الطائف بين الانقلاب عليه والعودة إليه 2

النوع: 

 

هل العودة إلى تبني الاتفاق ناتجة من اقتناع بالتزاماته

أم محاولة للهرب من مفاعيل القرار 1559 ومواقف الشرعية الدولية؟

بعد جزء اول عرضنا فيه أمس لاتفاق الطائف في مقدماته ومعادلاته، نتوقف في الجزء الثاني اليوم عند النقاط الساخنة في الاتفاق وكيف انها لم تنفذ. كما نفنّد الاسباب "السورية" التي املت الانقلاب على الطائف، وكيف ان سوريا تصرفت بالاتفاق بما يخدم نظرتها الى الوضعية اللبنانية ومصالحها الذاتية والاقليمية.

اولا: الطائف اتفاق داخلي – اقليمي بمباركة دولية

صحيح ان اتفاق الطائف وثيقة ناقشها واقرها نواب البرلمان اللبناني في الطائف برعاية عربية (رعاية اللجنة الثلاثية). وكانت سوريا الحاضر – الغائب فيها. ولكن نص الوثيقة الاصلية كان قد اعد ونوقش وعدل في اوراق عمل وافكار متبادلة منذ السبعينات بين جهات لبنانية واقليمية ودولية. وعليه فان القوى والمؤسسات الدولية دعمت مهمة اللجنة الثلاثية العربية قبل الوصول الى الاتفاق كما ايدت الاتفاق بعد صدوره مما اعطى اتفاق الطائف طابعا دوليا من دون ان يكون قرارا دوليا (كما هو القرار 1559). وهذه لائحة بالتواريخ المفصلية المتعلقة باتفاق الطائف واللجنة الثلاثية.

ں في 26/5/1989: شكل مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء اللجنة الثلاثية لحل الازمة اللبنانية و"خولها صلاحيات شاملة وكاملة" لاستعادة لبنان سيادته واستقلاله ضمن مسعى لحل الازمة اللبنانية.

ں في 17 / 7/ 1989: صدر بيان عن قمة الدول الصناعية بدعم عمل اللجنة الثلاثية العربية لحل الازمة اللبنانية.

ں في 15/8/1989: صدر بيان عن مجلس الامن الدولي بتأييد مهمة اللجنة الثلاثية العربية ودعمها.

ں في 2/9/1989: صدرت بيان ثان عن مجلس الأمن الدولي اكد فيه دعم اللجنة الثلاثية لايجاد حل توافقي للازمة اللبنانية.

ں في 17/10/1989: اصدرت الجمعية العامة للامم المتحدة قرارا يحمل الرقم 44/7 بأكثرية 143 دولة بالثناء على جامعة الدول العربية لما بذلته لجنتها الثلاثية من جهود ومساع لحل الازمة اللبنانية.

ں في 23/10/1989: وافق النواب اللبنانيون في الطائف على وثيقة الوفاق الوطني بأكثرية 58 نائبا من اصل 62.

ں في 2/11/1989: اصدرت الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن الدولي بيانا يرحب باتفاق الطائف واعتبر ذلك بيانا استثنائيا لا سابقة له في تاريخ المجلس.

ں في 5/11/1989: صادق مجلس النواب اللبناني على الوثيقة بـ57 صوتا من اصل 58 في القليعات (لبنان).

ں في 7/11/1989: مجلس الامن الدولي يؤيد انتخاب الرئيس رينه معوض تطبيقا لاتفاق الطائف.

ں في 23/11/1989: بيان لمجلس الامن يأسف لاغتيال الرئيس معوض ويجدد دعمه لاتفاق الطائف.

ں في 8/12/1989: قرار للمجموعة الاوروبية بتأييد اتفاق الطائف.

ں في 28/12/1989: مجلس الامن الدولي يؤكد من جديد تأييده لاتفاق الطائف.

ں في 30/5/1990: مؤتمر القمة العربي في بغداد يؤيد اتفاق الطائف.

يتبين من هذه التواريخ انه خلال خمسة اشهر اصدر مجلس الامن الدولي ستة بيانات بتأييد اتفاق الطائف وعمل اللجنة الثلاثية العربية، الامر الذي اعطى الاتفاق طابعا دوليا اي: وثيقة ذات طابع دولي وان لم تكن وثيقة دولية.

