الحروب الأهلية في لبنان بين العاملين: الداخلي والخارجي(2)

النوع: 

 

على الرغم من مرور 45 عاماً على انفجار الحرب الأهلية المسلحة، ما زال النقاش يدور حول سبب التفجير المسلح للحرب. هل الوضع الداخلي هو من فجر الحرب أم العامل الخارجي؟

لم تكن نشأة الكيان اللبناني عام 1920 نتيجة حركة شعب يسعى لبناء وطن لكل أبنائه. بل كان إنشاء دولة لبنان الكبير ضمن سياق تقاسم بريطانيا وفرنسا لتركة الرجل المريض العثماني بعد الحرب العالمية الأولى .

أساس هذا الكيان الوليد كان إمارة جبل لبنان التي تحولت بفعل ترتيبات شكيب أفندي عام 1843 إلى نظام القائمقاميتين: المارونية والدرزية في أول بناء للنظام الطائفي .تبعه نظام المتصرفية المدعوم أوروبياً.

بعد الحرب، أُعيد تشكيل المنطقة وأُضيف إلى جبل لبنان الذي تسكنه أكثرية ساحقة من المسيحيين، الأقضية الأربعة التي تسكنها أغلبية من المسلمين. بدايةً، رفض الطرفان هذا الكيان الوليد، فالمسيحيون يريدون إبقاء جبل لبنان مستقلاً، والمناطق تريد الالتحاق بالمملكة العربية الموعودة. الإنقسام بين الطرفين كان عميقاً، لا هوية مشتركة، ولا نظرة واحدة إلى المحيط والبنى الاجتماعية، فهي في الطرفين مختلفة وهي دون وعي لأهمية وضرورة بناء دولة وطنية واحدة. لكن رغبة الأوروبيين كانت حاسمة بعد أن أعطت تطمينات للطرف المسيحي الموجود في المركز، أن تكون له السلطة الأساسية وأن يكون له شريك ضعيف من السنية السياسية، فيما يمسك الإقطاع السياسي والطائفي بالمناطق الملحقة .

في فترة الإنتداب وضعت حدود لكل طائفة وحجم تمثيلها السياسي مع المحافظة على امتيازات المسيحيين وخصوصاً الموارنة منهم. وبقي الانقسام بين المجموعات المكونة سيد الموقف، ولم تنشأ بداية أية مساحات مشتركة بينها .

بعد الإستقلال، حاولت أحزاب وطنية بناء وحدة شعبية تتحلق حول مطالب الناس، وكانت عوامل التوحيد تنازع عوامل الانقسام التي كانت الأقوى، وأيضاً بسبب تخلف البنى الاجتماعية وبقي العنصر الأساس في تكون الهوية هو عنصر الطائفة والمنطقة والعائلة. والنظام الطائفي يعزّز الانقسام كي يبقى ممسكاً بالسلطة. الأحزاب الوطنية استطاعت توحيد كتلة شعبية حول مطالبها اليومية لكنها لم تستطع انتزاع الناس من الموقع الطائفي العميق. وكانت التجربة الشهابية التي حاولت بناء مؤسسات للدولة والوصول إلى مساواة بين الناس لكنها فشلت لأنها أرادت الإصلاح والتغيير من داخل النظام الطائفي نفسه.

خلال هذه الفترة الممتدة من عام 1920 إلى 1975 وعلى الرغم من الانقسام العامودي إلا أن الأطراف المتنازعة والمختلفة على الهوية والعلاقة مع المحيط لم تلجأ إلى العنف لحل النزاع. أطراف السلطة لها الأجهزة الأمنية تستند إلى قمعها. والمعارضة للسلطة والتي تعرضت إلى قمع مديد لم تختر خيار العنف للرد على العنف الرسمي.

عام 1949 قتلت السلطة العاملة في ريجي الحدث وردة بطرس. عام 1972 قتلت السلطة يوسف العطار وفاطمة الخواجا عندما قمعت تظاهرة لعمال غندور. عام 1973 قتلت السلطة مزارعي التبغ حسن حايك ونعمة درويش في النبطية خلال تظاهرة مطلبية. ومع ذلك لم يطرح اليسار اللبناني خيار العنف مقابل العنف. بل دعا الى النضال الديموقراطي .

