حرب التحرير والطريق الى الطائف – 2
عندما وُجهت الدعوة الى النواب للذهاب الى الطائف، دعا العماد ميشال عون النواب المقيمين في الشرقية الى الإجتماع به في قصر بعبدا. فلبّوا في 26 أيلول 1989 وكانوا 23 مسيحيًا و3 مسلمين واستمعوا منه الى شرح لموقفه تضمن الآتي:
1 – تفضيله أن لا تتم الإجتماعات خارج لبنان.
2 – إذا حصل إصرار على انعقادها خارجه، فيجب توظيفها من أجل الحصول على الإنسحابات أولاً.
3 – إن المشاكل الداخلية بين اللبنانيين يحلها اللبنانيون، ولا ضرورة للتوتر أو للمناحرة عند البحث فيها.
4 – الأفضل التركيز في الإجتماعات على الخلاف اللبناني ـ السوري لا على الإصلاحات، وإذا حصل خلاف مع الفريق اللبناني الآخر، فليكن على قضية وطنية وليس على قضية إصلاحية داخلية.
وحصل نقاش شارك فيه بيار دكاش ونصري المعلوف وميشال ساسين وجبران طوق والياس الهراوي ورينيه معوض وإدمون رزق وأوغست باخوس وطارق حبشي، وأظهر وجود شبه إجماع نيابي على الإشتراك في اجتماع البرلمانيين اللبنانيين خارج لبنان لوقف الحريق الذي يعمّ لبنان، ولفتح الأفق المسدود مع نوع من الوعد بالبقاء على «الخط» مع «الجنرال»، كما ظهر تحفّظ عند «الجنرال» على ذلك.
وافق عون في النهاية على إجتماع النواب في الخارج لكنه طلب منهم التشديد على أمرين: أولهما عدم المساومة على الإنسحابات وضرورة التعاون في أي أمر يتعلق بهذا الموضوع بين السلطة التنفيذية (أي حكومة عون) وبين السلطة التشريعية وضرورة تلافي الإستئثار. وثانيهما البحث بروح منفتحة في موضوع الإصلاحات. و»وأنتم نواب وهذه شغلتكم ولا أقدر أن أزايد عليكم فيها».
طبعًا، لم يخلُ النقاش من بعض الحدة، ولذلك لا بد من إلقاء ضوء على بعضه من خلال مداخلة للرئيس الهراوي، النائب في حينه، وللنائب باخوس وغيرهما.
بدأ الهراوي كلامه بالقول إنه كان في كندا التي فيها زهاء 250 ألف مهاجر لبناني، فأجابه عون أنه يعرف ذلك. وتابع الهراوي: «أتيت على ذكر عودتي من كندا لأقول إن البلد كله سيهاجر إذا استمرت الحالة الراهنة. وقد أتى للسلام عليّ بعد العودة عدد من الأصدقاء بينهم مسلمون، وقد قال لي أحد المسلمين فيهم بلهجة مازحة بدا فيها شيء من الجد إنه يتمنى أن تستمر الحال المأسوية كم يوم. وعندما سألته عن السبب أجاب لكي لا يبقى مسيحي في لبنان».
ضرب عون الطاولة بقبضة يده وقال إنه لا يقبل هذا الحكي. تابع الهراوي مذكّرًا إياه بأنه وافق على النقاط السبع، وسائلاً عن السبب الذي يدفعه الى التصلّب الآن ومحذرًا من أن إستمرار الوضع سيؤدي الى رحيل المسيحيين عن البلد، ومشيرًا الى الأعداد التي تهاجر من مرفأ جونية تحت القصف.
وعندما علّق عون بأنه يقصف لحماية البواخر وتأمين خروجها، رد الهراوي: «المطلوب خلق أجواء تحول دون سفرها مزدحمة بالمهاجرين».
أما باخوس، فعلّق على كلام لعون يشير الى «تردد عنده في الموافقة على مغادرة النواب الى الطائف للإجتماع والى خوف من شرك قد يُنصب للنواب هناك». قال: «أنت ذهبت يا «جنرال» الى تونس ولم تقع في شرك، ونحن أيّدناك. لماذا تعتبر أننا «زحاليط» يمكن أن نقع في شرك. نحن لسنا ولاد مبارح. سنبقى على إتصال بك».
وفي النهاية سأل نديم سالم وطارق حبشي عون: «إنت بدك يانا نروح على الطائف أم لا؟».
أجاب: «اصطفلوا».
ردا: «لا. اصطفلوا لا تفيد».
قال: «طيب روحوا وعن طريق المطار. لا تزعلوا. لكن لا تبيعوا البلد».