ثانيا: النقاط الساخنة في الاتفاق: قراءة سياسو – لغوية!

حتى الان، كان الكلام على اتفاق الطائف، وخصوصا على الاقسام الثلاثة المتعلقة ببسط سيادة الدولة والتحرير والعلاقات مع سوريا، كلاما عموميا سياسيا وحتى ايديولوجيا يتخطى الدقة المطلوبة في نص تأسيس يرتكز عليه البناء الحياتي – الدستوري – القانوني – الدولاتي (Etatique) الجديد للبنان. ان فهم النص خارج وجهات النظر الثابتة (Idées fixes) يضيء على عدد من الالتباسات من دون ان يلغي الطابع الملتبس قصدا لبعض الامور، والتي جعلت كذلك ليسهل من بعد تأويلها بما يناسب الجهة المستفيدة منهاالى حد التبروء من تنفيذ نصوص الوثيقة.

1 – حكومة الوفاق الوطني

عنوان وثيقة الطائف الذي يجسد جوهرها ومضمونها هو "وثيقة الوفاق الوطني". وقد ورد تعبير الوفاق الوطني، وتعبير حكومة الوفاق الوطني اكثر من عشر مرات في الوثيقة، وكان واضحا منذ البداية، منذ العنوان ان كل حكومة في لبنان، بعد الوثيقة، ينبغي ان تكون حكومة وفاق وطني والا فقدت شرعيتها. والوفاق يعني "الاتفاق في الرأي والعمل"، ويكون قائما بين الجهات المتنازعة وليس داخل الجهة الواحدة. والغاء حكومة الوفاق الوطني واستبدالها بحكومة الجهة الواحدة والاتجاه الواحد يشكلان الغاء لاحد الجانبين المتعاقدين وممارسة سلطة احادية ونقض للوثيقة، وهو ما حصل منذ بداية التسعينات حتى الان.

صحيح انه كانت هناك قوى مسيحية مشاركة في الطائف وفي السلطة من بعده، وهي قوى لها اعتبارها واحترامها كالرئيس رينه معوض والدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب وآخرين، ولكن القوى المسيحية الاساسية في المعادلة الوفاقية كانت ترتكز على مثلث البطريرك الماروني و"القوات اللبنانية" (الدكتور سمير جعجع) والعماد ميشال عون. وبديل تأليف حكومات متوازنة سياسيا بين الجانبين المتصارعين جرى شطب او تهميش قوى المثلث هذا  بعد اغتيال الرئيس معوض:

- فلم يتم اختيار شخصيات يثق بها البطريرك وتلتزم خطه السياسي الوفاقي المرتبط بسيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر وفي كون الطائف مرقاة في اتجاه هذا الهدف. لقد كانوا يكتفون بشخصيات مسيحية مستقلة لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة!

- ولم يؤخذ بشرط الدكتور سمير جعجع الذي، وبعكس الطروحات الفجة التي يقدمها الرئيس الياس الهراوي عادة عن دعوته اياه الى المشاركة في الحكومة، اشترط لاشتراكه ان تكون الحكومة فعلا حكومة وفاق وطني، وعلى اقل تقدير ان يكون فيها الثلث المعطل لدى طرح الموضوعات الاساسية، فلا يصبح هو فيها شاهد زور، وهو ما رفضه السوريون ولم يأخذ به الرئيس الهراوي.

- اما العماد ميشال عون فقد صنفوه "خارج النظام" باعتباره "غير قابل بالطائف"، في حين ان اعتراضه الاساسي الذي اصر عليه حتى النهاية هو ضرورة جدولة الانسحاب السوري من لبنان لانه كان يشعر كعسكري استراتيجي، ان السوريين ليسوا مستعدين للانسحاب من لبنان، وجاءت التطورات لتؤكد صحة رؤيته. اضيف الى ذلك ان اربعة احزاب رفضت بدورها الطائف اما لاسباب عقائدية، كحزب الله، وحزب البعث والحزب السوري القومي الاجتماعي (نهائية لبنان الوطن) ولاسباب سياسية كحزب الكتلة الوطنية (العميد ريمون اده). كذلك كان للرئيس امين الجميل تحفظات عن بعض نقاط الوثيقة. واصبحت هذه الاحزاب العقائدية الثلاثة قاعدة للاستراتيجية السورية في لبنان، في حيث تم ابعاد العماد عون وسجن الدكتور جعجع واقصاء الرئيس الجميل.

