سجعان قزي لموقع (أجيال قرن ال21)،”المكّون الشيعي هو جزء من هذا النسيج الوطني لكن على شركائنا الشيعة أن يفهموا أن لا وجود لسلاح دائم وحرب دائمة ومقاومة دائمة بل يوجد فقط دولة دائمة.”

النوع: 

 

يجري موقع أجيال (قرن ال21)، مقابلة خاصة مع سجعان قزي ، وزير العمل اللبناني السابق حيث صرّح لنا  متمنياً ليت القوات اللبنانية لم تسلّم سلاحها بعد اتفاق الطائف لدولة لبنانية كانت تحت سلطة النظام السوري ووصايته. وبالتالي لا أحد يسلِّم سلاحَه إلى عدوّه. إذ أنه كان ضد تسليم سلاح القوات اللبنانية في تلك المرحلة أما اليوم، فالدولةُ هي دولة صديقة لحزب الله، بل إن حزب الله يهيمن عليها. وإذا سلّم سلاحه فيكون في إطار بناء دولة مستقلة ومستقرة وضامنة جميع اللبنانيّين وفي طليعتهم إخواننا الشيعة. مضيفاً بأن الدولة اليوم ليس لديها مشاريع عدائية لأي طرف لبناني. لو كانت الأزمة في لبنان اجتماعيّة أو اقتصادية المصدر، لما كانت تحتاج إلى عناء وتدخل عربي أو دولي، لكنها نتاج الأزمة السياسية التي لا تُحل إلا بتدخل دولي. مؤكداً بأن الضائقة المعيشية التي يجتازها اللبنانيّون مركبة ومصطنعة بل إنها مؤامرة. ويقول أيضاً أن ما  يجري على صعيد الكهرباء والاتصالات والماء والطحين والوقود والخبز ولعبة الدولار والأرقام تحلّ في ظرف 24 ساعة إذا توفّر الحل السياسي. لكن، هذا الحل السياسي ليس بمتناول اللبنانيين لأنه مرتبط بالصراعات الدائرة في المنطقة أو بالأحرى بارتباط فئات لبنانية بهذه الصراعات. في السابق كان لبنان مرتبطا بالصراع العربي – الإسرائيلي، لكن حزب الله ربطه اليوم بكل صراعات وحروب المنطقة والعالم. وأصبح كل فريق ينحاز إلى صراع معين على حساب سلامة لبنان. وهذا ما يدفعني الى طرح تساؤلات كبيرة حول مدى قدرة تركيبة الدولة اللبنانية القائمة منذ مئة سنة على التعايش مع هذه الوقائع القاتلة.

*أهلا بك أستاذ سجعان قزي في موقع أجيال قرن ال21: من أين نبدأ العمل اليوم بأولوية خلافاتنا، الداخلية أم الخارجية؟

-في لبنان من الصعب الفصل بين الخلافات الخارجية والداخلية، بخاصة تلك التي لها طابع مصيريٌّ وعسكريّ ودستوريّ، وذلك بسبب ولاءات مكوّنات لبنانيّة للخارج. إن تبعيّة عدد من القيادات السياسية اللبنانية لدول خارجية تفرض بالتالي التعاطي مع الخارج لتمرير الحلول والتسويات. وأجد أن الأزمات في لبنان والحروب، أقله من القرن السابع عشر، لم تنته إلاّ بعد تدخّل خارجي عسكري أو دبلوماسي. لذلك من شبه المستحيل أن يتوصّل اللبنانيون إلى حلّ خلافاتهم من دون الاستعانة بالخارج. وهذا أمر مؤسف يمسّ بكرامة شعبنا. في هذا السياق، لا بد من تحديد الأطراف الخارجية التي تتدخل لمساعدتنا، والأخرى التي تثير الأزمات والمشاكل بتدخلها. هناك جهات عربية وغربية تشكّل عاملاً إيجابيًّا، وهناك دول مثل سوريا وإيران تساعد قوى أمر واقع على حساب الشرعية اللبنانية والمؤسّسات.

*هل تجد اليوم تدخل السفيرة الأمريكية من موقع الحل أم إثارة الأزمات الداخلية؟

 -موقف السفيرة مفيد لعودة لبنان إلى منظومة المجتمع الدولي. لا أرى تدخلًا أمريكيّا ضد سيادة لبنان واستقلاله، لا بل إن مواقف واشنطن هي من أجل لأن يكون في لبنان دولة تحترم نفسها وتعمل بمنطوق الشرعية والدستور. صحيح أن تصاريح الإدارة الأميركية والسفيرة دوروتي شيا هنا تزعج البعض. لكن من هو هذا البعض. هو مجموعة قوى محلية وإقليمية فتحت دولًا وكانتونات داخل لبنان وأضعفت الدولة والشراكة الوطنية وأطاحت الدستور.  شخصيًّا لا تزعجني السفيرة الأميركية أو أي سفير آخر حين يدعو إلى حل معضلة سلاح حزب الله، وتنفيذ القرارات الدولية، ووقف التدخل الإيراني العسكري، وإلى تسليح الجيش اللبناني ودعم الشرعية اللبنانية، إلخ… هذه المطالب هي لبنانية قبل أن تكون أميركية.

