الطائف… ليس خبرًا على ورق – 4
30 أيلول 1989. الحدث داخل قصر المؤتمرات في مدينة الطائف السعودية. إفتتاح إجتماع البرلمانيين اللبنانيين بحضور 62 نائباً من أصل 73 لبّوا دعوة اللجنة الثلاثية المنبثقة عن قمة الدار البيضاء. أما في الخارج فالحدث من نوع آخر. إعلاميون من كل الوسائل اللبنانية والعربية والعالمية تجمهروا لاقتناص الخبر والصورة. فالحدث ليس عاديًا لأنه مرتبط مباشرة بإنهاء حرب إستمرت 15 عامًا في لبنان. كثر تمنوا آنذاك أن يقع عليهم الإختيار من قبل الوسيلة الإعلامية التي يعملون فيها للمشاركة في تغطية وقائع هذا المؤتمر التاريخي. ومنهم من فضل أن يبقى العين الثالثة التي تراقب من موقعها الإعلامي. ومن لم تقع عليه قرعة الإختيار من داخل المؤسسة التي يعمل فيها طرق أبواب نواب وسمع الجواب الذي أراده.
الإعلاميون الذين واكبوا الحدث صاروا قلة، وما بقي في مخزون الذاكرة أقل بكثير. فالزمن آنذاك كان يعتمد على خربشات القلم وحفيف الورق وفيلم الكاميرا. وكما لكل حدث تفاصيله ومفاجآته كانت الإفتتاحية في رحلة إعلاميي الطائف: تمديد مدة الإقامة من 10 أيام إلى 23 يوماً…. وبقيت مانشيتات الحدث الراوي الوحيد والمفكرة التي تختزن كل الذكريات.
البعلبكي: مبادرة القرن العشرين من دون منازع
نقيب الصحافة الراحل محمد البعلبكي الذي شارك الوفد الإعلامي أعمال التغطية واللقاءات كتب عن تلك التجربة «في الطائف كانت المبادرة التي قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، من أهم المبادرات العربية التي تمت منذ إنشاء جامعة الدول العربية ولغاية هذا التاريخ. فقد كانت هذه المبادرة الكريمة والخيّرة والتي سعت في جوهرها للتقريب بين اللبنانيين المتخاصمين على وطنهم، كانت مبادرة القرن العشرين بحق ومن دون منازع. فقد قدر لي مع زملائي الصحافيين حضور هذا المؤتمر الذي سُمي «مؤتمر الوفاق الوطني» بين اللبنانيين، وكان في مدينة الطائف التي هي جزء لا يتجزأ من الأراضي المقدسة التي باركها الله ورعاها… كنت من الذين حضروا في اتفاق الطائف يوم احتضنت المملكة اللبنانيين من أجل أن يتفقوا وما زلت أذكر جيداُ ما قاله الملك الراحل فهد بن عبد العزيز حرفيا للمؤتمرين «لن أسمح لكم بمغادرة الطائف إلا متفقين حتى ولو لزم الأمر وجودكم هنا عدة أشهر». وبالفعل، وبعد جهد شخصي برعاية المؤتمر رعاية كاملة، إتفق النواب على الميثاق فقرة تلو فقرة حتى أصبح دستوراً للبنانيين في علاقتهم فيما بينهم، وهكذا عاد البناء الى لبنان، وعاد السلام وعادت صيغة العيش المشترك. وهذا أمر يذكره الجميع. ولا ينساه سوى من لا حب في قلبه ولا رحمة».
من الطائف إلى بيروت… عون: الطائف «هرطقة»
يروي صحافي مخضرم رافق الوفد الصحافي إلى الطائف أن عملية إنتقال الصحافيين إلى مدينة الطائف في السعودية توزعت بين طريقين، مطار بيروت وخط قبرص تماما كما النواب الذين توزعت رحلاتهم عبر هاتين الوجهتين إضافة إلى فريق ثالث وصل إلى السعودية عن طريق باريس.
ويروي: «إفتتح المؤتمر في الثلاثين من أيلول. كان من المفترض أن ينهي أعماله خلال يومين أو ثلاثة أيام، إلا أنه استمر ثلاثة وعشرين يوماً عشنا خلالها فترات صعبة، وتقلبات في المواقف كادت أحياناً تؤدي إلى فشله.