واعتقد «الجنرال» أن النواب لن يخذلوه في الطائف، إذ اعتبر أن معظمهم تجاوب معه، لكن اعتقاده خاب، والتجاوب إذا كان حصل لم يدم طويلاً، إذ توصلوا مع زملائهم المقيمين في المناطق الغربية الى إتفاق على مشروع كامل لحل الأزمة اللبنانية لا يأخذ في الإعتبار أي شيء من عناصر موقفه (أي عون) التي شرحها لهم قبل مغادرتهم بيروت الى المملكة العربية السعودية بأيام قليلة.
وغضب عون بسبب ذلك ونقم على البطريرك وعلى النواب، لا فقط لأنهم خالفوا أوامره والتوجيهات، وإنما لأنهم خدعوه أو هكذا اعتقد.
وفي الطائف كان الإتصال مع عون يتم على نحو غير مباشر وعبر خطين: الخط الأول كان خط كريم الخليل نجل النائب كاظم الخليل الذي كان يتصل بجهاد حنين في الطائف إبن النائب إدوار حنين ومرافقه، والذي كان يتصل بعد ذلك بالعقيد عامر شهاب في بيروت. أما الخط الثاني، فكان عبر المهندس داني شمعون الذي كان يتصل بالنائبين ساسين ودكاش في الطائف. ويؤكد قريبون من عون أنه لم يُبلّغ الى أي نائب في الطائف مباشرة أو مداورة ما يشير الى قبوله ما كان يتم التفاوض عليه.
«الطائف» يُربك «الشرقية»
بعد مرور زهاء أسبوعين على إجتماعات الطائف، توصل النواب اللبنانيون الى تفاهم على الإصلاحات المطلوب إدخالها على النظام والصيغة السياسية في لبنان، ثم انتقلوا الى البحث في المواضيع ذات الصلة بالسيادة، مثل العلاقات بين لبنان وسوريا، ومثل وجود الجيش السوري في لبنان وما الى ذلك. وانتقل في هذه الفترة وزير خارجية المملكة العربية السعودية وعضو اللجنة الثلاثية العربية العليا الأمير سعود الفيصل من مدينة الطائف الى دمشق للبحث مع الرئيس السوري حافظ الأسد، كما قيل في حينه، في إدخال عدد من التعديلات على ما تضمنه المشروع المعروض على النواب، وتحديدًا على الجزء الذي يتناول مواضيع ذات صلة بالسيادة. لكن مشواره لم يكن ناجحًا، إذ رفضت القيادة السورية تعديل أي حرف من المشروع، واستعاض الفيصل عن ذلك بالحصول من الرئيس الأسد على موافقة موثقة كما قيل، أي مكتوبة، على إنسحاب الجيش السوري من البلد أو على إعادة تمركزه وفقا لما ورد في نصّ المشروع، وذلك أمر كان يشك فيه عدد من النواب المسيحيين، فضلاً عن عدد من الفاعليات المسيحية.
هذه المعطيات كلها وصلت الى العماد ميشال عون، فطار صوابه إذ أدرك أن النواب سيضطرون الى قبول المشروع كما هو، على الأقل في شقه المتعلق بالسيادة. فقطع الإتصال وإن غير المباشر مع جماعة الطائف الذي كان يتم بواسطة رئيس حزب الوطنيين الأحرار المهندس داني شمعون الذي استمر في إتصالاته مع نواب حزبه وحلفائه وفي مقدمهم ميشال ساسين وكاظم الخليل وبيار دكاش. وكان يقول لمن يدعوه الى التروي والتبصّر ومنهم الدكتور سمير جعجع: «عندما اجتمعت بالنواب قبل ذهابهم الى الطائف إتفقنا على أن الإصلاح موضوع يستطيعون معالجته وبته، وأنني لا أمانع في ذلك، وقدمت لهم في حينه ملاحظة تدعوهم الى الحرص كي لا يضعفوا رئيس الجمهورية. وشددت أمامهم على موضوع السيادة الذي يهمني كثيرًا وحذرتهم. إياكم أن تأخذوا قرارًا في هذا الموضوع من دون أن تكون معكم موافقة مني».
وهنا بدأ عون يعبّر عن موقفه الرافض للطائف بوسائل عدة، كان أولها تصعيد لهجة خطبه وأحاديثه الصحافية وتصريحاته لوسائل الإعلام المتنوّعة. وكان ثانيها وأهمها على الإطلاق تنظيم المهرجانات الشعبية المؤيدة له.
