اليه الاتفاق في ما بعد.
1 – 1988 – 1989 فترة مفصلية لبنانياً واقليمياً ودولياً
يذهب بعض المحللين الى ان الطائف صار ممكنا لاسباب عدة:
- لانتهاء الوظيفة الاقليمية والدولية لحرب لبنان!
- لتعب المتقاتلين!
- لاستقرار المعادلة الحربية حول ستاتيكو يصعب تغييره!
- لان حرب لبنان لم تعد مفيدة للصراع العربي – الاسرائيلي!
- ولأن السلام في لبنان صار مدخلا الى التسوية الاقليمية!
ومهما كانت نسبة الصحة في هذه الاسباب، فان فترة العامين 1988 – 1989 شهدت لبنانيا انتهاء رئاسة الشيخ امين الجميل من دون التوصل الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، مما حدا بالرئيس الجميل الى تعيين العماد ميشال عون، قائد الجيش، رئيسا لحكومة انتقالية بموجب الدستور. لكن رفض البعض التزام الشرعية الدستورية ادى الى قيام سلطتين: السلطة الشرعية للعماد عون وسلطة الامر الواقع للرئيس سليم الحص بدعم سوري، الامر الذي دفع العماد عون الى اعلان حرب التحرير (آذار 1989).
دوليا، شهدت هذه الفترة نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وبروز القطبية الاميركية الواحدة.
اما الحدث الاكثر تأثيراً على لبنان فكان اقليميا: وقف الحرب العراقية – الايرانية (1988) في شبه استسلام ايراني بعدما تمكنت صواريخ صدام حسين المطورة من ضرب طهران على بعد 650 كيلومترا من العراق. فبعد اعلان ايران عن انسحابها من الحرب، استشعر الرئيس صدام بزهو الانتصار قائدا لجيش وصفه الرئيس بوش الاب آنذاك بأنه الجيش الرابع في العالم، اذ يملك عديدا من اكثر من مليون رجل مدربين على الحرب طوال ثمانية اعوام مع عدة هائلة: 750 طائرة قتال وخمسة آلاف دبابة واربعة آلاف مدفع. واستدار الزعيم العراقي موليا وجهه شرقاً (سوريا ولبنان واسرائيل وفلسطين) مصمما على استعمال آلته العسكرية الضخمة هذه لرسم سياسة نفطية جديدة ولايجاد معطى جديد في التوازنات العربية، ولفرض توازن جديد في الصراع العربي – الاسرائيلي، وللثأر من الذين وقفوا ضده، الى جانب ايران، في حربه معها: الرئيس حافظ الاسد (سياسيا) واسرائيل (تسليحياً). ومعنى هذا جيو – سياسيا العمل لاخراج سوريا من لبنان، واخراج اسرائيل من الاراضي المحتلة. وهو ما دعا اليه الرئيس العراقي علانية. ثم شرع في ارسال الاسلحة الى العماد عون و"القوات اللبنانية" والدعم المعنوي والمادي للفلسطينيين والضغط على منظمة "اوبك" لرفع اسعار النفط.
2 – تغييرات في المعادلة الاقليميّة
عندما كان الغرب يدعم صدام حسين في حربه مع ايران بالسلاح وصور الاقمار الاصطناعية وقطع الغيار، كان يتوقع ان هذه الحرب التدميرية الانتر – اسلامية (ما بين المسلمين) ستدوم فترة اطول. وكانت حساباته الاستراتيجية مبنية على دعم القدرة العسكرية النوعية للعراق ازاء القدرة العددية لايران "الموجات البشرية" (نسبة سكان العراق الى سكان ايران هي تقريبا في حدود الثلث 3/1).
ان بروز هذه القدرة او الطاقة العسكرية (Potentiel militaire) العراقية بعد انسحاب ايران من الحرب، وبامكانات العراق المالية كدولة نفطية، افسح في المجال لاندفاع صدام حسين، الزعيم ذي النزعة الطوباوية، نحو تحقيق مطامحه الكبرى في المنطقة والعالم العربي، من دون وازع او رادع. لقد شعر بأنه قوي وحر، وان الفرصة صارت سانحة امامه لاحداث مجموعة تغييرات اقتصادية (نفطية) واستراتيجية (سياسية عسكرية)، مستفيدا من المعطى الجديد (La nouvelle donne) بمعنى التوزيع الجديد للقوى المتواجهة في المنطقة:أ – تغيير في توازن سوق النفط بالضغط على منظمة اوبك، مما يحدث تأثيرا مباشرا على الاقتصاد العالمي، وخصوصا على الدول الصناعية وعلى رأسها اميركا.
