كتاب نهوض لبنان: ادارة التغيير في المجتمع اللبناني .. العوائق والاستراتيجيات والمؤسسات أولاً

النوع: 

 

في ظل الضياع الذي يسود البلاد جراء الاختلاف على خطة الانقاذ المالي، والانتقادات التي وجهت اليها من قبل الكثير من القوى السياسية والجهات الاقتصادية لتضمنها الكثير من الاجراءات والافكار التي تتعارض مع الدستور وتضرب النظام الاقتصادي الحر، فضلاً عن عدم تضمنها برنامجاً واضحاً للنهوض بالاقتصاد الوطني،

تبرز الحاجة الملحة الى الكتاب الذي عمل على وضعه واعداده رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي السابق روجيه نسناس، حين كان لا يزال يشغل هذا المنصب في العام 2016، تحت عنوان: نهوض لبنان، نحو دولة الانماء، لكونه يقدم حلولاً عملية وعلمية لمشكلات لبنان الاقتصادية ولكونه يقدم سلسلة متكاملة من الاقتراحات والسياسات والتدابير التي تسمح بإعادة وضع الاقتصاد الوطني في مسار التعافي والنهوض وحماية قوته البشرية.

إنطلاقاً من هذه الاعتبارات فإن موقع leb economy files سيقوم بنشر محاور الكتاب التي يتضمنها بشكل متلاحق،

في حلقة اليوم (2) ننشر الفصل الاول تحت عنوان “ادارة التغيير في المجتمع اللبناني .. العوائق والاستراتيجيات والمؤسسات أولاً” بقلم د. انطوان مسرّه – عضو المجلس الدستوري ورئيس كرسي اليونسكو لدراسة الأديان المقارنة والوساطة والحوار، جامعة القديس يوسف

ادارة التغيير في المجتمع اللبناني .. العوائق والاستراتيجيات والمؤسسات أولاً

يتطلب التغيير مشروعًا ورؤية ومُخيلة ابداعية، ولكنه اذا اقتصر على الايديولوجيا فقد يُثمر في التعبئة موقتًا ليولد بعدئذ اليأس والمرارة والاحباط. وتلي عندئذ ايديولوجية اخرى بديلة تستغل رمزية التغيير ونقمة الناس للتعبئة في التنافس السياسي تجاه شعوب يائسة.

التمادي في خطاب سياسي حول التغيير بدون البحث في تطبيقاته، كالخطاب المستمر حول “الغاء الطائفية السياسية”، لا يقتصر على سياسيين بل يشمل مُثقفين. هل يحتاج لبنان فعلاً الى برامج عامة ومبهمة وشعاراتية مع عناوين كبرى وتوصيات، اي إلى خطب استعراضية ولتبرئة الذات؟ هل يحتاج الى بيان وزاري يتكلم عن كل شيء وبدون تحديد، ويفتقر الى تفاصيل عملانية تتعلق بقضايا حياتية مع تحديد الامكانيات في التنفيذ للتغييرات المقترحة؟ التغيير هو بطبيعته إستراتيجية تشمل فاعلين وخططًا تطبيقية وهو يصطدم بطبيعته ايضًا بعوائق وحدود وظروف ومقاومة او دعم في اطار القدرات المادية والبشرية.

في حالة نظام برلماني تعددي régime parlementaire pluraliste بين ثماني عشرة طائفة يرتكز على سياسة التسوية التفاوضية والذي يشبِّهه الرئيس حسين الحسيني “بميزان الجوهرجي”، يصطدم التغيير في لبنان في مدلوله الاستراتيجي بمجموعة من الاشكاليات.

1- العوائق

اشكالية السلطة: هل الدولة في لبنان سلطة تقرير أم مجرد تدبير؟ الاستشارات الوزارية المتمادية مع ما يرافقها من تعطيل وشروط من هنا وهناك، بحجة تأليف حكومة وفاق وطني، هي المثال البارز لنظام مصاب بالانحلال بسبب التراجع المنظَّم والمتدرِّج لمبدأي القاعدة الحقوقية والتصويت. انها الاشكالية المحورية للسلطة والشرعية في نظام حيث لا تكفي الاكثرية البسيطة لاتخاذ قرار وحيث طغيان أقلية abus de minorité خلافًا للمادة 65 من الدستور قد يجمِّد سياق التقرير وحيث، في حالات عديدة، يعاني النظام اختراقات خارجية بشكل احتلال عدائي او اخوي وضغوطًا خارجية تُغذي التباينات الداخلية وتتلاعب بها وتعمل على تطييف (من طائفة) مُصطنع غالبًا لهذه التباينات.

أوجدت وثيقة الوفاق الوطني او الطائف تاريخ 5/11/1989 وسيلة دستورية من خلال التعديل الدستوري تاريخ 21/9/1990 للمادة 49 من الدستور بجعل رئيس الجمهورية حاميًا للقاعدة الحقوقية، في حين تجعل التوازنات الاخرى التي كانت مقترحة من رئيس الجمهورية رئيسًا فخريًّا.

اما ترويكا الرئاسات فهي إنحراف عن القواعد الدستورية. وتشكل المُماطلة في تشكيل الحكومات انحرافًا آخر عن هذه القواعد، حيث ان حكومة ائتلاف الطوائف (المادة 95/T) لا تضم بالضرورة كل القوى السياسية. في حال ضم الائتلاف كل القوى السياسية بدون استئناء فهذا يزعزع مبدأ التضامن الوزاري، وكذلك مبدأ السلطة التنفيذية أو بالأحرى “الاجرائية” (الفصل الرابع) المتميزة عن السلطة التشريعية فتتحول الحكومة الى صورة مصغَّرة عن المجلس النيابي وينتفي دور المعارضة والرقابة البرلمانية.

تم غالبًا تبسيط إشكالية السلطة في النظام الميثاقي اللبناني، الذي يتصف بطبيعته بتعدد مراكز التقرير polyarchique، او تم التهرب من موجبات النظام من خلال البحث في “الطائفية”، او تم إستغلال التعددية اللبنانية من قبل أقطاب في الداخل والخارج في غابة موحشة حيث يتصارع رجال سياسة. أطلق المندوب الفرنسي جورج غورس Georges Gorse في السنوات الاولى من الحروب في لبنان على بعضهم لقب “شياطين السياسة”.

والسلطة في لبنان هي ايضًا مُستضعفة او فاقدة لبوصلتها بسبب مواقع النخب القممية (اقطاب) حيث تنتج ديكتاتورية نخبة élitocratie في نظام جامد للمشاركة. فتجد السلطة نفسها، حسبما قال الرئيس رشيد كرامي في بداية 1976: “بين كميل (شمعون) وكمال (جنبلاط) وصلنا الى هذه الحال”.

اصطدم الرئيس فؤاد شهاب، بدافع منه في التغيير وفي ظروف مُستقرة بالنسبة الى أوضاع الرؤساء الذين أتوا بعده، بإشكالية سلطة الدولة. انه يطرح المعضلة بتعابير واضحة وأليمة في آن مع إحتمالات يعتبرها خطيرة وغير ناجعة، وذلك في تصريحه في 4/8/1970 الذي عمل على صياغته الوزير فؤاد بطرس حيث يقول: “قناعتي ان لبنان ليس جاهزًا لاعتماد معالجات أساسية لا أستطيع تبنِّيها الا في إطار إحترام القاعدة الحقوقية والحريات الاساسية التي انا حريص دائمًا عليها”.

لمعالجة المعضلة المزمنة للسلطة في ميزان مُتعدد وفي محيط إقليمي عدائي أو نزاعي او غير ديمقراطي، كانت المعالجة تاريخيًا من خلال المكتب الثاني للجيش خلال العهد الرئاسي وخلافًا لارادة الرئيس شهاب، او السعي للتوفيق المستحيل بين الدولة ونقيضها من خلال اتفاق القاهرة سنة 1969، او إعتماد الامن بالتراضي خلال الحروب المتعددة الجنسيات في 1975-1990، او هيمنة الاستخبارات اللبنانية-السورية بعد وثيقة الوفاق الوطني…، ودائمًا مع الادراك الثابت وعلى الطريقة العربية أن الجيش قد يكون هو “الحل” من خلال رئيس جمهورية نابع من المؤسسة العسكرية تحت تأثير الرمزيَّة الاستئنائية للرئيس فؤاد شهاب.