كانت الجلسات صاخبة وخصوصاً عندما كان يتطرّق البحث إلى تعديل بعض مواد الدستور، التي تحدُّ من صلاحيات رئيس الجمهورية. خلال إحدى المناقشات طلب الرئيس الراحل الياس الهراوي الذي كان ضمن وفد النواب الكلام وسأل عن هدف إجتماع الطائف، هل هو وضعُ حدٍّ للحرب وإيجاد صيغة للتعايش بين الطوائف، أم تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي؟ هنا لاحظ الحضور علامات التعجب على وجه الرئيس الحسيني. أضاف الهراوي: «هل من الطبيعي أن يُعطى رئيس الجمهورية مهلة خمسة عشر يوماً للإعتراض على المرسوم، الذي يقرُّه مجلس الوزراء ويصبح في حال إقراره مرة ثانية مرغماً على توقيعه، وإلاًّ يحق نشره من دون توقيع فيما هذا التقييد لا ينطبق لا على رئيس الحكومة ولا على الوزراء؟ لماذا تصّرون على إمكان عقد مجلس الوزراء في غياب رئيس الجمهورية، ومنعه في حال حضوره من حقّ التصويت على المواضيع المطروحة للبحث؟ إنّ من الخطأ إلغاء حق رئيس الجمهورية في حلِّ مجلس النوّاب، لأنكم بذلك تحولون دون وجودِ رادع إذا أراد المجلس عرقلة الحياة التشريعية. وهل في العالم دولة ديموقراطية لا يحق فيها لرئيس الجمهورية أن يقترح على مجلس الوزراء حلَّ البرلمان»؟
وبعدما لفت إلى أنّ مجلس النوّاب في لبنان حُلَّ مرتين فقط في تاريخه الحديث، الأولى في عهد الرئيس كميل شمعون والثانية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، تابع: «وإذا أضفنا إلى ذلك عزمكم على جعل ولاية رئيسه أربع سنوات بدلاً من ستة، فإنكم ستجعلون رئيس مجلس النوّاب ديكتاتورًا والمجلس الحاكم بأمره في البلاد»، خصوصاً أن المهلة الممنوحة لإعادة درس القانون الذي يردّه إليه رئيس الجمهورية في فترة حدّدت بثلاثين يوماً، تُركت مفتوحة أي أنه يمكنه إعادة درسه بعد فترة طويلة تكون فيها ظروف البلاد تبدّلت، ولم تبق حاجة إليه أو في بعض الحالات يصبح مضراً بالمصلحة الوطنية».
كان من المتفق عليه مع المسؤولين السوريين قبل أن نتوجهَ إلى الطائف، ألا تتعدى فترةُ ولاية رئيس المجلس السنتين وأن يكونَ عدد النوّاب مئة وثمانية وعشرين. إلا أنّ بعض النوّاب رأى أنّ عدد الذين سيعيّنون سيفوق عدد المنتخبين إن اعتمد هذا الرقم، لذلك تمَّ التوافق على أن يكون عدد النوّاب مئة وثمانية موقتاً، على أن يرتفع العدد إلى مئة وثمانية وعشرين في الانتخابات المقبلة، وهذا ما جرى في انتخابات 1992. لم يكن رقم المئة والثمانية هو النهائي الذي اعتمد خلافاً لما يقول البعض.
يضيف الصحافي المخضرم مقتطفات من حواشي الذاكرة ويقول: «شكَّل رئيس المجلس لجنة مصغّرة لوضع المشروع النهائي لوثيقة الوفاق الوطني، وقبل وضع اللمسات الأخيرة على الوثيقة، آثار عدد من النوّاب موضوع إنتشار الجيش السوري في لبنان. رُفعَ الملف إلى اللجنة الثلاثية التي كلَّفت الأمير سعود الفيصل البحث فيه مع المسؤولين السوريين. إنتقلَ الأمير الفيصل إلى دمشق يرافقه الشيخ رفيق الحريري وعادا منها بتوضيحاتٍ وردت في اتفاق الطائف، تنص على أنه بعد تحويل الإتفاق دستوراً ينسحب الجيش السوري إلى مشارف الجبل حتى المديرج وضهر البيدر، إلاَّ إذا طلبت الدولة اللبنانية بقاءه في مناطق محدّدة لحفظ الأمن، على أن يبقى في البقاع ريثما يتمُّ التفاوض على الإنسحاب الكامل. ويعود انتشار الجيش السوري في مراكز في منطقة جبل لبنان لم يكن فيها من قبل، إلى رفض العماد ميشال عون تسليمَ السلطة إلى الشرعية وإصراره على البقاء في بعبدا.