ب – تغيير داخل المعادلة العربية في مؤتمرات القمة بقيام تحالف عراقي – مصري جرى التعبير عنه لدى زيارة الرئيس مبارك الى العراق (ايار 1989) وصدور بيان مشترك ذي دلالات مهمة. فقد طالب الرئيسان "بانهاء دور القوات الاجنبية في لبنان بما فيها الاحتلال الاسرائيلي والوجود السوري والوحدات المسلحة الايرانية لانها كلها تهدد أمن هذا البلد وسيادته" (1).
ج – تغيير داخل التوازن العربي – الاسرائيلي بسعي صدام حسين لاقامة ما عرف بـ"الربط الشهير" (Linkage) بين قدرات الخليج العسكرية والاقتصادية وطاقاته وادخالها في حساب التوازن العربي – الاسرائيلي، مما يعتبر اخلالاً بالتوازن الاستراتيجي طالما سعى الغرب لمنعه ودفع الملك السعودي فيصل حياته ثمنا له حين جرّبه في حرب 1973 باعلانه وقف النفط واستخدامه سلاحا سياسيا – رغم تحذيرات هنري كيسنجر!
د – إحداث تغيير داخل المعادلة اللبنانية باغداق السلاح من دون حساب وبلا ثمن للعماد عون و"القوات اللبنانية" بما يساعدهما على الاستمرار في حرب التحرير المعلنة وعلى تحدي الوجود السوري العسكري – السياسي – الامني في لبنان.
هـ – العمل لاحداث تغيير في المعادلة اللبنانية – السورية، بل في التفاهم الاميركي – السوري – الاسرائيلي الذي أرساه كيسنجر عام 1976 حول لبنان والمعروف بـ"نظام الخطوط الحمر" (2)، وذلك باقرار ارسال صواريخ متطورة الى لبنان من نوع فروغ – 7 (تموز 1989) وهو صاروخ مدمر قادر على قذف رؤوس حربية كيميائية ومداه يراوح بين 70 – 120 كلم، مما يعني ان دائرته، بحسب وجود القوى اللبنانية (عون والقوات) على الخريطة اللبنانية (من جرد البترون الى جرد صنين) تشمل طرطوس وحمص وحماه في الشمال مرورا بدمشق وصولا الى حيفا في الجنوب. وربط العراق سحب هذه الصفقة "بالانسحاب السوري من لبنان والانسحاب الاسرائيلي من الاراضي المحتلة".
بازاء هذا التطور الخطير في المواجهة، حدث استنفار سوري – اسرائيلي – اميركي عالمي تمثل باقفال المياه اللبنانية من الجهتين (جهة سورية امام الساحل الشمالي وجهة اسرائيلية امام الساحل الجنوبي) وباعلان حالة طوارىء وباستنفار سلاح الجو السوري، وبانذار اسرائيلي باللجوء الى عمل عسكري وقائي اذا تسلح أطراف في لبنان بصواريخ فروغ – 7. كما اتخذ قررا بمنع وصول الباخرة اليونانية التي تحمل الصواريخ الى لبنان شاركت فيه كل من اميركا والاتحاد السوفياتي. ولقد زاد هذا الامر من خطورة الوضع المأزوم مسبقا.