ممارسات سائبة ومزاجية: لا يمكن إلتزام التغيير، في اي مجال، بدون ترشيد ممارسات نظام برلماني تعددي. ليس هذا النظام بطبيعته سائبًا وبدون ضوابط حيث قاعدة الكوتا أو التمييز الايجابي discrimination positive جامحة ومطلقة العنان لصالح اقطاب لهم اليد الطولى في المحسوبية أو الزبائنية، وحيث قد تؤدي مُقتضيات الوفاق الى الخروج عن القاعدة الحقوقية non-droit، وحيث يُلغى مبدأ التصويت في مجلس الوزراء حتى في ما يتعلق بسياق إداري في تعيين موظفين.

يحتوي كل نظام سياسي على بذور فساده اذا إفتقر الى حدود. حظي تخطي الحدود في النظام اللبناني بتبرير وحتى ببركة ذهنية سائدة تُختصر بالمقولة التالية: هذا هو النظام الطائفي! يقول أحد الاقطاب السياسيين، الذي من مهامه الاساسية الدفاع عن القانون، ولتبرير ممارسة المحسوبيّة او الزبائنيّة: “طالما ان النظام طائفي فاننا نريد حصتنا“! لم يضع علماء الدستور ولا الحكام قواعد لضبط الممارسة الاعتباطية لقاعدة الكوتا في تمثيل الطوائف. هذه الممارسة المزاجية هي العائق الأبرز للفعالية وللخدمة العامة.

دكتاتورية النخبة والزبائنية: ان دكتاتورية بعض الاقطاب والتمادي في معالجة القضايا كافة من خلال مواقع نفوذ وتبعية زبائنية، وتفاقم التبنين الطائفي pillarisation تُشكِّل عوائق قصوى لاعتماد سياسات عامة للصالح العام. يقتضي اعتماد ديناميّات مُتجددة لتحديث زعامات تقليدية تحمل في غالبيّتها تراثًا وطنيًا في الدفاع عن الاستقلال والسيادة وهي مُدركة لمعنى لبنان، خلافًا لزعامات جديدة lumpenelite تدّعي التغيير. هذا التحديث ضروري لتدعيم مبدأ الفصل بين السلطتين التشريعية والاجرائية ولتوجيه الادارة نحو الفاعلية والانتاجية والخدمة العامة.

ما يُغذِّي دكتاتورية النخبة، اكثر من الثقافة السياسية السائدة، هو تحريك التباينات بين الطوائف وإثارة المخاوف بينها حول الامن القومي والسيادة والاستقلال وطبيعة علاقات لبنان مع محيطه في صلات عربية منفتحة وغير مغلقة حصرًا مع سوريا أو غيرها. ان الخوف وتغذيته والتلاعب به تستدرج الناس الى الاستتباع لزعامات طوائف في القمة بهدف الحماية الذاتية. تجسدت مقدمة الدستور اللبناني المعدل: “لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه” بفضل المعاناة المشتركة في 1975-1990، وربيع بيروت في 14 آذار 2005، والتضامن الوطني تجاه حرب تموز 2006. لا تغيير مستدام وبالعمق بدون إقفال لبنان الساحة او الرصيف، بالمعنى الفرنسي للكلمة trottoir، اي مجال نزاعات وحروب “لاجل الآخرين”.

يوفّر الفصل بين النيابة والوزارة، حسب إقتراح قانون النائب نعمة الله ابي نصر، دينامية جديدة في العلاقات بين السلطتين التشريعية والاجرائية وادارة السياسات العامة. يمكن إنتقاء الوزراء من بين النواب لاسباب تمثيلية وفي سبيل التوازن والوفاق، ولكن عند تعيينهم يقتضي استقالتهم من النيابة.

الاستدامة: كل تغيير لا يتصف بالاستدامة يُشكِّل تجديدًا ظرفيًا وموقتًا. تَزعزع النمو المستدام في لبنان، ليس حصرًا بسبب طبيعة النظام الدستوري، بل بسبب الاوضاع الاقليمية: اتفاق القاهرة سنة 1969 وتداعياته، حرب السنتين 1975-1976 وإتفاق كمب دافيد الذي تبعه مع الاجتياح الاسرائيلي، الهيمنة الاستخباراتية، العدوان الاسرائيلي وحرب تموز 2006… لكن هذه الاوضاع ذات التأثير المباشر على الامن والامان والاستقرار والاقتصاد، ليس من المحتَّم امتدادها الى المجالات كافة. تعود أسباب تداعياتها السلبيّة على مختلف المرافق الى قيادات ناظمة للدولة وتتوفر لها الاستمرارية بفضل تخصيص ست سنوات لعهد رئيس الجمهورية وأربع سنوات لرئيس المجلس النيابي. يهدف المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي نشأ استنادًا الى التعديل الدستوري سنة 1990، الى العمل الفاعل والمحرك للمشورة المُستمرة حول السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية.

2 –  الاستراتيجيات

رئيس الجمهورية حارسًا لمبدأ القاعدة الحقوقية: لم يستوعب الفكر الدستوري بعض التغييرات الدستورية استنادًا الى وثيقة الوفاق الوطني تاريخ 5/11/1989 والتعديلات الدستورية تاريخ 21/9/1990. يضيف تعديل 21/9/1990 المقطع التالي على المادة 49 من الدستور:

“رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة اراضيه وفقًا لاحكام الدستور”.

ليست هذه الاضافة من نوع البلاغة الكلامية، بل على العكس هي توفِّر صلاحية  أو بالأحرى دور لرئيس الجمهورية، دور فوق الصلاحيات وتنازعها وتقاسمها، دور القيادة المعنويّة للبلاد magistrature morale وحراسة مبدأ القاعدة الحقوقية gardien du principe de légalité. ليس رئيس الجمهورية مجرَّد حَكَم médiateur، بل هو حارس دستوري في كل قضية ومشروع قانون او مرسوم او هو امبودسمان ombudsman دستوري وحقوقي قبل المجلس الدستوري المؤسَّسي. انه حكم بالمفهوم الحقوقي arbitre في أنظمة التحكيم وتاليًا استنادًا الى قواعد حقوقية وليس مساومة. ان القيادة المعنوية للدولة والسهر على المعايير الحقوقية هي ورشة كبرى تتخطى الصلاحيات وتتخطى الطائفة المارونية، وهي بذاتها عنصر جمع وتوحيد لانها دفاع عن القاعدة الحقوقية كوسيلة لتحقيق المساواة بين الجميع وحمايتهم في معزل عن الانتماءات التبعية.

ما يؤكد التوجه الجديد في تحقيق التوازن، مع تجنب تحوّل رئيس الجمهورية رئيسًا فخريًا او “رجل بعبدا”، تأكيد دور رئيس الجمهورية في “السهر” على الدستور من خلال النصوص الدستورية الجديدة ومن خلال المداولات والاعمال الاعدادية التي سبقت وثيقة الطائف. تم التأكيد على الدور الجديد او المتجدد لرئيس الجمهورية، خارج منطق الصلاحيّات، من خلال النصوص الدستورية المكمِّلة التالية:

مراجعة المجلس الدستوري: لرئيس الجمهورية حق مراجعة المجلس الدستوري في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين (المادة 19 الجديدة).

القَسَم الدستوري: القَسَم الدستوري محصور برئيس الجمهورية (مادة 50) في حين وردت مقترحات اصلاحيّة خلال مداولات الطائف وقبلها لشموليّة القَسَم الدستوري رئيس مجلس الوزراء.

توجيه رسائل: لرئيس الجمهورية عندما تقتضي الضرورة حق توجيه رسائل الى مجلس النواب (مادة 53-10 الجديدة).

المبادرة في مجلس الوزراء: لرئيس الجمهورية حق عرض اي أمر من الامور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الاعمال (المادة 53-11 الجديدة).

اعادة النظر في القوانين والمراسيم: لرئيس الجمهورية حق الطلب الى مجلس الوزراء اعادة النظر في أي قرار من القرارات التي يتخذها المجلس خلال خمسة عشر يومًا من تاريخ ايداعه رئاسة الجمهورية (المادة 56). و”لرئيس الجمهورية، بعد اطلاع مجلس الوزراء، حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لاصداره ولا يجوز ان يُرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقَّه هذا يصبح في حل من إصدار القانون الى ان يوافق عليه المجلس بعد مناقشة اخرى في شأنه، وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الاعضاء الذين يؤلفون المجلس قانونًا” (المادة 57 الجديدة).

يبدو جليًا، من خلال هذه النصوص الجديدة والمُكمِّلة لبعضها البعض والتي تشكل وسائل عملية لممارسة وظيفة “السهر” الدستورية، ان رئاسة الجمهورية ليست موقعًا بين السياسيين، وليست جزءًا من منظومة نفوذ، ولا يمكن مقاربتها من منطلق صلاحيات تنفيذيّة، بل هي قيادة ودور يعلو على المواقع والصلاحيّات في سبيل توطيد سلطة المعايير وممارسة دور دستوري وحقوقي ناظم لهذه السلطة في الحياة العامة.

