مفهوم المواطن في الفكر السياسي للرئيس رفيق الحريري
استقرأ الرئيس رفيق الحريري تاريخ لبنان وأسباب الحرب الأهلية العبثية وحروب الآخرين على أرضه وتداعياتهم السلبية على أفول مفهوم المواطن وعلاقته مع الدولة. و بناء على ذلك سعى الرئيس رفيق الحريري منذ ولوجه العمل في الشأن العام إلى إحياء مفهوم "المواطن اللبناني" القاعدة الأساسية من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات.
وشكل خطاب رفيق الحريري في الجامعة الأمريكية في بيروت ( 13 تموز 1992) مرجعًا أساسيًا شَرَحَ فيه بموضوعية مكونات رؤيتة السياسية للوطن والدولة والمواطن . بالإضافة إلى ذلك تُعبّر وثيقة إتفاق الطائف عن رؤية رفيق الحريري السياسية للدولة اللبنانية، للوطن والمواطن؛ و للتأكيد على ذلك ما قاله الوسيط العربي الأخضر الابراهيمي في مقابلة مع جريدة المستقبل ( 17/6/1999) : "... ان عرّاب القضية اللبنانية، في تلك الفترة، بالنسبة إلى السعوديين كان شخصًا اسمه رفيق الحريري. وقد ساهم مساهمة أساسية في إعداد وثيقة الطائف لا بل أعتقد أنه كتبها بخط يده ".
واستنادًا إلى هذين المرجعين الأساسيين وعدد من التصريحات والخطابات في المؤتمرات الدولية للرئيس رفيق الحريري يمكن استخلاص الركائز الأساسية لمفهوم المواطن اللبناني في فكره السياسي.
لا تقسيم ولا توطين
إن اتفاق الطائف الذي أقره المجلس النيابي اللبناني في مدينة الطائف في 22/10/1989، والذي صدّق عليه في جلسته المنعقدة في مطار القليعات بتاريخ 5/11/ 1989، ساهم بإنهاء الحرب الأهلية العبثية وما نتج عنها من تفكيك أوصال الدولة اللبنانية وتدمير البنى التحتية و ضمور المؤسسات الدستورية والحكومية ووأدِ مفهوم المواطن اللبناني .
وأصبحت وثيقة الطائف مقدمة للدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الصادر في 21/9/1990 " تحت اسم"المبادىء العامة والإصلاحات" التي أكّدت على أن لبنان هو "وطن سيد حرّ مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد ارضاً وشعباً ومؤسسات وعربي الهوية والإنتماء" والدولة اللبنانية هي " جمهورية ديمقراطية برلمانية...وأرض لبنان أرض واحدة لكل اللبنانيين . فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع به في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين".بالاضافة إلى أن الدولة اللبنانية تلتزم بتطبيق "المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل... و تحترم الحريات العامة للمواطن وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد".
وثيقة الطائف، مقدمة الدستور وصفة القدسية
كتب العلامة الدستوري الدكتور ادمون رباط حول هذا الموضوع: " إن وضع هذه المبادىء العامة في مقدمة الدستور اللبناني غايتها إضفاء صفة القدسية عليها، لأنها في حقيقتها الموضوعية إنما هي بمثابة الإعلان الدستوري لما يستند إليه لبنان من الأركان الثابتة وما يؤمن به الشعب اللبناني من العقيدة القومية. وهي الخاصية التي تتضح صراحة في كل بند من بنود هذه "المقدمة" –الاعلان، الذي تنطوي كل كلمة منه على حل لإشكال نفسي وسياسي، طالما تسبّب، منذ تأسيس دولة لبنان الكبير، عام 1920، بالمناظرات المتضاربة والعنيفة ، بين القائلين ان ثمة "قومية لبنانية" وبين العدد الضخم من أنصار "الأمة العربية".(ادمون رباط، مقدمة الدستور اللبناني، بيروت، دار النهار للنشر، 2004 ص ص35-36).