3 – نحو تسوية اقليمية للقضية اللبنانية
أدركت القوى الدولية الكبرى مخاطر العاصفة "الصدّامية" التي تهب في اتجاه شرق المتوسط (الشرق الادنى) وانه ازاء اصرار القوى اللبنانية وخصوصا العماد عون على حرب التحرير (14 آذار 1989) واصرار الرئيس العراقي على كسر حلقة المثلث الاميركي – السوري – الاسرائيلي حول لبنان وتصعيد المواقف ورفع وتيرة ارسال الاسلحة كمّا ونوعا، فان ذلك سيؤدي حكما الى تغير خطير في المعادلة الاقليمية وبين العرب أنفسهم ومع اسرائيل وسيشكل خطرا على أمن الدولة العبرية. لذا اتخذت القوى الدولية ابتداء من ايار 1989 قرارا بضرورة سحب اللغم بايجاد تسوية جدية للقضية اللبنانية بعد فشل اللجنة السداسية في تحقيق مثل هذه التسوية، فكانت الدعوة الى مؤتمر القمة العربية في الدار البيضاء (23/5/1989) ودعوة مصر لحضوره بعد زمن المقاطعة في أعقاب اتفاقات كامب ديفيد. يومها قال جورج حبش جملته الشهيرة: "اليوم يمكن القول ان النظام العربي انهار واستسلم بالكامل". وفي هذا المؤتمر تم تشكيل لجنة ثلاثية (الملك الحسن الثاني والملك فهد والرئيس بن جديد)، وخولها المؤتمر "الصلاحيات الشاملة الكاملة لحل الازمة اللبنانية" من دون ان يكون لسوريا دور في اللجنة والحل، بل ذهب البعض الى القول: "ان اللجنة معادية لسوريا منذ تشكيلها" ("السفير" 2/8/1989). وهو ما عكسه فورا اختلاف الرؤى بين سوريا واللجنة حول موضوع السيادة اللبنانية، فأكدت اللجنة "ان الموقف السوري من بسط السيادة مغاير لتصورنا" (1/8/1989)، مما حدا بالملك الحسن الثاني الى "التهديد باصدار بيان منفرد يندد بالموقف السوري" ("لوموند" 7/8/1989) الامر الذي عكسه بيان اللجنة في 24/10/1989، اذ ورد فيه تعبير سيادة لبنان واستقلاله ثماني مرات في اربع صفحات! وخلاصة ما ينبغي قوله وتأكيده في هذا المجال، لارتباط مجمل الوضع به في ما بعد، هو ان سوريا قبلت مرغمة بالتعامل مع الوضع اللبناني – الاقليمي – الدولي الجديد وسعت الى التخفيف من آثاره السلبية عليها إما باخراجها من لبنان، وإما بقبولها بمبدأ السيادة اللبنانية، ولذا عملت على تعديل النص الاساسي للوثيقة وتعقيد مهمة اللجنة الثلاثية في انتظار مرور العاصفة!
ثانياً: معادلات الطائف
لن ندخل في سرد حول مجادلات الطائف بل حول نتائجه ومعادلاته. ولكي لا يضيع اللبنانيون وغير اللبنانيين، الاختصاصيون والعاديون، في خضم الطروحات الانشائية المتعددة والمتعارضة والمتناقضة حول وثيقة الطائف، نود ان نختصر فلسفة الطائف ومعادلاته بما يأتي:
1 – ترتكز الوثيقة على ما يعرف في علم السياسة بـ"فلسفة التسوية القائمة على مبدأ الانصاف" (Equité) ومعناها: "اعتراف افرقاء الصراع واقرارهم وقبولهم بمواقف ومطالب وتنازلات متبادلة"، من ضمن توازن للقوى تمثّل جانباً منه جهة معينة طابعها مسيحي وهمومها مسيحية – لبنانية (نوّاب الشرقية) – وجهة ثانية طابعها اسلامي وهمومها اسلامية – عروبوية ورافعتها التاريخية هي سوريا!
2 – هذه الوثيقة تحمل صفة ميثاقية اي انها تقوم على التعاقد والتعاهد بين جهتين، فهي بالتالي عقد وطني ملزم لنا معنوياً وسياسياً، بالمعنى القانوني، في انتظار اكتسابها المعنى الشرعي بالممارسة والاستفتاء.
3 – واهم ما في الوثيقة انها من حيث الجوهر نص تأسيسي سوبر – دستوري، فهي ليست معاهدة او اتفاقاً بين دولتين (لبنان وسوريا) بل هي عقد حياة بين اللبنانيين برضى ومباركة دولية، من دون ان يعني ذلك ان جميع اللبنانيين قد وافقوا مسبقاً او لاحقاً عليها. انها تسوية مرحلية وليست حلاً نهائياً للمسألة اللبنانية.