ان حكومة الوفاق الوطني المتوازنة والتي يفترض ان تكون كذلك بحسب الوثيقة:

- هي التي ستملأ المراكز الشاغرة في مجلس النواب بالتعيين.

- وهي التي ستقدم قانونا جديدا للانتخابات النيابية وليس كقانون 1992 وما تلاه.. حتى الان.

- وهي التي ستضع خطة امنية مدتها سنة لبسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجيا على الاراضي اللبنانية كلها بواسطة قواها الذاتية.

- وهي التي تشكل واحدا من المعايير المطلوبة لحل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها الى الدولة اللبنانية خلال ستة اشهر.

- وهي التي، بعد مرور فترة السنتين، ستقرر مع الحكومة السورية اعادة تمركز القوات السورية في البقاع.

وهي التي، كونها حكومة وفاق، وليست نسخة تابعة، تقرر، بعد سنتين ايضا، مع الحكومة السورية، حجم وجود القوات السورية في هذه المناطق وعلاقتها بالسلطات... مما يعني وضع جدول زمني لانسحابها، ومثل هذا الامر لن تقوم به سوى حكومة وفاق وطني لديها الحد الادنى من الاستقلالية والالتزام بروحية الوثيقة ونصها. ان حكومة من خارج الوفاق الوطني، حكومة برو – سورية، لن تقرر اعادة تمركز القوات السورية، ولن تضع جدولا زمنيا للانسحاب السوري من لبنان!

2 – مسألة التوقيت و"الغموض غير البنّاء"!

كانت مسألة التوقيت احدى المسائل المهمة والشائكة في اتفاق الطائف. اذ كان لا بد من تحديد مهلة زمنية معينة لاحداث التغيير المطلوب في الوضعية اللبنانية وخصوصاً في امرين:

الاول: المهلة المطلوبة لبسط سلطة الدولة اللبنانية على الاراضي اللبنانية كلها.

الثاني: المهلة المحددة لاعادة تمركز القوات السورية في البقاع. ومن ثم المهلة المحددة لبقائها هناك، وبالتالي لانسحابها الكامل.

ومن دون العودة الى تفاصيل مجريات المؤتمر، فقد برزت معادلة واضحة داخل الطائف خلاصتها: ان نواب الشرقية يربطون قبولهم بالاصلاحات السياسية بالقبول بمبدأ الانسحاب السوري من لبنان ولو على مراحل، "فالتلازم بينهما تلازم مطلق" بحسب الدكتور البير منصور. الامر الذي جعل الوزير سعود الفيصل والرئيس الراحل رفيق الحريري يمضيان ثلاثة ايام في دمشق لتعديل الموقف السوري في موضوع المهل الزمنية، ولان هذا الموضوع شديد الدقة والحساسية ان بالنسبة الى لبنان او بالنسبة الى السوريين، فقد جرت قراءة معمقة لكل الكلمات والتعابير في صياغة النص من الجانبين:

أ – أقر توقيت الستة اشهر لحل جميع الميليشيات.

ب – اضاف السوريون لفظة "تدريجياً" لبسط سلطة الدولة اللبنانية خلال سنة تأكيداً لبرمجة الانسحاب السوري وليس دفعة واحدة. وهذه البرمجة كانت تعطيهم فرصة اكبر للمبادرة والمناورة.

ج – استبدل نوّاب الشرقية واقر المؤتمر اعتماد لفظة "زمن" بديل لفظة "مدة" في الكلام على "تحديد حجم وزمن وجود القوات السورية في هذه المناطق" لان لفظة مدة لغوياً فيها معنى الاطالة ومنها مد الشيء بمعنى اطاله ومديد القامة، وحرف المد ومعادلها في الفرنسية (Durée). اما الزمن بحسب محيط المحيط فقيل من شهرين الى ستة اشهر وهو بالفرنسية واضح: (moment, Période, saison) والا قيل طال الزمن او قصر.

