هل الفيدرالية قابلة للحياة في لبنان؟
تعالت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات المطالبة بالفيديرالية، في ظلّ ما يعيشه لبنان اليوم من حالة اللاإستقرار وسط جائحتين، وباء كورونا ووباء الفساد المستشري في المؤسسات الإدارية. ولكن هل الفيديرالية تؤمن الإستقرار أم تزيد من الإنقسامات والتجزئة وتهدد كيان لبنان ؟ وهل من حلول أخرى لتطوير النظام الحالي؟
لنعرف أكثر عن الفيديرالية الجغرافية يجب أن نميّز بينها وبين الفيديرالية الشخصية . كتب "ميشال شيحا" في جريدة Le Jour اللبنانية سنة 1947: "يمثّل مجلس النواب في لبنان، في الواقع، وجهاً أصيلاً للفيديرالية وكما سويسرا لها كونتوناتها اللغوية ، كذلك توجد في لبنان طوائف. ففيديرالية سويسرا كانت بالأساس كونتونات مجزئة إلى أقسام ومنظمة على قاعدة جغرافية، أما فيديرالية الطوائف في لبنان، فهي قائمة على قاعدة "تشريعية" أي على أساس الإنتماء إلى نظام الأحوال الشخصية. إذاً، تشتمل فديرالية الطوائف في لبنان على أساس المبدأ الشخصي على العديد من الإيجابيات منها :
أولاً، انها أقلّ كلفة على المستوى الإداري من الفيديرالية الجغرافية التي ترغم على زيادة عدد الوحدات والتقسيمات المحلية.
ثانياً، تشجع على تنمية الشرائح الإجتماعية التي يمكن أن تعمل على التنمية من الداخل. وهنا لا بد من التذكير بما ورد في مقدمة الدستور اللبناني في الفقرة "ط" بأن "أرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين، فلكل لبناني الحق في الإقامة على أي جزء منها والتمتع بها في ظل سيادة القانون، فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين".
ثالثاً، الفيديرالية الطائفية يمكن أن تكون عامل توحيد لأنها لا تؤدي إلى انقطاع في العلاقات اليومية في نظام حيث الطوائف يمكنها، وفقاً لقاعدة الكلفة والمنافع، من تحقيق فائدة من الوحدة وبكلفة مقبولة ولكنها تتطلب إدراكاً نفسياً واضحاً لحدود النظام واحترام تلك الحدود، انطلاقاً من أن "الحدود الجيدة هي التي تصنع حسن الجوار".
بالمقابل، الفيديرالية الجغرافية ترغم على زيادة مفرطة في التجزئة الى حد قد تصبح غير مجدية. ذلك، إن ربط الهوية اللبنانية بالفيديرالية الجغرافية قد تكون انتحارية ودموية، خاصةً إنّ الطوائف غير متمركزة في مجال جغرافي محدد. وتجدر الإشارة، بأنه في الخمسينات من القرن العشرين، أدخلت إسرائيل إلى المنطقة نمطاً متفجراً حول احتمال نشوء كيانات طائفية مناطقية في لبنان وفي المنطقة العربية، وهو نمط تفجيري في التلازم بين الهوية والجغرافيا ( موشيه شاريت). لذلك، إن الإعتماد على مقاربة فيديرالية جغرافية ليست مسألة بريئة لأنها تنشر ثقافة هندسة الشعوب وتطهير إتني، طائفي، مناطقي، تهجير سكاني أو دمج قسري.
الحلول اليوم في لبنان، تكمن في تطوير النظام نحو "عصرنة الأحوال الشخصية" و بتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعّة.
من ناحية عصرنة الأحوال الشخصية، يقتضي العمل على دمقرطة وعصرنة تلك الأنظمة من خلال جعل النظام أكثر مساواة وإنفتاحاً بشكل يحق فيه لكل شخص الإنتماء إلى نظام مدني إختياري في الأحوال الشخصية.
من ناحية اللامركزية الإدارية الموسعة، وبهدف تلبية الحاجات المحلية الأكثر إلحاحاً للمواطنين تحقيقاً لأمانيهم، يمكن إعطاء البلديات مسؤوليات وصلاحيات أكثر، ليتاح لها القيام بمهمات وأعمال تتكامل مع السلطة المركزية بهدف زيادة فعالية الخدمات والإنتاجية والتنمية في جميع المناطق، بما يضمن تأمين المشاركة الشعبية في القرارات وعمليات التنمية وإدارة الشؤون المحلية والإنماء المتوازن ومحاسبة الفاسدين بفعالية أكبر. فالبلديات هي نموذج اللامركزية الادارية في لبنان، لكنها تعاني من ضعف كبير وتحتاج أكثر الى إستقلال مالي وإداري .
تلك الحلول تؤدي إلى تطوير النظام الحالي وتمنع التسييس الموّلد للأزمات والنزاعات، وتقطع دابر التسييس والتحريض المرتبط بعصبيات أساسية كالتطييف، والذي يستخدمها البعض لمكاسب شخصية .
إن تحقيق العصرنة واللامركزية الإدارية، توفّران الأمان النفسي وتحدان من التباينات الطائفية وتحققان درجة عالية من السلم الأهلي المبني على حقوق الإنسان.
بالمختصر، إنّ الفيديرالية الجغرافية في لبنان غير قابلة للحياة، لأنها تؤدي إلى التقسيم والتفتيت والتجزئة، ما يتناقض مع العيش المشترك ومع وحدة الدولة الإدارية، ومع شعار لطالما زرع في نفوسنا الأمل والوحدة والسلام الداخلي " لبنان أكبر من أن يبلع وأصغر من أن يُقسّم". وسيظل التلاقي والحوار هو العنوان الأساسي للبنان وطن الرسالة.