خلال هذه الفترة التاريخية كان عنصر التوحيد يتراجع أمام عوامل الانقسام وخصوصاً عند كل استحقاق سياسي .

إذن الانقسام الداخلي السياسي والطائفي لم يكن عنصر التفجير للحرب الأهلية .فما كان عنصر التفجير ؟

العامل الخارجي والعلاقة مع المحيط .

عام 1967 حصلت هزيمة حزيران واحتلت إسرائيل باقي أراضي فلسطين التاريخية بالإضافة إلى شبه جزيرة سيناء المصرية والجولان السوري. هذا الواقع الجديد دفع الفلسطينيين إلى إعلان الكفاح المسلح طريقا لتحرير أراضيهم. جرت محاولات إسرائيلية لإنهاء هذه الظاهرة الجديدة، لكنها لم تنجح في محاولاتها. ما دفع إسرائيل وحلفائها إلى خيار استخدام الانقسامات العامودية في البلدان المضيفة لإنهاء هذه الظاهرة.

في الأردن حصلت حوادث أيلول 1970 التي أنهت الوجود الفلسطيني المسلح في تموز 1971. وفي سوريا، استثمرت إسرائيل وحلفاؤها النزاع بين أطراف السلطة لإجراء تغييرات تؤدي لإنهاء الظاهرة، لكن السلطة الجديدة لم تنهِ الظاهرة، بل ألقت القبض عليها لاستخدامها في المفاوضات مع الغرب ومنع الظاهرة الفلسطينية من القيام بأي خطوة مستقلة.

وفي لبنان بدأت مجموعات فلسطينية بالكفاح المسلح الجنوب اللبناني، حيث قامت بعمليات عسكرية ضد إسرائيل، ولم تستطع السلطة الرسمية  اتخاذ خطوات مانعة، وذلك بسبب اتفاقية القاهرة  الموقعة عام 1969 في عهد الرئيس اللبناني شارل حلو، والتي أجازت الكفاح المسلح الفلسطيني انطلاقاً من الأراضي اللبنانية. فكان الحل بالنسبة للقوى الخارجية استخدام الانقسام الداخلي واستغلال اختلاف الرؤى بين اللبنانيين تجاه الفلسطينيين، في محاولة لتعميق الشرخ بينهم عبر تعبئة  اللبنانيين المعارضين للوجود الفلسطيني والكفاح المسلح، وفق خطاب شعبوي، طائفي بأن الفلسطينيين يسعون إلى التوطين وإقامة دولة لهم على الأراضي اللبنانية، مما يستوجب القتال ضدهم لمنعهم من تحقيق أهدافهم .

لذلك كان لا بد من استخدام الانقسام الداخلي لتشكيل الأرضية المناسبة لتفجير حرب أهلية، تهدف إلى إنهاء ظاهرة الكفاح الفلسطيني المسلح. لكن ذلك لم ينجح إلا عام 1982 عندما اضطرت إسرائيل للقيام بهذه المهمة وبمساعدة داخلية واضحة .

لذا يمكن القول إن الانقسام اللبناني العميق لم يفجر الحرب الأهلية بل شكل الأرضية المناسبة لعامل التدخل الخارجي، الذي سعى إلى تحقيق أهدافه مستفيداً من الانقسام الداخلي .

ويبقى السؤال: لماذا نقول حروباً أهلية وليس حرباً أهلية ؟

للقراءة تتمة.

الكاتب: 
وفيق هواري
المصدر: 
التاريخ: 
الجمعة, أبريل 17, 2020
ملخص: 
على الرغم من مرور 45 عاماً على انفجار الحرب الأهلية المسلحة، ما زال النقاش يدور حول سبب التفجير المسلح للحرب. هل الوضع الداخلي هو من فجر الحرب أم العامل الخارجي؟ لم تكن نشأة الكيان اللبناني عام 1920 نتيجة حركة شعب يسعى لبناء وطن لكل أبنائه. بل كان إنشاء د