د – ولعل اهمها موضوع السنتين كحد اقصى لبدء اعادة انتشار القوات السورية في لبنان. ومن ثم تحديد الفترة الزمنية لانسحابها من لبنان. فارئيس السوري الراحل حافظ الاسد المعروف بحنكته السياسية اعطى لنفسه الحد الزمني الاقصى للبقاء في لبنان. فبين الستة اشهر والسنة التي كانت مطلباً للجنة الثلاثية مع ضرورة انسحاب سوري كامل تأكيداً لسيادة لبنان، رفع الرئيس السوري في وجه اللجنة الثلاثية اعتراضين مبدئيين:

الاول: يسأل كيف يجري العمل لاخراج سوريا من لبنان واسرائيل لا تزال تحتل جزءاً من اراضيه؟ وهنا تم الربط بين الانسحاب السوري والانسحاب الاسرائيلي من لبنان. وهذا الالتزام يزعج السوريين الآن، ولا تغطيه سوى ذريعة مزارع شبعا.

والثاني: التمسك بمقررات مؤتمر القمة العربي في فاس (ايلول 1982) حيث ورد في مقرراته: "وقد احيط المؤتمر علماً بقرار الحكومة اللبنانية (زمن الرئيس الياس سركيس) انهاء مهام قوات الردع العربية في لبنان. على ان يجري التفاوض بين الحكومتين اللبنانية والسورية لوضع الترتيبات في ضوء الانسحاب الاسرائيلي من لبنان". الامر الذي دفع مندوب لبنان الى التحفظ عن هذا النص بعد الربط بين بقاء القوات السورية وانسحاب اسرائيل وبغسل الاسرة العربية يديها من هذه المهمة!

والآن، يعاد الكلام على موضوع السنتين مع وزير الخارجية السوري فاروق الشرع في شبه استعادة للماضي. والصحيح انه، خلال مدة السنتين، وكما توقع الرئيس الاسد، فقد احتل العراق الكويت ودخلت سوريا الحرب الى جانب اميركا وحصلت على ما طلبته من الولايات المتحدة لقاء هذه المشاركة.

هـ – "ليسوا من العربية في شيء!". كان استاذنا في الجامعة اللبنانية، المرحوم الشيخ عبدالله العلايلي، يقول عن الذين لا يجيدون اللغة العربية: "ليسوا من العربية في شيء". ويبدو ان هذا الوصف ينطبق على ادعياء العروبوية في لبنان والجوار لدى مقاربتهم موضوع اعادة الانتشار السوري ومن ثم الانسحاب من لبنان في نص وثيقة الطائف:

ورد في الوثيقة: "تقوم القوات السورية مشكورة بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية لبسط سلطة الدولة اللبنانية في فترة زمنية محددة اقصاها سنتان تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني واقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية.

لقد تم ملء هذه الشروط الاربعة في التواريخ الآتية:

ں في 5/ 11/ 1989 صادق مجلس النواب على الوثيقة بـ57 صوتاً.

ں وفي التاريخ عينه انتخب النائب رينه معوض رئيسا للجمهورية بـ52 صوتاً وأقسم اليمين الدستورية في اليوم نفسه.

ں في 25/ 11/ 1989 جرى تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور سليم الحص (بعد استشهاد الرئيس رينه معوض وانتخاب السيد الياس الهراوي رئيساً للجمهورية).

ں في 21 / 2/ 1990 صوّت مجلس النواب اللبناني على اقرار الاصلاحات السياسية بصورة دستورية (دستور الجمهورية اللبنانية الجديد).

... واذا كان للغة العربية من معنى فان مهلة السنتين تبدأ من هذا التاريخ (21/9/1990) وتنتهي في 21/ 9/ 1992.

