من تربح “الدولة المدنيّة” أم “المثالثة”؟
الصيف الماضي وجّه رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون رسالة إلى مجلس النوّاب طلب بموجبها تعديل المادة 95 من الدستور. وهي تنصّ على “إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامّة والقضاء والمؤسَّسات العسكريّة والأمنيّة والمؤسَّسات العامّة والمُختلطة والمصالح المُستقلّة وفقاً لمُقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى، وتكون هذه الوظائف مُناصفة بين المسيحيّين والمُسلمين دون تخصيص أيّ وظيفة لأيّ طائفة”. تريّث رئيس المجلس بعد تسلُّمه الرسالة في تحديد موعد لجلسة نيابيّة رسميّة تُتلى فيها وتُناقش وتأخذ مساراً من اثنين، إمّا الحفظ وإمّا بدء البحث الفعلي في تنفيذ مضمونها كما هو أو مُعدَّلاً بين الكتل النيابيّة رسميّاً وبين الطوائف والمذاهب عمليّاً. وحدَّد يوم الثلثاء في 22 تشرين الأوّل الماضي موعداً للجلسة. وبدا في حينه ميّالاً إلى احترام الشكليّات وخائفاً من مُضاعفات الغوص في “معمعة” طائفيّة ومذهبيّة تزيد أوضاع البلاد تعقيداً، وخصوصاً أن نذر ما يُعانيه اللبنانيّون اليوم وما يعيشونه من أمل جرّاء حركتهم الاحتجاجيّة الاجتماعيّة العابرة للطوائف والمذاهب في شوارع العاصمة والمناطق اللبنانيّة كافة، وما يعانيه جرّاء ذلك الذين تسبّبوا بتعاسة الناس وبفقرهم وببدء وقوع بلادهم في “المهوار” السياسي – الاقتصادي – النقدي – المالي وربّما الأمني لاحقاً، أنّ هذه النذر كانت تلوح بوضوح في أجواء لبنان رغم إكفهرارها واتّجاهها السريع نحو السواد. لكن الحركة المُشار إليها لم تفسح في المجال أمام انعقاد جلسة الرسالة الرئاسيّة، ويُرجّح أن تطويها التطوّرات التي حصلت حتّى الآن والأخرى المُرتقبة سيّئة وحزينة كانت أو “مُفرحة”. ورغم ذلك كلّه يتناول “الموقف هذا النهار” اليوم الرسالة “المطويّة في جارور” رئيس المجلس. إذ أنّ النظام الطائفي الذي كان قائماً قبل حروب 1976 – 1990 كان أحد الأسباب المُهمّة لها، ولا سيّما بعد استغلال جهات إقليميّة عدّة خوف بعض شعبه والغبن اللاحق ببعضه الآخر لتحقيق طموحاتها والمحافظة على نفسها ومصالحها. كما أنّ نظام الطائف الذي “اتَّفق” عليه اللبنانيّون بـ”مُساعدة” الخارجَيْن العربي والدولي عام1989 أوقف الحروب المُشار إليها أعلاه في لبنان، لكنّه لم يُنْهِها كما افترض رُعاته. والسبب أنّه نقل لبنان من حكم دولة طائفيّة برأس واحد (المسيحيّون) إلى حكم دولة طائفيّة ومذهبيّة بثلاثة رؤوس (مسيحيّون وسُنّة وشيعة). علماً أنّه كان قادراً على “شقّ طريق” لبنان نحو الدولة اللّاطائفيّة المدنيّة لو طُبِّق ما نُصّ عليه في بنود قليلة منه، أي تشكيل لجنة وطنيّة تدرس إلغاء الطائفيّة السياسيّة وسبل ذلك ثمّ تكرِّس لاطائفيّة ومذهبيّة مجلس النوّاب وتؤسِّس مجلس شيوخ تتمثّل فيه الطوائف والمذاهب على قدم المساواة. لكنّ ذلك لم يُطبَّق لأنّ الطوائف والمذاهب كانت خائفة من الإلغاء بعدما صارت شعوباً وأمماً. فلم تُقدِم ولم يساعدها من كلّفه عرب “الطائف” وأجانبه وهو سوريا معاونة اللبنانيّين لتطبيقه وتجاوز كل العقبات التي تعترضه. وعلى العكس من ذلك فقد قرّرت انطلاقاً من مصلحتها إبقاء لبنان محكوماً من رؤوس ثلاثة ومُقسّماً دولاً ثلاث وتكريس الطائفيّة والمذهبيّة فيه، كي تبقى حاكمة له وكي تجعله الحديقة الخلفيّة لها، وكي تستفيد منه لتعزيز موقعها الإقليمي ووضعها الاستراتيجي باحتواء الوجود الفلسطيني المُسلَّح فيه تمهيداً لاحتواء “منظّمة التحرير”. وما وصل إليه لبنان اليوم من تدمير لدولته بالغالبيّة الساحقة من مؤسَّساتها ومن تكريس انقسام شعوبها يجعل الكثيرين يعتقدون أنّ الاحتجاج الشعبي الوطني الأكبر العابر للطوائف والمذاهب الذي بدأ في 17 الشهر الماضي لا بُدّ أن يفتح في نهاية المطاف باب تغيير النظام الحالي، ولا سيّما بعدما سمع اللبنانيّون والعرب والعالم أصواتاً من المشاركين فيه من طوائف ومذاهب عدّة تهتف بحزم وإصرار: الشعب يريد إسقاط النظام.