العافية الوطنية
قال رفيق الحريري في خطابه في الجامعة الامريكية في بيروت(13/7/ 1992)ما يلي:"بحكم موقعي المتجذر في تراب هذا البلد منذ مئات السنين ، ومن موقع معايشتي لاتفاق الطائف ، حرفاً حرفاً ، ونصاً نصاً، والتصاقي بروح هذا الاتفاق وأهدافه، ...اعلن بصراحة أن لبنان قد نجح في إبرام اتفاق الوحدة الوطنية في الطائف ... وبأن اتفاق الطائف ، هو خطوة كبرى على طريق العافية الوطنية ...وهو الضامن لمستقبل لبنان ولإرادة العيش المشترك بين أبنائه".
وقد أكد الرئيس رفيق الحريري مرارًا و تكرارًا بأن اتفاق الطائف كان نقطة الإنطلاق لعملية إحياء الوحدة الوطنية بين " المواطنين "اللبنانيين التي هي الممر الوحيد والإلزامي من أجل خلاص لبنان من محنته الكيانية وديمومة لبنان الوطن والدولة ومؤسساتها الدستورية. ولكن رفيق الحريري اعتبر في الوقت نفسه أن مفهوم"مواطن لبناني"هومفهوم ملتبس والتأويلات حول معانيه كثيره لأنه يتدثر بلباس كهنوتي اوبجلباب ديني وفق المصالح الدنيوية للفرقاء السياسيين اللبنانيين تارة ويتمترس اللبناني خلف مظلة الدولة في حال كان لديه مصلحة مذهبية أو حزبية أوفئوية تارة أخرى.
المواطن: لا ظالم ولا مظلوم
وحسب الرئيس رفيق الحريري كان الهدف الرئيسي لإتفاق الطائف هو القضاء على هذه الظواهر السياسية والإجتماعية المتجذرة في المجتمع اللبناني وإعادة تكوين مفهوم المواطن . والشرط الأساسي لإعادة الإعتبار إلى المواطنة هوإعطاء المواطن اللبناني حقوقه الأساسية وحمايتها (حرية المعتقد والتعبير والمساواة والعدالة القضائية والإجتماعية والتعلم والطبابة) وهي ركائزبناء الدولة الديمقراطية في لبنان والتي هي وحدها تمنح المواطن اللبناني الشعور بأنه إنسان غير مقهور و مظلوم لأنه يعيش في ظل فَيْء دولة القانون والمؤسسات. وفي هذا الصدد قال رفيق الحريري:"لم يأت اتفاق الطائف ليرفع الظلم والاجحاف عن فئة من اللبنانيين ، ويضع فئة أخرى في موقع المظلوم والمحروم، فلا تأخذ النشوة أحدًا وكأنه منتصر ، ولا يشعر آخر بالإحباط وكأنه مهزوم ، فليس وطنًامن يعيش أبناؤه بين منتصرومهزوم ." ( خطاب رفيق الحريري في الجامعة الامريكية بيروت ، 13 تموز 1992)
توقيف العَّدْ
واستنادًا إلى هذه الرؤية الحريرية لمفهوم كلمة "مواطن" أكّد " اتفاق الطائف " بأن "المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل" هي أساس بناء الدولة اللبنانية ولكنها في الوقت عينه أخذ بعين الإعتبار الخصوصية اللبنانية كما ورد في " المبادىء العامة والاصلاحات " للوثيقة في المادة 2 ( الإصلاحات السياسية ) الفقرة 5" إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين ونسبيا بين المناطق".
وهذه النظرة الوطنية والميثاقية للمواطنة ترجمها الرئيس رفيق الحريري بإيجاز في جملته الشهيرة بأن اتفاق الطائف" وقف العد " أي أن تعداد عدد اللبنانيين وفق المعيار الطائفي والمذهبي قد انتهى وأصبح من الماضي. وهذا يعني أن المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين اللبنانيين المسيحيين والمسلمين هي المدماك الأساسي لإحياء الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية والأمنية والشرط الأساسي لإستمرار وجود لبنان الوطن والكيان.