فماذا يقول نص الوثيقة بعد ذلك؟"وفي نهاية هذه الفترة تقرر الحكومتان الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني اللبنانية اعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع... كما يتم الاتفاق بين الحكومتين يجري بموجبه تحديد حجم وزمن وجود القوات السورية في المناطق المذكورة... واللجنة الثلاثية العربية العليا مستعدة لمساعدة الدولتين في الوصول الى هذا الاتفاق اذا رغبتا في ذلك".وبعكس ما درج عليه المسؤولون في سوريا ولبنان، وفي مناسبات مختلفة، فان موضوع اعادة الانتشار امر محسوم زمنياً لا مكان ولا مجال فيه لاي اجتهاد من جانب اي من السياسيين او العسكريين في البلدين. الكلمة المفتاح في ذلك هي استعمال فعل "تقرر الحكومتان" (كان النص الاول يقول: تقرر الحكومة السورية بالاتفاق مع حكومة الوفاق الوطني اللبنانية!).ان استعمال فعل "تقرّر الحكومتان" بحسب اللغة العربية: قرر الشيء= اعترف به وحققه. معناه بالفرنسية لكي يكون اكثر وضوحاً للذين لا يجيدون العربية:

Décider = trancher, adopter une solution définitive sur un point quelconque (Robert

المسألة اذن ليست خاضعة للدرس، او للبحث او للتفاوض. ولا معنى، ولا مجال ولا حق لاي مسؤول في البلدين، من اعلى السلم الى ادناه، في ربط الموضوع بمباحثات او بمراجعات او بتقديرات امنية او استراتيجية، لان نص الوثيقة ليس معاهدة بين دولتين او توافقاً بين رئيسين او بين حكومتين او بين جيشين، بل هو نص تأسيسي لبناني داخلي تعاقدي بين القوى السياسية اللبنانية المتصارعة وليس نصاً رسمياً بين المؤسسات الرسمية اللبنانية والسورية. وبالتالي، فليس من حق الحكومة السورية (أي حكومة) والحكومة اللبنانية (أي حكومة) ولا من حق رئيسي البلدين بالذات اجراء اي تغيير او تحوير في نص الوثيقة او تفسيرها او تأويلها بغير المعنى الذي وضعت لاجله وضمن المهلة المحددة في الوثيقة وهي سنتان بالضبط اي: ابتداء من 21/ 9/ 1990 حتى تاريخ 21/ 9/ 1992، تاريخاً محدداً ونهائياً لاعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع... بلا اي لبس او غموض او إبهام!

أمر ثان يؤكده هذا النص لغوياً ومعنوياً وسياسياً، وهو تعبير "كما يتم الاتفاق بين الحكومتين على تحديد حجم وزمن وجود القوات السورية في هذه المناطق وتحديد علاقة هذه القوات مع سلطات الدولة اللبنانية في اماكن وجودها"."كما" حرف تشبيه فيه معنى: ايضاً، وكذلك، ومثلما كما وان، وبالعامية "كمان" ومقابله بالفرنسية (ainsi que, aussi bien que) ويأتي بعده فعل "يتمّ" والتمام هو الاكمال والكمال، فلا يبقى فيه شيء ناقص. وهكذا يصبح معنى النص واضحاً لا يحتمل اي غموض وخلاصته: في ذات الوقت (اي غب مرور السنتين) الذي تقرر فيه الحكومتان اعادة الانتشار السوري الى البقاع، في هذا الوقت عينه يتم ايضاً الاتفاق بين الحكومتين على ثلاثة أمور:- حجم القوات السورية الباقية في لبنان (عديدها وعدتها)،

- زمن بقائها في لبنان وهذا يفرض حكماً وضع جدول زمني لانسحابها النهائي من لبنان على مراحل،

تحديد علاقتها، في أماكن وجودها، مع السلطات اللبنانية حفاظاً على مضمون معنى السيادة اللبنانية، فلا تتصرف هذه القوات الا من ضمن تفاهم مكتوب يحدد مهمة هذه القوات واطار عملها ليس على مستوى سلطة الدولة ككل بل في اماكن وجود هذه القوات، مما يؤكد الطابع المحلي – العسكري الامني المحدود لعملها ويمنع استخدامها للتأثير على سلطة الدولة المركزية!

- إن ربط الوصول الى هذا الاتفاق على يد اللجنة الثلاثية العربية برغبة الحكومتين اسقط مبدأ الوجوب وفتح باب الاحتمال غير البناء! فالمنحى السياسي السوري كان يميل دائماً الى استبعاد دور اللجنة الثلاثية العربية المباشر والتقريري واستبداله برغبة الحكومتين التي ستصبح رغبة واحدة.

