الطائف مات ودُفن: الدولة المدنية أو الأمر الواقع

النوع: 

 

ثمّة ربط مقصود بين المضمون الاستثنائي والمتقدم لمواقف المفتي أحمد قبلان، وبين خلفيته السياسية المعروفة والنافرة. القصد من الربط يتعدى منطق التفصيل والتحليل والنقاش ويتجاوزهم إلى الشيطنة الكاملة، وهذا مفهوم ومتوقع ومباح، على اعتبار أن مواقفه الجذرية من النظام اللبناني لا تعدو كونها تجسيدًا فاقعًا لرغبة سياسية دفينة بقلب الطاولة، وذلك عبر تقريش المكتسبات المتراكمة على مدى سنوات، وتحويلها من أمر واقع فُرض بالقوة، إلى نص مُلزم وناظم ومؤسس لتركيبة سياسية جديدة ولعقد اجتماعي مغاير.

لا يُمكن لأي وطني عاقل أو حكيم إلا وأن يتماهى مع المضمون المجرد لهذه المواقف، بل وأن يتخذ منها أساسًا لفتح نقاش هادئ ومستفيض لمقاربة التجربة اللبنانية بكل أبعادها، منذ الاستقلال وحتى يومنا هذا، على أن تشمل هذه المقاربة كل شيء، انطلاقًا من الهوية والصيغة والميثاق والمناصفة، وصولاً إلى اتفاق الطائف وقيام دولة يتساوى فيها المواطنون في حقوقهم وفي واجباتهم، وتكون صاحبة الحق الحصري في امتلاك السلاح وفي اتخاذ قرار الحرب والسلم وفي رسم السياسية الخارجية.

يؤخذ على الصيغة أنها تسوية ثنائية بين السنة والموارنة، وهذا صحيحٌ في الشكل وظالم في الروحية والمضمون. ويؤخذ على اتفاق الطائف أنه انقلاب منمّق على ما اتفق عليه، باعتباره تجسيدًا فاقعًا لصيغة الغالب والمغلوب، وانتقالاً متدرجًا من المارونية السياسية إلى السنية السياسية، وهذا قد يصح في الشكل أيضًا، لكنه ظالم حتمًا في الروحية وفي المضمون.

الأساس الثابت في الحالتين أنهما كانا أفضل الممكن وأكثر المتاح، ولا يمكن الحكم عليهما إلا بعد مراجعة دقيقة وشاملة لكل الحيثيات والأسباب الموجبة، ولكل التوازنات الداخلية والاقليمية والدولية التي رافقت هذه التسويات وساهمت في قيامها وبلورتها على الشكل الذي نعرفه، وبالتالي فإن التعاطي مع هذه التسويات المرحلية والموضعية باعتبارها نصًا منزلاً ومنزهًا، لا يقل فداحة عن التعاطي معها باعتبارها مؤامرة أو استهدافًا. هذا ليس تشريعًا لفتح النقاش وحسب، بل دعوة صريحة لوضع كل الهواجس على طاولة البحث، ولدراسة كل الأفكار التي قد تؤسس لتطوير النظام وتفعيله.

نحن أمام خيارين لا ثالث لهما. إما أن نذهب إلى تعديلات آنية تلحظ الواقع وتتخذ منه منطلقًا لتشريع المكتسبات، وهذا سيفتح بوجهنا أبواب الجحيم، وسيرفع التوتر الطائفي والمذهبي والسياسي نحو منتهاه، ولن نصل في نهاية المطاف إلا لتسوية مركبة وبلد مستنزف ونظام مصاب بمرض عُضال، ولنا في قضية تعيين محافظ بيروت أوضح تجربة ومثال.

أما الخيار الثاني فهو محصور بقيام دولة حقيقية يتساوى فيها الجميع بحقوقهم وواجباتهم، ويصير فيها المواطن مواطنًا، لا عنصرًا في حزب أو رقمًا في طائفة أو منتسبًا في عشيرة.