المواطن ومسؤولية الدولة
حسب الرؤية السياسية للرئيس رفيق الحريري إن علاقة المواطن بالدولة تُلزمه بالإنتماء والولاء إلى الوطن واحترام القوانين المرعية الإجراء في الدولة اللبنانية. ولكن في الوقت نفسه يجب على الدولة تأمين الحقوق الأساسية للمواطن. وهذا ما سعى إلى تحقيقه الرئيس رفيق الحريري من خلال إيجاد توازن في العلاقة السياسية بين الدولة والمواطن الذي يجب أن يتمتع بحقوقه السياسية والمدنية والإجتماعية والإقتصادية في كنف دولة القانون والمؤسسات الدستورية. وهذا المفهوم الحريري ودور الدولة ومسؤولياتها ازاء المواطن لم يغب ابدًا عن المواقف السياسية للرئيس رفيق الحريري عندما قال بأن الدولة الحديثة تعتبر "أن من صميم مسؤولياتها تأمين العمل للمواطنين، على أساس الفرص المتكافئة ، وتأمين التحصيل العلمي ليصبح في متناول الجميع والحفاظ على الصحة العامة، ورفع مستوى المعيشة عن طريق زيادة الدخل الوطني وبصورة عامة التحسب للمستقبل واتخاذ أسباب الحيطة لتجنيب المجتمع وطأة الأزمات الممكنة. وعلى هذا الاساس، فإن الحكومة مصممة، بعد أن أضحت بهمومها وأعبائها تثقل كاهل المواطنين، على اعتماد نظام صحي حديث، دقيق الرقابة، ودعم الرعاية الاولية وتعزيز الوقاية والنهوض بالخدمات الاستشفائية الحكومية والخاصة."(البيان الوزاري الذي القاه في مجلس النواب لنيل الثقة لحكومته الثالثة 7 تشرين الثاني 1996 ).
الديمقراطية: حاجة للمواطن
ولكن الحقوق الأساسية للمواطن اللبناني حسب رفيق الحريري لايمكن تحقيقها إلا في كنف دولة ديمقراطية تكون في خدمة المواطن وتحافظ على حماية حرياته الشخصية لأن تحقيق ذلك يعتبر حجر الزاوية والغاية الأسمى لنظامها السياسي . وفي هذا الصدد أكّد الرئيس الحريري بأن "الديمقراطية هي حاجة وليست خيارا...والالتزام بالديمقراطية بمفهومها الواسع وبما تحمله من وعد بإطلاق وتحرير إمكانات الإنسان وطاقاته... ويجب أن تتم ترجمتها بالأفعال، فلا نقول شيئًا ونفعل شيئًا آخر . كما أن المناداة بالديمقراطية لأغراض دعائية يقصد منها تجميل واقع سيء ليست ما نصبو إليه. إن ما نتطلع اليه هو ديمقراطية حقيقية تلبي طموحات الإنسان."(خطاب الرئيس رفيق الحريري حول مستقبل العالم العربي وإستشرافه في المنتدى الاستراتيجي العربي ، دبي ، 14 كانون الأول 2004.).
و أخيرًاً، إن القاعدة الأساسية لمفهوم المواطن في الفكر السياسي للرئيس رفيق الحريري تحدث عنها في خطابه في الجامعة الأمريكية في بيروت 13/7/ 1992 والتي ترتكز على بناء دولة القانون والمؤسسات التي تأخذ بعين الاعتبار حقوق المواطن وواجباته وأحلامه وهواجسه وآماله وآلامه مما يحفزه على تعزيز ولائه للوطن ويدفعه إلى المشاركة الفعالة في نهوضه وازدهاره لأن لبنان "لايقوم ، و لا يبنى ، و لا يستقيم أمره الا بمشاركة أبنائه ، كل أبنائه ، في مسيرة الوفاق الوطني، وكل من يعمل على خلق الشقاق بين اللبنانيين ، مدان في شرف انتسابه إلى هذا الوطن "