ملاحظة أخيرة لا بد منها، وهي ان نقطة "المصالح الاستراتيجية" قد اسقطت من جانب نواب الشرقية من نص العلاقات اللبنانية – السورية واستعيض عنها بتعبير "المصالح الاخوية" نظراً الى ما يمكن ان يوضع تحت لفظة "الاستراتيجية" من امور ومعان والتزامات تجعل من هذه اللفظة الملغاة، والتي تتردد الآن أكثر من اي لفظة اخرى على ألسنة المسؤولين السوريين واللبنانيين نموذجاً "للغموض غير البناء" كما كان يقول هنري كيسنجر. والسبب في ذلك بسيط جداً وهو ان ليس لدى سوريا ولبنان استراتيجية ثنائية مشتركة، بل ان لدى سوريا استراتيجية ازاء لبنان وفيه، وشتان بين الامرين!!

ثالثاً: حرب الخليج الثانية والانقلاب على الطائف

قبلت سوريا اتفاق الطائف على مضض وبعد مناقشات واعتراضات وتعديلات في النصوص ان بالنسبة الى اللجنة الثلاثية العربية، او بالنسبة الى نواب الشرقية الذين كان همهم الاساسي الوصول الى تفاهم يقضي بانسحاب القوات السورية من لبنان بالتفاهم مع سوريا وليس بالصدام معها. وظل الموقف السوري متحفظاً ازاء هذا الامر في انتظار حدوث امر ما، يسمح لسوريا بالانقلاب على الطائف وجعله اشبه بحرف ميت، وهو ما حصل بعد حرب الخليج الثانية. ويؤكد صامويل هنتنغتون في مؤلفه الشهير "صدام الحضارات" أن ما طلبته سوريا، وحصلت عليه، لقاء دخولها في الحرب الى جانب اميركا هو الهيمنة على لبنان. وبعد حصول سوريا على هذا التفويض، بل الوصاية، عمدت سوريا فوراً الى احداث انقلاب ذي بعدين: "ديموغرافي (التجنيس) و"ديموقراطي" داخل الحياة السياسية اللبنانية وخارج الطائف يسمح لها بالسيطرة على السلطات الثلاث بفعل الانتخابات التشريعية عام 1992 التي شارك فيها 13% من اللبنانيين فقط وسط ممانعة معظم اللبنانيين وذهولهم ومقاطعتهم. ومنذ ذلك التاريخ وكل الحياة السياسية في لبنان وخصوصاً في أمورها الاساسية، تسير خارج اتفاق الطائف. وبناء لطلب مرجعية روحية تم وضع لائحة بخمسة وعشرين خرقاً للطائف حتى العام 1995، الى حد يمكن القول معه ان الطائف في نصوصه الاساسية كان معلقاً ولا سيما في فصوله الثلاثة الاخيرة.

رابعاً: السوريون: ننسحب اذا...!!

كان الدخول السوري الى لبنان بناء لرغبة سورية وموافقة اميركية وضمن تفاهم سوري – اميركي – اسرائيلي عرف "بالخطوط الحمر" وتم في العام 1976 على يد هنري كيسنجر، ثم اصبحت القوات السورية جزءاً من قوات الردع العربية بقرار من الجامعة العربية. والسؤال منذ السبعينات الى الآن هو: متى تنسحب القوات السورية من لبنان؟

خمس جهات اساسية هي على علاقة مباشرة بهذا السؤال وبمحاولة ايجاد الجواب عنه وهي: لبنان وسوريا والولايات المتحدة والجامعة العربية (مؤتمر القمة) والامم المتحدة (مجلس الامن). وقد مرت كل من هذه الجهات بمواقف واجتهادات مختلفة في موضوع الوجود العسكري السوري في لبنان: من تشريعه وتبريره الى نقده الى تمديده الى ربط الانسحاب بشروط متعددة ومتنوعة الى الدعوة المباشرة للانسحاب دون قيد او شرط.