بعض “مقرَّرات” رئيس الجمهورية، المرتبطة بدور “السهر على احترام الدستور” الواردة آنفًا، لا تخضع لشرط توقيع رئيس الحكومة والوزير او الوزراء المختصين… (المادة 54 الجديدة) لانها لا تتمتع بصفة المراسيم التقريرية. اذا اعتَبَر البعض ان التوقيع ضروري فهو في هذه الحالات لاخذ العلم وليس للموافقة.

يقول كثيرون، وغالبًا من منطلق ثقافة النفوذ على حساب الثقافة الديمقراطية وثقافة القاعدة الحقوقية culture de légalité، ان هذا الانتخابات” و”مرصد الديمقراطية في لبنان” و”مرصد التشريع في لبنان”… ضخامة هذا العمل والخلقية المهنية والثقافة الديمقراطية التي يتطلبها.الدور لرئيس الجمهورية هو “لا شيء”! يعود ذلك الى جهل لضخامة مضمون هذا الدور ومسؤوليّاته، اذ يتطلَّب “السهر” على الدستور جهدًا يوميًّا لمجموعة من الكادرات لضبط المعايير الحقوقية للمشاريع والسياسات العامة، ومراقبة مدى إنطباق مشاريع القوانين والمراسيم مع المبادئ الدستورية ومسار دولة الحق.

ترشيد الممارسات: إن التحليل الدستوري مصاب بالعقم بسبب إستمرار منمَّطات وأُطر مفهوميَّة سائدة منذ العشرينيات. لم تعد المقاربة التقليدية بريئة، اذ انها تبرِّر التمادي في التطييف من قبل سياسيين لا يُدركون الموجبات الديمقراطية لنظام برلماني تعددي. الحاجة الى إعتماد مقاربات اخرى اكثر استنتاجية.

ان تعيين الموظفين هو خاضع لقواعد قانونية وادارية وتراتبية. كلما تم اختراق مبادئ دولة الحق مع التقيد فقط بالشكل القانوني فهناك تحايل على القانون. وليس سبب الفساد قاعدة التمييز الايجابي، بل ممارستها المنحرفة مع بَرَكة دستوريين ومثقَّفين. تحوَّلت مناهضة الطائفية، احيانًا عن حسن نية، في التنافس السياسي والتلاعب بالقانون، الى وسيلة لشرعنة مُمارسات سياسيين يتم تبرئتهم وهم لا يخضعون للمساءلة عملاً بالمقولة الرائجة: هذا هو النظام الطائفي! يتطلب التغيير حصر الوقائع الطائفية في الحدود المرسومة في القواعد الحقوقية والادارية ومبادئ دولة الحق. انها مقاربة بحثية وعملية مُتجددة للجامعيين وللفاعلين الاجتماعيين.

كل نظام سياسي، باستثناء المنظومات التوتاليتارية والدكتاتورية، يتضمن حدودًا للحؤول دون تجاوز حد السلطة. عندما يتقيَّد سياسيون بالحدود تتكوَّن عندئذ القناعة بحظوظ الانتقال الى نظام أكثر تنافسية concurrentiel مع تجنُّب مخاطر العزل الدائم والهيمنة الفئويّة.

من أبرز اشكاليات الحُكمِيَّة gouvernance ضرورة الانسجام بين القاعدة الحقوقية ومقتضيات الوفاق الوطني. يندرج النظام القائم على التسوية politics of accommodation (من يُشكِّك بأن حسن إدارة التسوية قيمة ديمقرايطة؟) في إطار روحيّة التشريع تَوصُّلاً الى التضامن الوطني، او على العكس قد يندرج في سياق تقاسم نفوذ بين بعض الاقطاب الذين يخترقون قواعد حقوقية في أعمال خارج القانون non-droit.

ان خضوع كل قرارات مجلس الوزراء في الممارسة للاجماع، بما فيها تعيين موظفين، هو مناقض للمادة 65 من الدستور المعدَّل.

وادخال كل التناقضات الحزبية في ائتلاف الطوائف الحكومي هو خرق لمقتضيات توفر معارضة فاعلة ولمبدأ التضامن الوزاري والرقابة البرلمانية.

ان ممارسة النظام اللبناني مُثْقلة بثلاثين سنة من الانحلال في الممارسة. تُشكل اعادة الاعتبار الى القاعدة الحقوقية في اطار الخصوصيّة اللبنانية ورشة عمل ضخمة دعامتها الاساسية رئيس الجمهورية اذا مارس دوره كحارس للدستور حسب المادة 49 الجديدة.

يمكن تجاوز عوائق عديدة في النظام اللبناني اذا توفَّرت الشروط الدنيا في تطبيق القانون، والا أي تغيير في النظام سيكون بدون ضوابط في شريعة غاب موحشة. ميزات وثيقة الوفاق الوطني انها فتحت مجالاً عقلانيًا للتغيير.

المقاربات التدريجية approximations successives: لا تغيير في لبنان بالقوة او بالفرض من قمة السلطة ولا حظوظ تغيير من خلال مُستبد مُستنير despote éclairé. ان التغيير الذي قام به الرئيس فؤاد شهاب هو من خلال مقاربات مُتدرجة، اي انطلاقًا من رؤية شمولية واستراتيجية متدرجة. وسبب ذلك ان التغيير في نظام برلماني تعددي وفي ميزان متعدد لا يطرح اشكاليات مجرد تقنية، بل يُؤثر على التوازنات المؤسسية والشخصية والمناطقية والطائفية.

يُثير التغيير في مجتمع متنوِّع مخاوف في قلب التوازنات. لذا عندما تُثير جرعة أولى من التغيير الامان النفسي يتم إدخال جرعة ثانية، وبعدها جرعات اخرى بدون المساس بالتناسق العام وبتصميم الفاعلين. ربما ليست هذه الاستراتيجية المثاليَّة، ولكنها الاستراتيجية الممكنة. لو أعطى الرئيس شهاب الجرعات التغييرية كلها دفعة واحدة حول الاصلاح الاداري والضمان الاجتماعي والتنمية… لما تم اقرارها.

سياسات عامة من خلال المشورة: يتم التغيير من خلال مقاربات مُتدرجة، وايضًا من خلال سياقات مشورة في السياسات العامة. لدينا مثال رائد من خلال خطة النهوض التربوي بإدارة البروفسور منير ابو عسلي، بخاصة في مادتين نزاعيَّتين هما التربية المدنية والتاريخ (1997-2002). أصبحت العملية التغييرية مُمكنة بفضل سياسة مشورة مع القوى السياسية، وغالبًا من خلال تحييد سِلمي لبعض هذه القوى وبالتعاون مع المقرِّرين والفاعلين في الشؤون التربوية. انها حالة نموذجية في إدارة ديمقراطية لسياسة عامة مع حظوظ قصوى في الفعالية وبفضل مشاركة المقرِّرين والفاعلين ودعمهم. تتمتَّع كل سياسة عامة بحظوظ في التطبيق، بدون انحراف ومع كلفة ادارية ومالية ادنى، اذا توفر لها الدعم وبفضل تعبئة المعنيين.

تغيير السياسة: اذا استمرَّت السياسة في لبنان كصراع موحش للنفوذ وتصارع بين اقطاب وتعبئة نزاعية فلا حظوظ كبرى في التغيير حتى لو توفَّرت برامج رشيدة، اذ ان السياسة هي ايضًا ادارة للشأن العام. لا تغيير ولا حكميَّة رشيدة بدون روحيَّة الشأن العام esprit public. لذا من واجبات المربين والهيئات المهنية والنقابات والجمعيات الاهلية والفاعلين في البلديات… تنمية ثقافة الشأن العام، في مواجهة ممارسات زبائنية وحزازات محلية. يقتضي طرح كل المواضيع بدون استثناء من منطلق نوعية الحياة وتأثيرها على حياة الناس اليومية وعائلاتهم واولادهم وصحتهم ومستقبلهم وانطلاقًا من مبدأ: الانسان أولاً. هل من المعقول اغتيال العدد الكبير من الشهداء، من كل الاتجاهات ولا اتجاهات، ليحصل ربيع بيروت في 14 آذار 2005؟ ان مثال بولونيا بالغ الفائدة: المتظاهرون في “حركة التضامن” كانوا يُعلنون، ظاهرًا، انهم لا يتعاطون “السياسة” ولا يعارضون السلطة… ولكنهم يريدون ان يأكلوا وان يرسلوا اولادهم الى المدرسة!