أما في الطائف، فقد كان النواب، ولا سيما المسيحيون منهم، بين نارين. نار إزعال اللجنة الثلاثية العربية العليا وسوريا والولايات المتحدة الأميركية راعية الطائف وداعمته، ونار إزعال العماد عون. وبدا في حينه أنهم اختاروا إزعال «الجنرال»، أو بالأحرى وجدوا أن كلفة إزعاله، ولا سيما على صعيد البلد، أقل كثيرًا في رأيهم من كلفة إزعال الآخرين. إلا أن هذا الإنجاز تأخر بضعة أيام لأن رئيس حزب الكتائب الدكتور جورج سعاده أظهر نوعًا من التردد في إعطاء «بركته» النهائية للإتفاق. فالنواب المسيحيون، وتحديدًا النواب الذين قدموا الى الطائف من المنطقة الشرقية، ربطوا موافقتهم النهائية على الإتفاق بموافقته كونه رئيس الكتائب ورئيس «الجبهة اللبنانية» وحليف «القوات اللبنانية»، وجعله ذلك يشعر بثقل المسؤولية الملقاة على كاهله. فطلب العون من بيروت الشرقية، والعون هذا كان على شكل صدور موقف مؤيد له ولما توصل إليه وزملاؤه النواب بعد أيام طويلة من المباحثات. والموقف كان مطلوبًا من عون ومن البطريرك الماروني ومن القوات ومن الكتائب. وإذا تعذر تأمين موافقة عون، فإن سعاده يقبل موافقة الآخرين ويستطيع أن يسير في الطائف الى النهاية بالإستناد إليها.
ماذا كان موقف الدكتور جعجع في هذه الأثناء من ما كان يجري في الطائف؟
كان يقول: «أنا ماشي في الإتفاق ومن دون أي تعديل، لكن لا تطلبوا موقفاً علنيًا مني، فذلك يعني حربًا مع الجنرال عون، وأنا غير مستعد لحرب كهذه. أنتم نواب الطائف قرروا، ونحن مشي الحال. لكن لا مجال لتأييد مسبق أو لموافقة مسبقة».
في هذه المرحلة، وصل زاهي البستاني أحد أبرز مستشاري قائد «القوات اللبنانية» الى بيروت، وقيل يومها إن الماكينة العربية ـ اللبنانية التي كانت تعمل لإنجاح إجتماعات الطائف هي التي أرسلته، فوضع جعجع في الأجواء الفعلية بالنسبة الى ما يجري في الطائف، وقدم له على نحو غير مباشر عروضًا في مقابل تأييده الكامل للطائف من الجماعات غير اللبنانية الدافعة في هذا الإتجاه، وذلك من خلال كلامه الآتي: «أنت تمشي بالطائف، وإذا مشي به عون عال. تتجنب المنطقة الشرقية حربًا، وتكونان، أي أنت وهو، أي «القوات» والجيش، القوتين المسيحيتين الأقوى المُعترف بهما. وإذا لا يمشي عون، فإن الطائف سيمشي وتأييدك له سيجعلك القوة المسيحية الوحيدة المُعترف بها في الشرقية. والمطلوب من أجل ذلك موقف رسمي منك».
ورد جعجع على كلام البستاني ببرقية الى الدكتور سعاده أبلغ إليها فيها: «نحن معك. نوافقك على كل شيء. أعلنوا ما تتفقون عليه في أقرب وقت. ذلك أفضل. نحن مستعدون للتأييد الفوري». وكان الجواب عليها من غير اللبنانيين من رعاة إجتماعات الطائف وداعميها: «ما دمت موافقاً على المحتوى نتمنى عليك أن يكون تأييدك سابقاً لا لاحقاً، وذلك كي يستطيع الدكتور سعاده أن يمشي».
هنا قرر قائد «القوات» أن يتخذ موقفاً ولكن باسم «الجبهة اللبنانية». وبدأ يهيئ لاجتماعها باتصالات غير مباشرة أولاً مع داني شمعون وذلك بالقول له: «يجب إتخاذ موقف إما تبقى الحرب أو تحصل انتخابات رئاسية. الحرب تخربنا ونخسرها، أما الإنتخابات فأنت مرشحنا لها. يمكن أن تصبح مرشحنا (مرشح الجبهة) كلنا نؤيدك». وساعدت الإتصالات التي كان يجريها شمعون بالطائف من المجلس الحربي مقر قيادة «القوات» في جعله يميل الى الموافقة، على أن يتم التوصل إليه في الطائف. وقد عبّر عن ذلك غير مرة لعون في قصر بعبدا. وكان يحضه على عدم الرفض بقوله: «خلصنا. خلينا نلاقي الحل». إلا أن الجنرال كان يصدّه، ويسبب له ذلك بعضًا من الزعل والإنزعاج.
وجرت محاولة مع عون قام بها جعجع وعدوان يوم الثلاثاء الواقع في 23/10/1989 لإقناعه بضرورة إيجاد حل وذلك عندما زارا قصر بعبدا، إذ إجتمعا به طويلاً، وفي سياق البحث قال له جعجع: «لازم نبلش نلاقي حلول. ما لازم تطوّل. ما عنا مصلحة». لكنه لم يتجاوب. وبدلاً من ذلك طرح موضوع توسيع الحكومة الإنتقالية التي يرئس بإضافة ممثلين لـ»القوات» إليها، لكنه بقي مجرد طرح.