هل يسقط النظام؟ وهل يكون البديل منه أحسن أم أسوأ؟ الجواب الأوّل عن السؤالين أنّ أحداً لا يعرف جواباً صادقاً وحاسماً. ذلك أن الطائفيّين والمذهبيّين، وهم موجودون في كل شعوب لبنان ومُسيطرون عليها رغم الوهن الذي بدا أنّ الاحتجاج المُشار إليه أعلاه أصابهم، مُصرّون على طابعه الانقسامي الحالي، ومتُمسِّكون رغم تجاوبهم مع الدعوات الإصلاحيّة اجتماعيّاً وماليّاً واقتصاديّاً وحقوقاً وقضاء بمكاسبهم المشروعة وغير المشروعة، ومُتمسِّكون أيضاً بمكاسبهم الضخمة السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة رغم علامات الاستفهام الكثيرة على مصادرها. وللتدليل على هذا الأمر لا بُدّ من الإشارة إلى “المُثالثة” التي قد تحلّ مكان المناصفة في النظام السياسي اللبناني حكومة ومجلساً نيابيّاً وإدارات ومؤسّسات متنوّعة، والتي لا بُدّ أن ترافقها أو تعقبها خطوة مكمّلة لها هي إمّا المداورة في كل من الرئاسات الثلاث، وإمّا المُداورة بين الطوائف الرئيسيّة الستّ أو الشعوب في الرئاسة الأولى، ولكنّ من ضمن مجلس رئاسي يُتّفق على طريقة عمله وصلاحيّاته. ولا بُدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ تعديل المادة 95 من الدستور سيفتح الباب أمام المُثالثة. هذا إذا استقرّ الوضع في البلاد بعد الاحتجاج الوطني الأكبر المستمرّ منذ 27 يوماً والذي يُسمّيه القائمون به ثورة. وهذا ليس كلاماً في الهواء ولا تنظيراً، فـ”حزب الله” كان مُقتنعاً، استناداً إلى مُتابعين له من قرب ومن زمان، بأنّ تمسُّك “التيّار الوطني الحر” ومؤسِّسه رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون بتعديل المادة 95 سيوصل لبنان وشعوبه إلى “المُثالثة”، واقتناعه ليس موافقة عليها. والمعلومات المتوافرة عند قريبين من قصر بعبدا تفيد أن سيّده تلقّى استفسارات كثيرة ومن شخصيات مُسلمة ومسيحيّة عن التعديل المذكور. وكان رأي البعض منها أنّها ستوصل لبنان إلى “المثالثة”. وكان رأي المُسلِمة منها أنّه ربّما من الأفضل فتح باب المستقبل أمام لبنان الدولة المدنيّة وفقاً لما ورد في “اتفاق الطائف”، وبذلك يأخذ الجميع حقوقهم. علماً أنّ “المثالثة” توافق المسلمين أكثر من غيرهم لأنّهم بشعبَيْهم السُنّي والدرزي سيُشكِّلون أكثريّة فيه رغم انقساماتهما وحروبهما المُزمنة. وهم لا يسمحون بسيطرة مسيحيّة تامّة على الثلث المسيحي إذا تناقصت الخيارات. وقد يتوحّدون وإن موقّتاً. لكن بعبدا لم تكن من هذا الرأي إذ اعتبر سيّدها أن الثلث من الرئاسة حتّى الحاجب مروراً بكل المراتب السياسيّة والإداريّة والأمنيّة والعسكريّة أكثر ثباتاً من النصف في وظائف الفئة الأولى في الإدارة العامّة والمؤسَّسات والمصالح، فضلاً عن أنّه يؤمِّن استقراراً في العمل الرسمي على تنوُّعه.
طبعاً اللبنانيّون الآن في مكان آخر. فـ”الثوّار” سجّلوا نقاطاً مُهمّة ويطمحون إلى الانتصار وتحقيق التغيير. والمُمسكون بالدولة وبكل مؤسَّساتها والمُهدَّد إمساكهم بشعوب الطوائف والمذاهب يعملون، ولا يطمحون فقط، لإنهاء الثورة بمزيد من الوعود ومن الوفاء ببعضها ومن المكاسب الاجتماعيّة ومن “كبش محرقة” أو أكثر من كل طائفة ومذهب ومن كل قطاع خاص أو عام على تنوّع المؤسّسات. وإذا فشلوا لعناد ولعجز في آن فإنّ أحداً لا يستطيع أن يضمن أن لا تكون الفوضى وعدم الاستقرار في كل الأوضاع والقطاعات ممزوجة أو بالأحرى ملطَّخة بالدماء.