قبيل منتصف يوم الأحد في الثاني والعشرين من تشرين الأول وبعد إثنين وعشرين يوماً من المناقشات، صادق النوّاب بالمناداة بالأسماء ورفع الأيدي على النص النهائي لوثيقة الوفاق الوطني، التي أصبحت دستور البلاد الجديد بغالبية ثمانية وخمسين صوتاً من أصل اثنين وستين بعد انسحاب النائبين زاهر الخطيب وتوفيق عسّاف ممثليّ «الجبهة الوطنية»، إحتجاجاً على رفضِ رئيس المجلس تسجيلَ تحفظاتهما على عدد من البنود الواردة في النص لا سيما منها ما يتعلق بعددِ النوّاب، إذ أصرّا على أن يكون العدد مئة وثمانية وعشرين بدلاً من مئة وثمانية، ومطالبتهما بوضع جدول زمني محدّد لإلغاء الطائفية السياسية، وتغيُّب إدوار حنين الذي أصابته وعكة صحيّة ونقل إلى المستشفى، وامتنع حسن الرفاعي عن التصويت «لأسبابٍ قانونية».
بعد انتهاء عملية المصادقة على الإتفاق كان إجماع على دعوة الرئيس سليم الحص والعماد ميشال عون، لحضور اللقاء الختامي الذي ترأسه الملك فهد في جدّة ليباركا ما اتّفقَ عليه، وكنا نحلمُ بالعودةِ معاً إلى البلاد وقد طوينا صفحة الماضي لنبدأ يداً بيد صفحة جديدة. إنتقل الأخضر الإبراهيمي إلى بيروت لتوجيهِ الدعوة إلى «رئيسيّ الحكومتين». رفض عون الدعوة معتبراً إتفاق الطائف «هرطقة»، لأن النوّاب كما قال تجاوزوا صلاحياتهم على حسابِ صلاحيات حكومته الشرعية متهماً البعض منهم بالخيانة. عندها صُرِف النظر عن توجيه الدعوة إلى الرئيس الحص.
في القصر الملكي إستقبلنا خادم الحرمين الشريفين، الذي وقف إلى جانبه رئيس مجلس النوّاب يعّرفه بكل نائب يتقدم لمصافحته. خلال الإستقبال ألقى وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل كلمة رؤساء دول اللجنة الثلاثية التي رعت المؤتمر، وتحدث فيها عن السعي إلى تأمين بليوني دولار لإعادة بناء البنى التحتية في لبنان، بليون هبة من الدول الخليجية والآخر من الدول الغربية. لكن حرب الخليج حالت دون تنفيذ الوعد.
من الطائف توجه عدد من النواب إلى المغرب والجزائر لشكر الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد عضويِّ اللجنة الثلاثية على جهودهما التي أدّت إلى وضع وثيقة الوفاق الوطني، ثم عاد قسم من النوّاب إلى لبنان والقسم الآخر لا سيما منهم المقيمون في بيروت الشرقية، إلى باريس ومنهم الرئيس الحسيني، الذي كان يصّر على إجراء الانتخابات في أقرب وقت، حيث اجتمع والنوّاب للبحثِ في مكان إجرائها. فاقترح بعضهم السفارة اللبنانية في العاصمة الفرنسية، فيما نصحَ البعضُ الآخر بإرجائها بضعة أيام لمزيد من التشاور.
عاد رئيس المجلس إلى بيروت وأعلن في الأول من تشرين الثاني نوفمبر، تعيين موعد انتخاب رئيس الجمهورية الجديد في الرابع من الشهر ذاته في قصر منصور.