وعلى العكس، مثال بارز لاستراتيجية سابقة غير فاعلة حالة المطالبة بقانون مدني إختياري للاحوال الشخصية. تندرج هذه المطالبة في اطار القرار 60 LR تاريخ 13/3/1936 والذي هو ساري المفعول ولكنه غير مطبَّق، وكذلك المادة 9 من الدستور اللبناني التي تنص على ان “حرية الاعتقاد مطلقة”. بعض الحملات السابقة وقبل 2014 لصالح المشروع جمعت مُناضلين من كل درب وصوب: لا طائفيين ومناهضين للاديان ومُلحدين ويساريين وعلمانيين…! أدى ذلك سابقًا الى مزيد من تسييس الموضوع وتطييفه وادخاله في صراع نفوذ يتخطَّى التنفيذ العملي لمبدأ دستوري.

يكتسب اللبنانيون ثقة أكبر بادعاءات بعض الزعماء حول الاستقلال والسيادة ورسالة لبنان ودوره العربي عندما تكون الطريق في الشارع العام في حال صيانة جيدة، والمدرسة الرسمية مفتوحة وذات نوعية تعليم عالية، وعندما يشعر كل مواطن بالمساواة والكرامة في تعاطيه مع الادارات العامة… يبدأ التغيير حقًا حين يكلِّمنا وزير اشغال عامة ووزير تربية ووزير موارد مائية وكهربائية… عن حالة الطرقات ومدرسة الحي وانارة المنازل… جوابًا على تصريح لاحد الوزراء كتب غسان تويني:

“نأمل ان يهتم وزير الموارد المائية والكهربائية بالانارة… بدلاً من تخصُّصه في رفض الاستعانة بخبراء من الدول الاستعمارية للكشف عن إغتيالات يسعى خبراؤنا نحن الى طمسها. هؤلاء الوزراء ذوو الحساسية بالنسبة الى الاستعمار وحصرًا في الاستعانة بخبراء في سبيل استقصاء فعلي حول اغتيالنا… يضعون انفسهم في موقع الدفاع عن المجرمين”.

لماذا في اسرائيل لا تعيق “الظروف الاقليمية” تنفيذ الخطط التربوية وصيانة الطرقات وتبسيط الاجراءات الادارية وتغذية المنازل بالماء والكهرباء…؟

ليس تعديل قانون الانتخاب، خلافًا لادراك سائد، مفتاح التغيير الشامل. ان السلوك الانتخابي المواطني وليس الزبائني لمواطنين واعين لمصالحهم، الحياتية الحقوقية المشروعة، هو الذي يُغير بالعمق المسار في لبنان.

فكّر شموليًا واعمل محليًا: لن يكون التغيير الشامل محسوسًا ويُثير التماثل والاقتداء الا اذا تجسّد في البُنيات التحتية للمجتمع على المستوى المصغر micro، في الشارع والحي والمدرسة والمصنع والبلدية… كل خطة او برنامج شامل لا يتضمن تفاصيل براغماتية لترجمته الى أعمال مصغرة micro-actions او قطاعية يبقى مجرَّدًا ولا يحمل تنمية انسانية مستدامة ولا يغيّر في الذهنيات والسلوكيات وفي الثقافة السياسية السائدة الغارقة في خطابات فوقية. ان الفِرَق المتعدِّدة الاختصاصات équipes polyvalentes للتنمية المحلية خلال عهد الرئيس فؤاد شهاب في الستينيات، بقيادة مصلحة الانعاش الاجتماعي وجوزف دوناتو بالذات، تُشكِّل نموذجًا يُقتدى به في سبيل التغيير.

على المستوى المحلي وفي ظروف لبنان تتركَّز العوائق الكبرى في سبيل العمل للصالح العام على المستوى المحلي. على هذا المستوى تتركز الحزازات والخلافات العائلية والسياسية. إستخف غالبًا علماء إجتماع وسياسة بالابحاث على المستوى المصغر مُفضلين بحوثًا حول البنيات الفوقية، في حين ان ثقافة التمكين empowerment والاستدامة تنمو على هذا المستوى.

اعتبرت أعمال محدّدة ميدانية وعلى مستوى البنيات التحتية، بسبب ذهنية تقليدية، وكأنها نوع من “الخبز والالعاب” Panem et circenses، حسب مقولة الكاتب اللاتيني جوفينال (Satires, X, 81، Juvénal) الذي يسخر من الرومان العاجزين عن التفكير في أمور آخرى غير التوزيع المجاني للقمح والمشاركة في ألعاب الملاهي.

تُصحِّح الاعمال المحددة والمركزة والمتراكمة وفي إطار مفهوم الشأن العام esprit public، بخاصة في بلد صغير كلبنان حيث سيكون لها تأثير العدوى، انحرافات السياسة كمجرد صراع نفوذ. وتزعزع هذه الاعمال من جذورها شبكات الفساد والزبائنية واعادة انتاج التبعية. ان عامل البلدية الذي يغش في عيار المياه في القرية لصالح أحد المستهلكين هو غالبًا جزء من شبكة نفوذ تربط عامل البلدية بمجلس بلدي ونائب في البرلمان ووزير، وربما بأبعد من وزير في علاقات زبائنية وفساد اقليمية.

لاسباب داخلية واقليمية، لن تأتي المعالجات من السياسة العليا في قمة السلطة الا في حال مطالبة الناس وملاحقتهم يوميًا في مجتمع يُعيد تكوين ذاته على اساس مصالحه الحياتية اليومية الحقوقيّة والمشروعة. كل سياسة غير مواطنية، اي لا تنطلق من المواطن المستفيد من خدمات عامة ومساهم في أعباء عامة، تشكل خطرًا قوميًا! المثال الابرز لتغيير مواطني مركَّز هو برنامج “بيطلع بايدنا” لجمعية “فرح العطاء”، بخاصة في منطقة بعل الدراويش وبعل الدكور في طرابلس.

 استراتيجية النواة: في بلد صغير يمرّ في أوضاع قد تتجمّد فيها برامجه الكبرى بسبب صراعات نفوذ وتبعية ونزاعات محلية، تُوفر استراتيجية النواة حظوظ الفعالية. لكن هذه الاستراتيجية تناقض المنحى السائد في عرض تصاميم وتوصيات من عدة أمتار للاثبات أن النظرة الشمولية متوفرة! النظرة الشمولية ضرورية ولا شك، لكن التطبيق يتطلب مقاربة ومقاربات استراتيجية عملانية مكملة. تقضي استراتيجية النواة البحث عن محاور حيث تبرز بوادر تغيير بفضل فاعلين ومبادرين يتمتعون بالقدرة على تأطير الجهود ويوفِّرون أمثلة ميدانية في التغيير تثير الثقة والتماثل والاقتداء والتمكين.

عندما يوضع برنامج لتنمية قطاع التعليم الرسمي مثلاً، تقضي الخطة، اذا كانت عملية، باختيار عشر مدارس رسمية او اكثر كل سنة وفي مختلف المحافظات تُعتمد كمدارس نموذجية لتطبيقات مُصغرة.

تنظيمات طوائف بذهنية الشأن العام: يمكن للتنظيمات العديدة للطوائف في لبنان (دينية، تربوية، ثقافية، استشفائية، اجتماعية، خدماتية…) ان تكون عامل تنمية ذاتية ومن الداخل endogène في مجتمع حريص على تنوُّعه، وحَذر احيانًا من فرض سياسة عامة من قبل السلطة المركزية. يبيّن تاريخ لبنان الانجازات التربوية التي حقّقتها مؤسَّسات تعليمية رائدة من خلال مدارس مُنتشرة في كل لبنان وتتوجَّه الى كل اللبنانيين. ومنذ الخمسينيات سعت الطوائف الاسلامية الى تنمية مؤسّساتها التربوية مُساهمة بذلك، الى جانب مؤسّسات التعليم الرسمي، في تحقيق المزيد من المساواة في المستويات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين الطوائف. تنظيمات الطوائف قادرة ان تكون عنصر تنمية ذاتية ومن الداخل وللصالح العام، اذا عملت بذهنية الشأن العام. على سبيل المثال اذا سعت جمعية خيرية سنيّة الى ضم لبنانيين من طوائف اخرى وأنشأت لجنة حي في سبيل تحسين نوعية الحياة في الحي، حيث يقطن سنّة وغير سنّة…، فهذا يساهم في التنمية الذاتية والعامة. لا بأس بتنظيمات طوائف، ولكن غير مغلقة وتعمل بذهنية التنمية وللصالح العام.