انطلاقًا من هذه الروحية، يُمكننا أن نُصنّف موقف المفتي أحمد قبلان باعتباره واحدًا من أهم وأدق وأوضح المواقف السياسية التي أُطلقت منذ سنوات طويلة، حيث أن شكله وتوقيته ومضمونه يُعطي انطباعين متوازيين: الأول يستند إلى قرف مفهوم ويصبو إلى رغبة عارمة بالتغيير والانتقال إلى نظام سياسي صحي وإلى دولة سليمة وخالية من الشوائب، لا سيما بعد انفجار ثورة شعبية غير مسبوقة، وبعد الانهيار المتسارع والمتدحرج لكل أساسات لبنان واقتصاده وماليته، ناهيك عن حضوره ودوره ورسالته وتأثيره، وهذا تطور مهم وممتاز، بل ونظنه يفتح كوة لا بأس بها في خضّم الركود الفكري والاجترار السياسي وتورّم النزعات الانفصالية.

الانطباع الثاني، وهو محط تمحيص وتدقيق ومتابعة، يتمحور حول الرسالة السياسية التي أُريد لها أن تصل إلى مسامع المعنيين عبر موقف متقدم من هذا النوع، وهي رسالة مواربة لكنها صريحة، مفادها أن الثنائية الشيعية التي رفضت سابقًا فكرة المثالثة التي طرحتها فرنسا في مؤتمر سان كلو، باتت مهيأة الآن للبحث الفعلي في تشريعها بعد تطبيقها، وهي بهذا الموقف أرادت أن تجس النبض، وأن تقول بالفم الملآن إن أي تسوية على حساب سلاح حزب الله ودوره ومشروعه لا بد أن يبدأ بتثبيت حضور الشيعة في النظام وفي التركيبة السياسية على نحو وازن ومؤثر، بعيدًا من شكلية رئاسة المجلس النيابي وبعض المواقع الرديفة أو الهامشية في مختلف المفاصل الحيوية، وهذا أيضًا ما يُعطي موقف المفتي قبلان أهميته الاستثنائية، باعتباره تعبيرًا واضحًا عن الهدف الذي لا بد من التعاطي معه بوضوح مماثل.

نعود إذاً إلى الخياريين الذيّن لا ثالث لهما: إما دولة كاملة الأوصاف، وإما تسويات مرحلية يفرضها الواقع، والواقع هنا أن الشيعة صاروا من أكبر الطوائف في لبنان، وأن ما كان يصح في صيغة لبنان الكبير، ولاحقًا في اتفاق الطائف، ما عاد يصح اليوم، وبالتالي علينا أن نختار، لا أن نوغل عميقًا في الربط والشيطنة والرفض، وفي الاصرار على تنفيذ اتفاقات ماتت ودُفنت ووضع على قبرها حجرًا كبيرًا كي لا تقوم.

ولمن لا يعرف، أو لا يريد أن يعرف أو يعترف، اتفاق الطائف، بمضمونه السياسي المتنازع عليه، دُفن منذ اتفاق الدوحة بالفعل والممارسة، وإذا كان هناك من يريد دسترة هذه المتغيرات لصرف ما اكتسبه عبر فائض قوته فليكن، وليبدأ النقاش من الآن حول الثمن المقبول للبننة كل الحالات النافرة، بعيدًا من الالتفاف والتذاكي، مرة عبر الثلث المعطل والوزير الملك، ومرات عبر الاصرار على الاحتفاظ بوزير المالية وتوقيعه الملزم.

الردّ الوحيد والأنجع على كلام المفتي قبلان يكمن في شجاعة المطالبة بقيام دولة مدنية كاملة الأوصاف، وإلا فإن النقاش حول تعديل النظام سيُفتح على مصراعيه، وعاجلاً أم آجلاً لا بد من التغيير، الفارق أننا نريده بالتفاهم والحوار، لا فوق جثث مائة ألف قتيل.

بكل الأحوال. الناس بكثرتها الكاثرة باتت في مكان آخر. والعاصفة وإن تأخرت ستأتي، والأرجح أن عَصفها لا يُبقي ولا يذر.

الكاتب: 
قاسم يوسف
التاريخ: 
الاثنين, يونيو 1, 2020
ملخص: 
ولمن لا يعرف، أو لا يريد أن يعرف أو يعترف، اتفاق الطائف، بمضمونه السياسي المتنازع عليه، دُفن منذ اتفاق الدوحة بالفعل والممارسة، وإذا كان هناك من يريد دسترة هذه المتغيرات لصرف ما اكتسبه عبر فائض قوته فليكن، وليبدأ النقاش من الآن حول الثمن المقبول للبننة كل