4 – ان صدقية الوثيقة تتعلق بمدى تنفيذها من جميع الفرقاء المعنيين بها مباشرة او مداورة وبمدى قدرة وإرادة الجهة الداعية للتسوية التي هي اللجنة الثلاثية العربية وليس سوريا، على التحقق من صحة هذا التنفيذ وسلامته وفق الاهداف المعلنة وضمن المهل المحددة، باعتبار ان مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء (ايار 1989) "خوّل اللجنة الثلاثية الصلاحيات الشاملة والكاملة في العمل... لاستعادة لبنان سيادته واستقلاله" و"بسط سيادة الدولة على كافة التراب اللبناني" في غضون فترة اقصاها ستة اشهر... بحسب قرار المؤتمر. واللافت ان تعبير "سيادة لبنان" ورد خمس مرات في قرار القمة ضمن صفحتين فقط، وهو امر له مغزاه.
5 – تأكيد القمة العربية "ان الاطار العربي (وليس السوري) هو الاطار الطبيعي لحل الازمة اللبنانية"، و"تأكيد المسؤولية العربية العامة عن الوضع في لبنان والتزام جميع الدول العربية المشاركة الايجابية للوصول الى هذا الحل"!
6 – في جدول يختصر النقاط الكبرى للوثيقة نفصّل وضعاً ثبت على شكل مقابلة تبرز جوهر التسوية، اي: ما قبل به المسيحيون (نواب الشرقية) في مقابل ما قبل به المسلمون (نواب الغربية) والعكس. وعادة ما يكون القبول من جانب اي من الطرفين بأمر ما هو في الحقيقة تنازل عن أمر ما للطرف الآخر. وأما في حال عدم التوصل الى تفاهم كامل في موضوع محدد، فيتخذ الجانبان موقفا وسطاً غير حاسم يكون فيه مخرج مرحلي لكليهما تعبيراً وممارسة:
ما قبلت به التيارات المسيحية
أ – لبنان عربي الهوية والانتماء
ب – تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء
= قيادة جماعية (كبديل لسلطات رئيس الجمهورية السابقة).
ج – إقامة علاقات مميزة مع سوريا.
د – العمل لانسحاب اسرائيل من لبنان بموجب القرارين 425 و520.
هـ – حل كلّ الميليشيات اللبنانية المسيحية وتجريدها من السلاح.
ما قبلت به التيارات الاسلامية (وسوريا)
لبنان وطن نهائي سيد حرّ مستقل.
كل حكومات تشكل في لبنان، بعد وثيقة الوفاق الوطني، هي حكماً حكومات وفاق وطني تعكس التوازن الوطني الحقيقي والعيش المشترك والارادة الوطنية المشتركة، اقله في الثلث المعطّل في المواضيع الاساسية داخل مجلس الوزراء وإلا فقدت السلطة شرعيتها. ومنعاً لهيمنة اية ايديولوجية دينية او ثقافية من اي نوع ومن اي جهة، تُطبّق اللامركزية الموسّعة بمجالس منتخبة.
إعادة انتشار القوات السورية في سنتين اي 1992 الى سهل البقاع وفي ذات الوقت تحديد حجم بقائها هناك وزمنه بعد ذلك التاريخ بوجود حكومة وفاق وطني لبنانية (اي جامعة للجانبين المتعاقدين).
العمل لانسحاب سوريا بموجب القرار 520 (كافة القرارات المتعلقة بلبنان).
حل كل الميليشيات الاسلامية اللبنانية وغير اللبنانية الفلسطينية والايرانية وتجريدها من السلاح.
بالاضافة الى هذه الامور الخمسة الاساسية التي جرى التوافق عليها والقبول بها اعلاه، هناك اربعة موضوعات مهمة بقيت في موقع الوسط بين الجانبين نظراً الى ارتباطها ظاهرياً بأمور سياسية – سوسيولوجية، وضمنياً بأمور دينية – لاهوتية:
اولها: مفهوم المواطنة (Citoyenneté) اذ لا فرز للشعب على اساس الانتماء، وبالتالي لا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين! هذا لا يلغي وجود نظرة دينية الى المجتمع فيها تمييز للمواطنين ووجود فتوى بشرعية التوطين.