الرافعات: يحتاج التغيير، الذي يجابه بطبيعته مقاومات وعوائق، الى رافعات leviers قادرة على حمله ومتابعته. أين الاحزاب والهيئات النقابية والمهنية عامة والجمعيات الاهلية…؟ اذا اتخذ وزير مواقفًا رائدة، واذا قدّم نائب اقتراح قانون، واذا أصدر احد القضاة حكمًا نموذجيًّا عادلاً… من يدعمهم تجاه منظومة متطورة من النفوذ؟ هل التنظيمات المهنية والنقابية وجمعيات المصارف والصناعيين والتجار… هي مجرد إمتداد لقوى سياسية أم هي متواطئة مع هذه القوى او تتمتع بالاستقلالية الضرورية للدفاع عن المصالح المهنية المشروعة التي تنعكس ايجابًا على نوعية حياة الناس؟ تم اختراق تنظيمات عديدة من المجتمع الاهلي واستتباعها.

واين الادارة في لبنان التي يقوم عليها تنفيذ اي برنامج عام في التغيير؟ بعد ثلاثين سنة من إستتباع الادارة العامة يمكن القول ان الادارة العامة لا تخلو من موظفين يتمتعون بالكفاءة والخلقية الوظيفية، ولكنه لا تتوفر ادارة قادرة على حمل التغيير. تم انشاء المعهد الوطني للادارة، بالتعاون مع المعهد الوطني للادارة في فرنسا، في سبيل تأهيل جيل جديد من الاداريين استنادًا الى نظامه الداخلي في الاعداد والتدريب تاريخ 9/6/2005 والذي وافق عليه مجلس الادارة. مؤسستان هما هيئة مجلس الخدمة المدنية بالذات، غير زبائنية وحريصة على إستعادة سلطة المعايير، والمعهد الوطني للإدارة من خلال نظامه الداخلي في الاعداد والتدريب واستعادة استقلاليته وبدون اختراق وتعجيز وتعطيل، هما ركيزتا التغيير في الادارة اللبنانية.

ويشكل المجلس الاقتصادي والاجتماعي، بالرغم من العوائق ومساعي التعطيل، نموذجًا لمحور قادر على تفعيل بنيات مهنية وأهلية مخترقة ومستضعفة طيلة ثلاثين سنة وفي سبيل تفعيل السياسات العامة.

يتطلب التغيير في لبنان، بالاضافة الى الرؤية والمنهجية، اعادة بناء المؤسسات بشكل عملي ومحسوس، وابرزها المؤسسات الدستورية والامنية والسياسية والادارية والاجتماعية التي كان بعضها “يُنفِّذ أوامر”، حسب تعبير رئيس الحكومة فؤاد السنيورة خلال الجلسة البرلمانية في 5/10/2005. لذا يجب ان يُركز كل برنامج تغيير او تطوير على الرافعات أي المؤسسات واختيار الفاعلين acteurs القادرين على حمله ومتابعته. يتضمن مفهوم المؤسسة ثلاثة عناصر: التنظيم الذي يؤمن الادارة الرشيدة والاستمرار، والمشروع موضوع هذه الادارة، والقيادة اي الاشخاص القادرين الذين بدونهم تتحول المؤسسة الى هيكل عظمي بدون حياة في إدارة بيروقراطية تعمل لذاتها.

***

يتطلب التغيير في نظام برلماني تعددي معرفة بالعمق لمجالات التغيير، وكذلك لحدود النظام، ومعرفة للحظوظ التي يُوفِّرها بلد صغير يختلف وضعه عن اوستراليا الشاسعة والولايات المتحدة الاميركية. يمكن تحقيق تغيير شامل في اقل من خمس سنوات في لبنان اذا توفرت الشروط في الفعالية.

بين الخطب حول التغيير، يثير الخطاب الاخلاقي المتزمت puritaniste حول “الفساد” و”الطبقة السياسية”… المخاوف. الاخلاقية المتزمتة هي أكثر خطورة في السياسة منها في الحياة الخاصة، لانها تتجاهل الطبيعة المركبة للسياسة وتُصور الآخر بالشيطان وتبرر اللجوء الى وسائل غير متناسبة مع النتائج المنتظرة وبدون اعتبار للكلفة وللمنافع. لا نجاح في السياسة من خلال توسيع شبكات العداء الداخلي ولكن، وبدون مساومة، من خلال استقطاب اوسع للدعم وبتحييد بعض المنافسين والرافضين وبحصر الاضرار، وربما بتدجين فاسدين ومفسدين. لا عمل سياسي، بالمعنى الراقي، الا مع السياسيين والفاعلين والمجتمع، غالبًا كما هم، وليس ضدهم او بدونهم.

والمقاربة الاكثر تعقيدًا في نظام تعددي تكمن في “أكَلَة الجبنة”، كما كان يسميهم الرئيس فؤاد شهاب، وهم العائق الابرز في عملية التغيير، وقد يستحيل اقصاؤهم (على فرضية ان اقصاءَهم هو خلاصي)، ولكنه قد يُمْكِن تحييدهم او دمجهم في سياق التغيير في حدود معقولة ومع التقيد بالقانون. يتطلب ذلك من المجتمع ذاته، من خلال مُختلف تنظيماته، ان يكون اكثر ادراكًا لمصالحه الحياتية الحقوقية المشروعة، وان يوفر المجتمع الدعم لسياسات المصلحة العامة. اذا كان نظام النخب في لبنان يسير بشكل موحش فيعود ذلك الى علاقات نفوذ. تصف لور مغيزل التي هي من أهم الاستراتيجيين في التغيير، هكذا نضالها طيلة اكثر من نصف قرن:

"وضعنا سنة 1949 خطة عمل تُكمّل جهود الرائدات، انطلقنا بها من جردة لاحكام التشريع اللبناني في ضوء المواثيق الدولية ومقارنة بالتشريعات العربية، وجزَّأْنا المطالب الى مراحل، اعتمدنا في كل منها مطلبًا معيّنًا، اخترناه بالنسبة الى اهميَّته من جهة والى قربه من المنال من جهة اخرى، وضعنا به اقتراحًا محدّدًا ومعلّلاً، وأنشأنا في كل مرحلة لجنة خاصة نظًّمت النشاطات والاتصالات”.

هل يمكن الامل بصياغة برامج ذات رؤية شمولية ولكن استراتيجية، تتضمن تدابير أوَّليَّة، قد تكون عشرة او اكثر، في سبيل الدفع العملي للتغيير؟

لبنان هو استثناء في المنطقة: استثناء بالنسبة الى الكيان الصهيوني الذي أدخل الى المنطقة عاملاً متفجرًا وهو الترادف بين هوية دينية ومساحة جغرافية، واستثناء بالنسبة الى بعض الجوار العربي الذي يمارس غالبًا عروبة السجون بدلاً من عروبة حضارية. الخيارات امام لبنان في الظروف الاقليمية ثلاثة: اما الصهينة وقد تم السعي المستحيل اليها خلال الحروب بواسطة المعابر والمتاريس والفرز السكاني…، واما “التعريب” بالمعنى الواقعي السيئ أي الانجراف نحو “عروبة” السجون، أو اللبننة بمعناها الايجابي في نجاح الادارة الديمقراطية للتنوع ونشر العروبة الديمقراطية.

في هذا السياق، ان ممارسة الدولة اللبنانية لسلطتها، في مسائل السيادة بشكل خاص، تواجهها عوائق وتهديدات في إطار جوار عدائي أو غير ديمقراطي في حدود معقولة، حيث ان حدود لبنان الجغرافية مع جيرانه واسعة وتتطلب ترسيمًا وحماية. تندرج قرارات مجلس الأمن الدولي حول لبنان، على أثر التحولات في السياسات الدولية بعد

11 ايلول 2001، في إطار دعم الدول الصغرى المستضعفة التي قد تكون من خلال استتباعها مصدر حروب بالوكالة “من اجل الآخرين” أو ارهاب.

ان الوضع اللبناني هو مثال للوضع المُجمد société bloquée لاسباب اقليمية هي مستمرة في احتجاز لبنان كرهينته من خلال عدد، متضائل ولا شك، من اقطاب محليين. ما العمل في وضع مجمَّد؟ المنحى السائد في الذهنية اللبنانية والعربية عامة هو الانتظار الذي يُتخَّذ حجة لعدم الفعل: انتظار المحكمة الدولية حول اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه في 14/2/2005، وانتظار تغيُّرات اقليمية وانتظار التغيرات في وضع سوريا وايران… وجذور ذهنية الانتظار تعود الى عقدة الباب العالي في ذاكرة اللبنانيين.