ان سوريا المعنية الاولى والمباشرة عن هذا الوجود اطلقت على ألسنة مسؤوليها على المستويات كلها تصريحات ربطت فيها احتمال انسحابها من لبنان بشروط اختصرناها برمز: ننسحب اذا..! (اذا ظرفية شرطية)، وهذه عينة من هذه الشروط، مأخوذة بحسب التسلسل الزمني من مراجع موثقة:

1 – "ننسحب من لبنان اذا اصبحت المؤسسات اللبنانية قادرة على القيام بمسؤولياتها في تحقيق الامن ولا سيما السلطة الشرعية. وبقاؤنا يتوقف على ارادة السلطة الشرعية في لبنان".

2 – "من الصعب ان يحدد المرء بدقة الوقت اللازم لعودة قواتنا من لبنان".

3 – "لو طلب الينا اللبنانيون الانسحاب لانسحبنا فوراً".4 - "عندما ينجح الحوار بين اللبنانيين ستنفذ سوريا ما يطلب اليها".

5 – "الردع باق في لبنان ما لم تطلب منه الشرعية الرحيل".

6 – "سوريا توافق على ما تقرره الاطراف اللبنانية بالنسبة الى موضوع انسحاب قوات الردع من لبنان".

7 – "ان قوات الردع العربية انشئت بقمة عربية وهي وحدها لها الحق بابقائها او حلها" (ردا على طلب الرئيس سركيس سحبها من لبنان).

8 – "مؤتمر القمة في فارس 1982 ربط الانسحاب السوري بالانسحاب الاسرائيلي من لبنان ولن ننسحب قبل انسحاب الاسرائيليين".

9 – "سوريا تطرح شرطا واحدا لانسحابها من لبنان هو الجلاء المسبق وغير المشروط للجيش الاسرائيلي من هذا البلد".

10 – "شروط الخروج من لبنان: الغاء الاتفاق مع اسرائيل والعودة الى قراري مجلس الامن 508 و509... وقيام حكومة اتحاد وطني".

11 – "القوات السورية تنسحب من لبنان بعد اتفاق مع اللبنانيين وبعد مغادرة كل القوات الاجنبية".

12 – "عندما تنبثق حكومة اتحاد وطني من الوفاق سنستجيب لطلبها بسحب القوات السورية".

13 – "لن نبقى الى الابد في لبنان".

14 – يتم الانسحاب من لبنان بعد تنفيذ مقررات الشرعية الدولية ولا سيما القرارات 194، 242، 338، 425 والانسحاب من مزارع شبعا وتحقيق السلام العربي – الاسرائيلي... وبعدها يتم تنفيذ القرار 1559، او انه تبطل الحاجة اليه!

يتبين من هذه الشروط السورية انها شروط صعبة ومعقدة تذهب في خط تصاعدي علامة على ان السوريين يضعون شروطا ليس للانسحاب بل لعدم الانسحاب. ويمكن اختصار موضوع هذا الانسحاب في سبع محطات رئيسية:

المحطة الاولى: اذعان سوريا واسرائيل، على مضض، الى طلب مبعوث الرئيس الاميركي فيليب حبيب بانسحابهما بالتزامن من لبنان نهاية العام 1982، وهو ما لم يحصل بعد استشهاد الشيخ بشير الجميل.

- المحطة الثانية: ربط الانسحاب السوري من لبنان بالانسحاب الاسرائيلي، وهو ما ذهبت اليه القمة العربية في فاس 1982، وعاد فأكده الرئيس حافظ الاسد للجنة الثلاثية العربية بعد مؤتمر القمة في الدار البيضاء 1989 وابان مؤتمر الطائف.

المحطة الثالثة: صدور قرار مجلس الامن رقم 520 تاريخ 17/9/1982 الداعي الى "احترام سيادة لبنان وسلامة اراضيه ووحدته واستقلاله السياسي في ظل السلطة الوحيدة والحصرية للحكومة اللبنانية من خلال الجيش اللبناني في سائر انحاء لبنان"، و"أخذ المجلس علما بتصميم لبنان على ضمان انسحاب جميع القوات غير اللبنانية من لبنان".