ثانيها: مفهوم الديموقراطية - حيث يطرح التفريق بين جوهر الديموقراطية كفلسفة يكون فيها الشعب مصدر التشريع عبر القوانين الوضعية، وبين القوانين الموحى بها وتطبيقها في الانتخابات العددية مما يستدعي القبول بالديموقراطية التوافقية كحل وسط، وبالتالي المساواة في عدد النواب والوزراء وموظفي الفئة الاولى بين المسيحيين والمسلمين ونسبياً بين الطوائف والمناطق، مما يؤكد الطبيعة الطوائفية للوثيقة. ويتركز الصراع بالتالي على القبول بجوهر الديموقراطية وعدم الاكتفاء بشكلها التطبيقي فقط.
ثالثها: مفهوم الطائفية - بين الغائها كلياً كظاهرة اجتماعية واستبدالها بظاهرة شاملة كالعلمنة، ام الاكتفاء بالغاء الطائفية السياسية فقط الامر الذي وصفه المفكر السوري ياسين الحافظ بأنه اشبه "بوضع غطاء علماني على طنجرة طائفية". لذا تم الوقوف في حد وسط: تشكيل هيئة وطنية لمعالجة الموضوع على مدى بعيد.
رابعها: قانون الانتخاب بين ايديولوجيا التوحيد والمركزية الاسلامية (الدوائر الكبرى) وبين ايديولوجيا التفريع واللامركزية المسيحية (الدوائر الصغرى).
مع الاخذ في الاعتبار ثلاثة امور:
أ – منع الديموغرافيا من التحكم في الجغرافيا في بلد منوّع ومتعدد في تركيبته السوسيو - جغرافيا (تقسيمات ادارية جديدة).
ب – تأكيد حق المهجرين بالعودة الى المكان الذي هجروا منه لاعادة التوازن الديموغرافي الى الخريطة اللبنانية.
ج – اعتبار صحة التمثيل السياسي لفئات الشعب تعني اساساً طوائفه كما هو بارز في نص الوثيقة في اكثر من موضع، كما تعني لفظة فعاليته بمضمونها القانوني الانتخاب بالاكثرية وليس النسبية (الدكتور علي الشامي)، لانه، وبحسب الحقوقيين، فإن الانتخاب بالاكثرية هو اكثر فعالية واقل عدالة، والانتخاب على اساس النسبية هو اكثر عدالة واقل فعالية! وفي حين يجمع الانتخاب بالاكثرية سمة القانونية L'égalité والشرعية Légitimité تضعف الشرعية بالانتخاب على اساس النسبية!
اختصاراً، على الارادة السياسية، عبر الانتخابات التشريعية، ان تعكس في وضوح التركيبة السوسيولوجية المنتشرة بفعل الاقامة والتمركز السكني على الخريطة اللبنانية، وهو ما يعكسه القضاء ويفسر لماذا كان القضاء ولا يزال اقدم وحدة ادارية طبيعية في لبنان مبنية على معطيات جغرافية وتاريخية منذ القرن السادس عشر.
الضمانات
تلتزم وثيقة الوفاق الوطني خمس ضمانات جوهرية هي في مثابة معايير مبدئية للحياة العامة اللبنانية بمختلف وجوهها القانونية والحقوقية والسياسية والسوسيولوجية:
1 – المجلس الدستوري كضمان قانوني (خارج التسييس).
2 – مجلس الشيوخ كضمان تمثيلي (كل طائفة تنتخب شيوخها).
3 – الاعلان العالمي لحقوق الانسان كمرجعية حقوقية قانونية دولية.
4 – حق النقض (الفيتو) كضمان سياسي لحفظ حقوق الاقليات في السلطة.
5 – حكومة الوفاق الوطني كمرجعية وضمان وطني ودستوري وسياسي لتأكيد العيش المشترك والمشاركة الشاملة في القرار باعتبارها مؤلفة اساساً من الجانبين المتنازعين.
* هذه الدراسة مهداة الى روح شهيد الاستقلال الرئيس رفيق الحريري، احد مهندسي الطائف.
(2) كتاب نبيل خليفه، لبنان في استراتيجية كيسنجر، جبيل، 1991.
(1) الاحداث والبيانات الاخبارية في هذه الدراسة بالاستناد الى صحيفتي "النهار" و"السفير" اللبنانيتين، واما الكتب فمذكورة.