تتوفر للبنان، بالرغم من واقع الجمود، حظوظ داخلية في اليقظة الوطنية من خلال “حلم آذار”، حسب عنوان مسلسل مروان نجار في تلفزيون LBC، وكذلك حظوظ في الدعم الدولي. لكن ذهنية الانتظار سائدة وقد عمَّمتها في المنطقة أنظمة استبدادية لتبرير فشلها “بسبب المؤامرات الخارجية”.

3 – اولويات التغيير

ما هي أمراض وعلاجات الأنظمة البرلمانية التعددية او الميثاقية؟ كما في الطب حيث لكل عضو في الجسم البشري وظائفه في الحالات الصحية الطبيعية المُنتظمة، كذلك لكل عضو أمراضه في حال اضطراب هذه الوظائف.

التركيز على الظواهر المرضية ومعالجتها فقط من خلال استئصال العضو المريض بدون دراسة الوظائف في الحالات الطبيعية المنتظمة التي تساعد على استكشاف أسباب اضطراب المسار الصحي المنتظم، خطأ منهجي.

يقتضي في العلوم الانسانية كافة اعتماد التشخيص ثم المعالجة. لا يمكن نقد منظومة استنادًا الى حالاتها المرضية، مع الافتراض ان منظومة أخرى بديلة هي غير معرضة هي ايضًا لأمراضها الخاصة. تفترض المنهجية التطبيقية الانطلاق من الظواهر المرضية لاستكشاف اسباب الجنوح المرضي وايجاد المعالجة الخاصة بالمنظومة. فلا توصف أدوية الرشح لأمراض القلب، ولا أدوية تصلب الشرايين لأمراض العين…

ينطلق باحثون في سردهم لأمراض هذه الأنظمة من الفرضية ان الأنظمة الأخرى او التنافسية لا أمراض لها، بينما لكل نظام امراضه الخاصة. فما هي أمراض الأنظمة البرلمانية التعددية؟ أبرز هذه الأمراض ستة:

ضعف أو فقدان معارضة فاعلة بسبب طبيعة ائتلاف الطوائف في الحكومة.

الجمود او البطء في التقرير لأن الأكثرية المجردة غير كافية في بعض الحالات.

تطبيق موحش لقاعدة التخصيص أو الكوتا لصالح المحسوبية.

ضعف سلطة الدولة التي هي جسر تفاوضي تجاه تعددية مراكز تقرير وبسبب ضعف شرعية الدولة في صلتها مع المواطنين.

مداخلات خارجية من خلال استقواء اقليات كبرى وقوى حزبية ذات امتداد خارجي.

تبنين طائفي pillarization لقيادات مع مخاطر دكتاتورية اقطاب.

ان نفي المرض عن أي منظومة هو نفي للعلاج، في حين ان الاثنين متلازمان.

في مختلف الخطط ترد، بأشكال حازمة أو خجولة، عبارات “شرطية” conditionnelle ذات جانب سياسي في سبيل تطبيق الخطط وهي شروط تتعلق ببناء الدولة وادارة الشأن العام والقيادة السياسية.

في سبيل ادارة التغيير في لبنان يمكن تصويب الشروط الأولوية بالتالي:

نشر ثقافة “لبنان أولاً” وتعميمها واقفال لبنان-الساحة: لا نهوض في لبنان ولا استدامة لهذا النهوض ولا ثبات وتجذر في الاصلاح، اذا كان لبنان ساحة لصراعات غيره. يقتضي تاليًا الاستفادة من الخبرات منذ 1975، وبخاصة من حرب تموز 2006 على لبنان، لنشر ثقافة لبنان أولاً. هذه الثقافة هي قمة لبنان الرسالة المناهضة للنموذج الصهيوني، وقمة العروبة الحضارية، وقمة الاسلام المعاصر في تفاعل خلاق مع المسيحية. تُنشر هذه الثقافة من خلال الجمعيات الاهلية العاملة في قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان والتنمية والمواطنية، ومن خلال اعادة الروح والفعالية الى خطة النهوض التربوي، وبخاصة برامج التربية المدنية والتاريخ، التي وضعت في السنوات

1996-2002. لا مجالات عمل جديدة ولا استثمارات ولا سياحة ولا حد من هجرة الكفاءات ولا ثقة في التنمية… الا اذا كان لبنان وطنًا وليس ساحة، ايًا كانت الاعتبارات التي ظاهرها وطني وقومي وهي تدمر عمليًا الوطن وقوميته.

سلطة المعايير: الحاجة في سبيل انطلاقة التغيير الى استعادة سلطة المعايير من خلال السلطات الأساسية الناظمة للمعايير autorités régulatrices des normes وهي: رئيس الجمهورية حسب المادة 49 الجديدة، والمجلس الدستوري، ومجلس القضاء الأعلى، وأعضاء هيئة مجلس الخدمة المدنية، ورئاسة مجلس النواب، ومجلس الوزراء… كما في الجسم البشري وحسب التحليل الاجتماعي لدركهايم Durkheim توصف الحالة المرضية anomie باضطراب الوظائف الناظمة. تَركَّز الاستهداف خلال سنوات من الاستتباع والاحتلال على ضرب مُتدرج ومُنتظم لسلطات المعايير.

لماذا يتم تطبيق قاعدة التمييز الايجابي بدون ضوابط وبطريقة موحشة لحشر ازلام في الادارات العامة، بخاصة منذ 1990، في حين تم تأليف اكثر من عشرين لجنة رسمية في الهند منذ الخمسينيات في سبيل ايجاد الوسائل الفضلى لهذا التطبيق لصالح المجتمع الكلي؟ كان لنظام التمييز الايجابي في الهند ايجابيات عديدة في المساواة والعدالة والفعالية الديمقراطية . يقتضي المباشرة في تأليف لجنة وزارية من الخبراء في لبنان تضع المعايير الحقوقية والادارية لتطبيق قاعدة التمييز الايجابي discrimination positive في زمن حيث يتم تطبيقها لبنانيًا بأسوأ الطرق، بينما توصَّلت مختلف الطوائف الى درجات متساوية إجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا وتتوفر كفاءات عالية داخل كل الطوائف بدون استثناء.

فصل النيابة عن الوزارة: يتطلب النهوض دينامية مُتجددة في ادارة الشأن العام اقل تبعية لمصالح انتخابية وزبائنية وكذلك استنهاض كفاءات لا تقتصر على اقطاب قُمميين – الذين اسماهم احد الأقطاب من “الصف الأول”. هذه الكفاءات متوفرة في العديد من افراد الطبقة السياسية القديمة والحالية وفي بعض الاقطاب بالذات، وقد يحررهم الفصل بين النيابة والوزارة من قيود تقليدية قد تنسجم مع ممارسة سياسة نفوذ ولكنها لا تنسجم مع منصب وزاري يتطلب منحى آخر في ادارة الشأن العام. ولن يكون الفصل مطلقًا، اذ قد تتألف الحكومة من نواب لاسباب تتعلق بضرورات التمثيل، ولكن يتوجب على النائب الذي يُعين وزيرًا استقالته من النيابة. قد يخفّف هذا الاجراء من التبنين الطائفي pillarization للقيادات ويوسع اطار النخبة السياسية ويساهم في تفعيل المراقبة البرلمانية (الوزراء–النواب تغطيهم كتل تمنع المساءلة) ويوفر طابعًا اداريًا تنفيذًا اجرائيًا للوزارة. توفر الدراسة التطبيقية المقارنة للوزارات في لبنان لجهة تكوينها البرلماني او من خارج البرلمان إستنتاجات لصالح الفصل بين النيابة والوزارة إستنادًا الى اقتراح القانون الذي قدمه النائب نعمة الله أبي نصر.

ركيزتا الاصلاح الاداري: ركيزتا الاصلاح الاداري هما هيئة مجلس الخدمة المدنية – الذي يفترض في اعضائها ان يكونوا سلطة ناظمة للمعايير في الادارات العامة، ومن جهة ثانية المعهد الوطني للإدارة كمؤسسة مستقلة وانسجامًا مع نظامه الداخلي تاريخ 9/6/2005 الذي وضعه مجلس الادارة.

قضايا الناس اليومية الحقوقية والمشروعة: الحاجة الى اختراق حالة الجمود من خلال حاجات الناس اليومية في التعليم والصحة والمعاملات الادارية وصيانة الطرقات ولجان الاحياء ومشاركة الناس في تفعيل دور البلديات… وكذلك من خلال نقابات وهيئات مهنية تدافع عن حقوق الناس اليومية وأمنهم اليومي، وبدون تسييس هذه الحقوق في التنافس بين النخب.