المحطة الرابعة: ربط الانسحاب بمهلة زمنية على مرحلتين تشكل حلا وسطا وذلك عبر اتفاق الطائف. المرحلة الاولى بعد مرور سنتين على المصادقة على الدستور الجديد تتم فيها اعادة الانتشار الى البقاع... والمرحلة الثانية يتم فيها الانسحاب الكامل باتفاق الحكومتين وذلك وفق جدول زمني تضعه الحكومتان غب انتهاء السنتين ايضا.

المحطة الخامسة: تجديد التفويض الاميركي لبقاء القوات السورية في لبنان لا لانسحابها عشية حرب الخليج الثانية 1990.

المحطة السادسة: ربط الانسحاب السوري بتحقيق السلام العربي – الاسرائيلي (الرئيس الفرنسي جاك شيراك في البرلمان اللبناني 2002 ودنيس روس في مجلة "الوطن العربي" 2002.

المحطة السابعة: صدور قرار مجلس الامن الرقم 1559 تاريخ 2/9/2004 وفيه طلب مباشر لسوريا بسحب قواتها من لبنان بشكل واضح وحاسم.

***

لقد اجرينا قراءة لوثيقة الوفاق الوطني المعروفة باتفاق الطائف في مقدماته ومعادلاته وطابعه الدولي وبعض نقاطه الساخنة المتصلة بالوجود السوري في لبنان، ومن ثم شروط سوريا للقبول بالانسحاب من لبنان. وتبين لنا بوضوح كيف حاولت سوريا دائما ان تتجنب التزام مبدأ الانسحاب وتصرفت باتفاق الطائف بما يخدم نظرتها الى الوضعية اللبنانية ومصالحها الذاتية والاقليمية واهدافها الاستراتيجية حتى بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان. كما تبين ان المفتاحين الاساسيين لاحتواء الطائف كانا ولا يزالان: تشويه التمثيل عبر قوانين الانتخابات، وتأليف حكومات ذات لون واحد لا تمت بصلة الى "الوفاق الوطني". وهذان الامران جعلا السلطتين التشريعية والتنفيذية في لبنان اقرب الى اداة بيد السوريين... والبقية تتبع!

لقد كان اتفاق الطائف السبيل الوحيد لوقف الحرب في حينه. لكنه كان يفتقد في بعض نقاطه، الى الوضوح المطلوب. ومثل هذا الغموض غير البناء فتح الباب واسعا للاجتهادات، ثم جاءت التطورات الاقليمية (حرب الخليج الثانية) لتطيح بكل شيء فيتم الانقلاب على الطائف. ثم دفعت حرب الخليج الثالثة وما تبعها من طروحات حول الشرق الاوسط الجديد لتعيد لبنان الى الواجهة كدولة "هي معقل الديموقراطية"، كما وصفته كوندوليزا رايس فتذهب الشرعية الدولية الى تبني القرار 1559 متخطية اتفاق الطائف ومطالبة كل القوات الاجنبية المتبقية بالانسحاب من لبنان.

فهل عودة البعض الى تبني اتفاق الطائف ناتجة حقا من اقتناع بمندرجاته والتزاماته ام انها محاولة للهرب من مفاعيل القرار 1559 ومواقف الشرعية الدولية؟

... منذ بداية الحرب ونحن نردد هذا الكلام البسيط والواضح: ان لبنان الدولة والكيان هو حقيقة جغرافية وتاريخية وضرورة اقليمية ودولية، وهو بلد له الحق الكامل بالاستقلال والسيادة وحرية القرار على ارضه. وان على سوريا تعديل موقفها منه ونظرتها اليه. وخلاصة ما نأمل في ان تكون استراتيجيتها الجديدة ازاءه هي ان يكون لها نفوذ فيه وليس الهيمنة عليه! هذه هي الحدود الاخوية والدولية للعلاقات الممتازة بينهما !

وتلك هي المسألة!

الكاتب: 
د.نبيل خليفة
التاريخ: 
السبت, فبراير 26, 2005
ملخص: 
صحيح انه كانت هناك قوى مسيحية مشاركة في الطائف وفي السلطة من بعده، وهي قوى لها اعتبارها واحترامها كالرئيس رينه معوض والدكتور جورج سعاده والشيخ بطرس حرب وآخرين، ولكن القوى المسيحية الاساسية في المعادلة الوفاقية كانت ترتكز على مثلث البطريرك الماروني و"القوا