ويبقى اتفاق الطائف هو الحلّ!

النوع: 

 

أكثر من ثلاثين سنة على عقد اتفاق الطائف ثم إبرامه في مجلس النواب عام 1989. معلوم أن الاتفاق أنهى حرباً أهلية كانت على وشك الانطفاء ذاتياً، لاستهلاك أطرافها في معارك مدمرة جانبية، فيما عُرف بحرب الإخوة، في المعسكر المسيحي خاصة بين عامي 1990 و1991، بعد الصدامات المختلفة الأطراف في صفوف المعسكر الإسلامي ما بين عامي 1984 و1990. لقد جاء اتفاق الطائف ليمنح الجميع ذريعة لوقف حرب باتت بلا معنى. ولا مفروضاً بعد ذلك، أن يكون هدف الاتفاق تأسيس هدنة مؤقتة واستراحة محارب، كما كان يحدث طوال السنوات الدامية السابقة عليه، ثم يعودون إلى التقاتل مرة ثانية. صحيح أن أمراء الحرب قبلوا به على مضض، وارتضوا به على تفاوت. لكن الاتفاق هو خلاصة المشاريع الإصلاحية من نشأة لبنان الطائفي. وجاءت الصياغة عمومية لإرضاء كل الاتجاهات، وهذا ما رآه سياسيون وخبراء قانونيون، ثغرات تحتاج إلى تصحيح وتعديل. لكن الحق أن هذه الثغرات الظاهرة هي متعمّدة لتجنّب الخلاف. أما جوهر الاتفاق، وأهم ما فيه، بغضّ النظر عن صلاحيات الرؤساء والوزراء، وإغفاله المهل الدستورية في بعض النقاط الأساسية، هو أنه يضع لأول مرة آلية محدّدة لإلغاء الطائفية السياسية، عبر تعديل المادة 95.

كانت المادة المذكورة ومنذ عام 1926 تنص على ما يلي: "بصورة موقتة والتماساً للعدل والوفاق تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة". وهذا كان قبل إجراء الإحصاء الرسمي اليتيم لسكان لبنان عام 1932. وكان مفترضاً تطبيق العدالة التي تحدثت عنها المادة الدستورية المثيرة للجدل، بعد هذا الإحصاء، فيكون تمثيل الطوائف في وظائف الدولة بصورة عادلة، لا كمّياً وحسب، بل نوعياً كذلك. وهذا ما لم يكن، حتى تدحرجت أزمات متعاقبة، وصولاً إلى الحرب الأهلية، وكان حافزها الأكبر، خوف المسيحيين من اختلال موازين القوى بالوجود الفلسطيني المسلح، وتجاوزاته.

عُدّلت هذه المادة التي هي جوهر النظام الطائفي القائم، عام 1990، أي قبل ثلاثين سنة، وباتت المادة الجديدة مزوّدة بآلية محدّدة وإن بطريقة معقّدة بعض الشيء تسمح بالتملّص من تطبيقها فعلاً، وهي كما يلي: "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضمّ بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.

مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية:

- تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.

- تُلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويُعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة، والقضاء، والمؤسسات العسكرية، والأمنية، والمؤسسات العامة، والمختلطة، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها، وفي ما يعادل الفئة الاولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيّد بمبدأي الاختصاص والكفاءة".

ما حدث منذ ذلك الوقت، أن البرلمانات المتعاقبة تقاعست عن تطبيق الدستور، وهذه المادة على وجه خاص. بل العكس هو الذي تكرّس، أي الطائفية السياسية بشكل جديد هو الترويكا. بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السني ورئيس البرلمان الشيعي. وتعطّلت أمور الدولة في الصغير والكبير، في توافه الأمور كما في عظائمها، دون تدخل دمشق. وبدلاً من المضيّ في تعقيم الدولة من لوثة الطائفية، انتكست المسيرة إلى الوراء، وبات الصراع حتى عام 2005 بين المكوّنين السني والشيعي على الصلاحيات والحصص. وبعد تفاهم مار مخايل بين حزب الله والتيار الوطني الحر عام 2006، انطلق مسار آخر، هو سعي الثنائي الماروني الشيعي لقضم صلاحيات رئيس الحكومة السني، مع طرح فكرة المؤتمر التأسيسي مواربة، ومعها المثالثة، أي قسمة السلطة على ثلاث طوائف كبرى. وكان يغنيهم عن كل هذا العناء، تطبيق المادة 95. والأسوأ من ذلك، سعي العهد إلى تفسير المادة نفسها، بما يكرّس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين حتى في أصغر الوظائف، أي بعكس مقتضيات الخطة المرحلية نحو إلغاء الطائفية السياسية كاملاً، أي بالضدّ من اتفاق الطائف، ومن الدستور اللبناني نصاً وروحاً.

والحجّة هي أن المرحلة الانتقالية لم تبدأ بعد، لأن الهيئة الوطنية لم تتشكّل بعد. وبما أنها لم تتشكّل فعلى النظام اللبناني أن يعود القهقرى إلى الوراء، فيرسّخ التوتر الطائفي مجدداً، بل يسير وفق طموحات جبران باسيل باسترداد الحقوق المسيحية المنهوبة من الطرف السني، أي من صلاحيات رئيس الحكومة.

الآن، وبعد أشهر من انطلاق الثورة التشرينية، العام الماضي، والدعوات التي تنتاب بعض مجموعاتها، بالقفز إلى الدولة المدنية، وهو التعبير الملطّف عن العلمانية الشاملة التي كان يختبئ وراءها الساسة المسيحيون عادة للتهرب من إلغاء الطائفية السياسية. بل غياب اتفاق الطائف كلياً عن خطابات الثورة وبياناتها. يبدو أنه من هدر الأعمار في تأكيد ما هو مؤكد، وفي التغافل عن الآلية الموجودة في نص الدستور، والعودة في الصراع الوطني إلى نقطة الصفر!

الكاتب: 
هشام عليوان
المصدر: 
التاريخ: 
الاثنين, أبريل 27, 2020
ملخص: 
لقد جاء اتفاق الطائف ليمنح الجميع ذريعة لوقف حرب باتت بلا معنى. ولا مفروضاً بعد ذلك، أن يكون هدف الاتفاق تأسيس هدنة مؤقتة واستراحة محارب، كما كان يحدث طوال السنوات الدامية السابقة عليه، ثم يعودون إلى التقاتل مرة ثانية. صحيح أن أمراء الحرب قبلوا به على مضض