فكِّر شموليًا واعمل محليًا: انه الشعار الاستراتيجي الاكثر فعالية، بخاصة في مراحل الجمود. انه المسار الذي يزعزع بالعمق من الجذور شبكات التبعية. تدرك أنظمة الاستبداد ذلك وتدخل تاليًا في كل مفاصل المجتمع في سبيل تدعيم استمراريتها. على المستوى المحلي تتجمع كل عوائق وصعوبات المركز وقد تفشل خطط مركزية رشيدة ورائدة عندما يُعمل على تنفيذها على المستوى المحلي حيث تتأسس وتتراكم الحظوظ أو العوائق في البنيات الشخصية والعلاقات والممارسات. أهملت الدراسات العربية المستوى المحلي وانكبت غالبًا على البنيات الفوقية.

4 – استعادة قواعد الاعراب في العمل العام

الدستور وصفة وليس علاجًا: أفضل الدساتير وصفة طبيّة وليست بالضرورة العلاج. هل تقيّد المريض بالوصفة وطريقة تطبيقها وجرعاتها؟ اذا تقيّد بالوصفة ولم يتم الشفاء، يُعاد عندئذ التشخيص وتُعدّل الوصفة. الدستور اللبناني منذ سنوات وفي بعض بنوده غير مُطبق لكي نبحث جديًا للبحث في تعديله. وأي تعديل جديد لن يُطبق أو قد ينحرف عن هدفيته. الحاجة تاليًا الى الغوص في مفهوم الحكمية الدستورية gouvernance constitutionnelle، أي مراقبة تطبيق الدستور بدلاً من الانسياق في إقتراح تعديلات. لا يشكو لبنان اليوم على كل حال من مُعضلة كبرى في بنائه الدستوري، بل من خروقات عديدة في الممارسة والتطبيق.

وثيقة الوفاق الوطني – الطائف ولماذا لم تطبّق بكاملها: كل بنود هذه الوثيقة هي إنتاج لبناني أصيل كالكشك والاورما، باستثناء البند المتعلق بانسحاب الجيش السوري من لبنان. لا تصح دراسة الوثيقة بدون الرجوع الى جذور المداولات في سبيل الاستلهام من العوائق والحظوظ. تقضي الحكمة العمل حسب مبدأ الرئيس رشيد كرامي سنة 1976 في خضم نقد ميثاق 1943: “لنعمل لما يُغنيه ولا يُلغيه”.

اما اشكالية عدم التقيُّد بكامل روحية ونص وثيقة الطائف فتقضي الرجوع الى تصريح الوزير والنائب مروان حماده في الجلسة النيابية في 28/2/2005:

“كلفت إعداد المقدمة السياسية للبيان الوزاري. فقمت بالعمل وعرضته على الشهيد الرئيس الحريري فوافق عليه باستثناء صفحة واحدة، اريد ان يعرف اللبنانيون ما هي، رماها في سلة المهملات قرب مكتبه فنظرت اليه متعجبًا ومتسائلاً: “اين اخطأت يا دولة الرئيس؟”، وكانت الصفحة تتضمن سطرًا واحدًا يؤكد مسلماتنا الوطنية المبنية على اشارة الى اتفاق الطائف. نظر الي الشهيد وقال: “جايي على ذكر الطائف يا مروان، بدك تروّحنا؟” الطائف الذي بنينا معًا عليه السلم الاهلي تحول مذ ذاك من المسلمات الى الممنوعات والمحرمات. الآن عاد تغطية لامور اخرى، لماذا؟ ألانه يذكر اللامركزية الادارية او استقلال القضاء؟ هذه نكتة، بل لانه يذكر مع كل الاستحقاقات انسحابات سورية لم تتم ولم يكن، كما يبدو في النيّة، اتمامها، ولانه يذكر فصل الاجهزة العسكرية عن الممارسة السياسية، الامر الذي لم يتم بل مورس عكسه. بدّك تروحنا يا مروان، كان رفيق الحريري مهددًا مذ ذاك، لان اي ميل او نزعة او إتجاه أو حتى إنتماء الى بعض الاستقلال اللبناني كان سينعكس عليه وعلينا بالويلات” (النائب والوزير مروان حماده، الجلسة النيابية في 28/2/2005، وصحف 1/3/2005، وبخاصة المستقبل، 1/3/2005).

البند الوحيد في وثيقة الوفاق الوطني الذي كان مفروضًا يتعلق بانسحاب أو “اعادة تمركز” القوات المسلحة السورية. ورد في بعض الوثائق ان الرئيس حافظ الأسد “كتب النص بيده” حول الموضوع. ويقول مفاوضون انه كان يقتضي مراجعته شخصيًا! وورد أيضًا الدور الريادي في الإلتزام بشرعة حقوق الانسان في مُقدمة الدستور وملاحظات الرئيس صائب سلام حول المهلة لتأليف الوزارة.

قانون الانتخاب أشبع درسًا ومبدأ دورية الانتخابات: يحمل لبنان تراثًا طويلاً من الاختبار في الأنظمة الانتخابية يُمكن الاستفادة منه. ترتكز فلسفة هذا التراث على مبدأ الهيئة الانتخابية الموحّدة Collège électoral unique حيث ناخبون من مختلف الطوائف ينتخبون مرشحين من مختلف الطوائف.

مبدأ دورية الانتخابات هو الذي يعلو على اي إعتبار آخر. ثم تأجيل الانتخابات تزرعًا بعدم الوفاق على قانون انتخابي جديد. الوفاق هذا هو من صلاحية النواب وليس الشارع. الحاجة الى التوقُّف عن البحث انطلاقًا من الصفر في قانون الانتخاب. أشبع هذا الموضوع من الناحية التقنية درسًا من خلال لجنة فؤاد بطرس وأعمال أخرى. ليس المطلوب إستعادة الدراسة تقنيًا، بل اعتماد خيار سياسي انطلاقًا من النصوص الرسمية المتوفرة التي هي بذاتها ثمرة جهود تُحدد مجالات الممكن وغير الممكن.

لا تقتصر صحة التمثيل في كل الأحوال على القانون، بل ترتبط بثلاثة عناصر: قانون الانتخابات، ادارة الانتخابات، سلوك الناخبين. قد يوفر قانون انتخابي سيئ نتائج مقبولة في حال ادارة انتخابية نزيهة وسلوك مواطنين ناخبين وليس مجرد مقترعين. وعلى العكس، قد يُوفر قانون إنتخابي جيّد نتائج سيئة في حال ادارة انتخابية سيئة وسلوك مقترعين تابعين وغير واعيين.

الحكومة في لبنان سلطة “اجرائية”: لا تغيير ولا فعالية ولا سياسات عامة ولا مساءلة ولا فصل بين السلطات ولا انتظام المؤسسات… اذا كانت الحكومات في لبنان برلمانات مُصغرة. وردت تسمية السلطة التنفيذية في الدستور اللبناني “بالسلطة الاجرائية” (الفصل الرابع)، اي بشكل أكثر فعالية من التنفيذية pouvoir exécutif، فتكون إجرائية pouvoir exécutoire أي، حسب لسان العرب: جعل الأمور تجري!  المجلس النيابي في لبنان هو تاليًا المكان الدائم للحوار. أما الحكومة في لبنان فهي اجرائية تجعل الأمور “تجري” ومؤلفة من “فعّالة” تكنوقراط في الاهتمام بحاجات الناس.

والائتلاف الحكومي في لبنان هو ائتلاف “طوائف”:

المادة 95-1: “تُمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكل الوزارة”،

 تاليًا لا حكومة اتحاد وطني أو وفاق وطني، بل حكومة إجرائية فيها ممثلون عن الطوائف، وليس ممثلون عن كل القوى السياسية.

ومن منظور مُقارن في الأنظمة البرلمانية التعددية وتقيّدًا بالمبادئ الدستورية، وبخاصة مبدأ فصل السلطات وفعالية الحكم، الحاجة الى التمايز بين النيابة والوزارة أو الفصل، دستوريًا أو عمليًا، بين الاثنين، والا تتحوّل الحكومة الى شركة محاصصة وتبادل منافع.

المادة 65 من الدستور نموذج في المُخيلة الدستورية: المادة 65 من الدستور هي من أكثر المواد التي أخترقت في الممارسة وتلوثت منذ وثيقة إتفاق الطائف، في حين أنها روعة في المخيلة الدستورية على المستوى المقارن. انها في آن تتجنب، في ميزان مُتعدد كلبنان، طغيان الأكثرية abus de majorité، وكذلك طغيان الأقلية abus de minorité من خلال الأكثرية الموصوفة majorité qualifiée في 14 موضوعًا محددًا حصرًا. ويُعتمد تاليًا التصويت في كل القضايا الأخرى.

كان هدف التلاعب بالمادة 65 طيلة سنوات ومنذ 1990 جعل النظام في لبنان غير قابل للحكم ingouvernable الا… باللجوء الى باب عال! وتم إصطناع مُعضلة اقلية وأكثرية في لبنان حيث كل الجماعات هي أقليات. كل أكثرية في لبنان هي في تكوينها تضم أعضاء من مختلف الطوائف.

رئيس الجمهورية: من الصلاحيات الى الدور: لا يمكن بعد اليوم دراسة موقع رئيس الجمهورية في الدستور اللبناني بدون الرجوع الى جذور وثيقة الوفاق الوطني والمداولات في 1975-1990 حول التعديل الدستوري.

بعد الاتفاق الثلاثي بين ثلاث مليشيات في لبنان وتعثر الاتفاق، حصلت وساطة المانية-اوروبية-فاتيكانية، بمبادرة من حاكم بافاريا Franz Josef Strauss، واثنين من العاملين معه Dieter Holzer و Hinrich Schoeller لصياغة وثيقة دستورية بديلة وذلك من 24/9 الى 5/10/1986. كتبت الصحف في لبنان عن “لجنة المانية-لبنانية”. استمرت مناقشة هذه الوثيقة في إطار مبادرة دبلوماسية من ايلول 1986 الى آخر 1987. من خلال مشاركتي في هذا العمل تعمقت في اشكالية التوفيق بين الفصل بين السلطات والمشاركة في الحكم Partage du pouvoir et séparation des pouvoirs . انها اشكالية مستحيلة في تربيع الدائرة أوجد لها المجتمعون في الطائف، بفضل مُخيلة دستورية بالغة الحكمة، معالجة من خلال المادة 49 من الدستور حيث رئيس الجمهورية يتمتع بدور “السهر على احترام الدستور” مع دور وصلاحيات في سبيل هذا السهر، مما يوجب عمليًا الخروج عن سجال لبناني من منطلق الصلاحيات الى منطق الدور.

هل هذا “انتقاص” من صلاحيات رئيس الجمهورية؟ أو تحويل رئيس الجمهورية الى رئيس فخري أو “رجل بعبدا”؟ ان القيادة المعنوية للدولة في إطار مبدأ القانونية (“ماذا يقول الكتاب؟”، حسب تعبير للرئيس فؤاد شهاب) هي ورشة كبرى تتخطى الصلاحيات وتتخطى الطائفة المارونية وهي بذاتها عنصر جمع وتوحيد لأنها دفاع عن القاعدة الحقوقية كوسيلة في تحقيق المساواة بين الجميع وحمايتهم بمعزل عن انتماءاتهم المتعددة وتبعيتهم السياسية.

في واقع الذهنيات في لبنان لا تريد أية جهة سياسية طائفية أي تغيير بالعمق وللصالح العام في مواقعها. خلال السلطة الالمانية الفاتيكانية الاوروبية، لم أكن شخصيًا بعيدًا عنها، على أثر الاتفاق الثلاثي بين 24/9

و 5/10/1986 وحين ورد لأحد الرؤساء مجرد إحتمالية فتح المواقع العليا الثلاثة جزئيًا الى المسيحيين  والمسلمين في سبيل التوفيق بين المشاركة في الحكم وفصل السلطات partage du pouvoir et separation des pouvoirs قال لمحدثه: “اذا قبلت بذلك لعزلوني تمامًا!”

ان تعديل المادة 49 من الدستور بموجب وثيقة الوفاق الوطني، بشكل لا يكون فيه رئيس الجمهورية رئيسًا فخريًا أو “رجل بعبدا”، بل “يسهر على احترام الدستور”، أي يكون فيه رئيس الجمهورية، معنويًا، مجلسًا دستوريًا قبل المجلس الدستوري، هو الذي حقق بالفعل مساواة في اطار مفهوم الدولة. يقول بشاره منسى الذي شارك في اجتماعات الطائف – واشاطره تمامًا القول – ان الرئيس حسين الحسيني هو الذي “انقذ الموقف”. ويقول الوزير السابق ادمون رزق الذي شارك في إجتماعات الطائف عندما استمع الى عرضنا التفصيلي هذا حول دور رئيس الجمهورية في “السهر على احترام الدستور”: هذا ما ابتغيناه في وثيقة الطائف ولو شرحناه بهذا القدر من الوضوح لربما كان رفض البعض الاقتراح!”

المجتمع المدني والحراك المدني: ثلاثة عناصر تجعل المجتمع المدني مدنيًا: انطلاقه من حاجات المواطنين، دفاعه عن المصلحة العامة وليس في سياق علاقات نفوذ، انطلاقة من القانون و المؤسسات. يفتقر المجتمع المدني اللبناني اليوم الى الفاعلية من خلال ثلاثة عوامل:

تراجع مفهوم القانون والمؤسسات بفعل ممارسات شاذة وخطاب تغييري شعبوي وانقلابي من قبل بعض الجهات السياسية.

ضعف الحركات المهنية والنقابية منذ الثمانينيات والتي هي جزء من المجتمع المدني وهي أكثر التصاقًا بالحياة اليومية للناس.

توسُّع استتباع شبكات من اللبنانيين المستفيدين من منافع ومواقع. ما يُسمى تاليًا بإطلاقية الطبقة السياسية فيه ظلم لعناصر من هذه الطبقة جاهدت في سبيل السيادة والدستور.

لا تقتصر اليوم الطبقة السياسية في لبنان على السياسيين، بل تشمل جماعات واسعة من التابعين المستفيدين.

حين ينتقد عاملون في المجتمع المدني اللبناني كل الطبقة السياسية فهم يعزلون انفسهم عن الحياة السياسية، حيث ان المجتمع المدني ليس ضد السياسة، بل يسعى الى تدجين السياسة ويسعى الى التعامل باستقلالية مع احزاب وقيادات وسياسيين شرط عدم ممارسة هؤلاء الاستتباع بل التقيد بشروط توجهات المجتمع المدني المُستقل عن الجهاز الحكومي وبدون انفصال عن السياسة المدنية والفاعلين فيها.

المجلس الدستوري: تفترض مقدمة الدستور في التزامها بالشرعات الدولية لحقوق الانسان توسيع صلاحيات المجلس الدستوري، بخاصة في ما يتعلق بحق الدفع أمام المحاكم تصحيحًا لقوانين صادرة قبل 1990 وقد تكون مخالفة للدستور.

المجلس الاجتماعي الاقتصادي: انه من المؤسسات الجوهرية في سبيل إستعادة النقاش العام خارج الشارع حول السياسات العامة في لبنان ولتفعيل دور النقابات والهيئات المهنية والمجتمع في الحوار الاقتصادي الاجتماعي. لهذا المجلس دور أكثر أولوية من اللامركزية الادارية لأنه مؤسسة لثقافة حوار عام débat public وطنيًا ومناطقيًا، والا يُخشى تحول اللامركزية الادارية الموعودة الى مركزيات إدارية أكثر تسلطًا من مركزية المركز.

المعهد الوطني للادارة: الحاجة الى استعادة استقلالية هذا المعهد عن مجلس الخدمة المدنية كما هو ورد في قانون انشائه انه المدخل لتأهيل قياديين إداريين للسنوات القادمة، على ان يكون تحت وصاية رئاسة الحكومة في المفهوم الحقوقي للوصاية الادارية في المراقبة القانونية فقط وليس الملائمة.

خطة النهوض التربوي وخدمة العلم: أفضل الدساتير وافضل المؤسسات لا تعطي ثمارها بدون تخصيب تربوي من خلال إعادة إحياء خطة النهوض التربوي في السنوات 1996-2002 وإستعادة العمل بخدمة العلم في صيغة لا تسيء الى مستقبل الشباب الدراسي والمهني.

 

الكاتب: 
بقلم د. أنطوان مسرة ( فصل من الكتاب)
التاريخ: 
الثلاثاء, يونيو 30, 2020
ملخص: 
يتطلب التغيير في لبنان، بالاضافة الى الرؤية والمنهجية، اعادة بناء المؤسسات بشكل عملي ومحسوس، وابرزها المؤسسات الدستورية والامنية والسياسية والادارية والاجتماعية التي كان بعضها “يُنفِّذ أوامر”، حسب تعبير رئيس الحكومة فؤاد السنيورة خلال الجلسة البرلمانية في