*هل لدى السفيرة الأميركية مشروع لضمان أمن لبنان مقابل مشروع المقاومة؟

- أولاً ليس المطلوب من السفيرة أن تحلّ مشاكل لبنان، وهي لا تدّعي ذلك. لكن بلادها تستطيع أن تساعد لبنان في حلّ أزمته المصيرية عبر تحضير مؤتمر دولي من أجل لبنان إن في إطار مجموعة دول صديقة، أو في إطار الأمم المتحدة. نريد مؤتمرًا يكرس حياد لبنان الكبير كما كرّس كيانه. وحبّذا لو أن الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب فرنسا يعملان معًا على عقد هذا المؤتمر الدولي الذي لمّح إليه غبطة البطريرك مار بشارة الراعي حين دعا الى عقد مؤتمر حوار وطني بالتنسيق مع الدول الصديقة. كان بودّنا أن نستغني عن جميع الدول ونجد وحدنا الحلّ، ولكن، الانقسامَ اللبنانيَّ يحول دون هذه الأمنية. أما بالنسبة للمقاومة فهذه لم تعد مقاومة منذ سنة 2000 لا بل إن حزب الله يضع لبنان في فم التنين.

*هل تجد أن مصير لبنان بات جزءاً من التسوية التي ستجري في المنطقة وأن كل ما يجري من صرخات ونوبات احتجاج هو فقط تعبير عن سد فراغ للوقت الضائع؟

- لو كانت الأزمة في لبنان اجتماعيّة أو اقتصادية المصدر، لما كانت تحتاج إلى عناء وتدخل عربي أو دولي، لكنها نتاج الأزمة السياسية التي لا تُحل إلا بتدخل دولي. الضائقة المعيشية التي يجتازها اللبنانيّون مركبة ومصطنعة. إنها مؤامرة. فما يجري على صعيد الكهرباء والاتصالات والماء والطحين والوقود والخبز ولعبة الدولار والأرقام تحلّ في ظرف 24 ساعة إذا توفّر الحل السياسي. لكن، هذا الحل السياسي ليس بمتناول اللبنانيين لأنه مرتبط بالصراعات الدائرة في المنطقة أو بالأحرى بارتباط فئات لبنانية بهذه الصراعات. في السابق كان لبنان مرتبطا بالصراع العربي – الإسرائيلي، لكن حزب الله ربطه اليوم بكل صراعات وحروب المنطقة والعالم. وأصبح كل فريق ينحاز إلى صراع معين على حساب سلامة لبنان. وهذا ما يدفعني الى طرح تساؤلات كبيرة حول مدى قدرة تركيبة الدولة اللبنانية القائمة منذ مئة سنة على التعايش مع هذه الوقائع القاتلة.

*اليوم هناك طرح متداول في الآونة الأخيرة حول إلغاء اتفاق الطائف هل أنت مع هذا التوجه؟

- لا أحد يطالب بإلغاء اتفاق الطائف بل بتعديله وتصويبه وسدّ ثغراته. “الطائف” لم يعد وثيقة وطنية، صار دستورًا نعيش في ظله. هذا الدستور يحتاج إلى تحسين لتنتظم آلية عمل الحكم والعلاقات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. شخصيًّا لا أقارب هذا الموضوع من زاوية طائفية بل من ناحية توازن النظام الديمقراطي. لقد كشفت الممارسة أن هناك تضاربًا بين السلطات، وفقدانَ وحدة السلطة والقرار. لقد أدّى دستور الطائف إلى تحويل المؤسسات الدستورية من مؤسسات تكاملية الى مؤسسات تتناقض. حاليًّا نعيش في ظل دستور يعطّل نفسَه بنفسه، وأعطى حقَّ الفيتو للطوائف من خلال المؤسّسات الدستورية. وهذه هي الفدرالية بعينها. لكنها فدرالية هجينة.

*ما هي البنود الواجب تعديلها من وجهة نظركم في اتفاق الطائف اليوم؟

- هناك بعض الصلاحيات الـمُناطة برئيس الجمهورية من ناحية دوره في مجلس الوزراء (الحضور، التصويت وتحضير جدول الأعمال)، ودوره في تأليف الحكومات. أما بالنسبة لمجلس الوزراء، فيجب تحديد مهلة للرئيس المكلف لتأليف الحكومة، والحرص على عدم اختزال سلطة مجلس الوزراء بشخصه. يبقى أن الطائف خلق تداخلًا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لم يكن موجودًا سابقًا، بحجة إيجاد توازن طائفي الأمر الذي أدى إلى اختلال دستوري.

*بالعودة الى ما تفضلتم في سياق حديثكم حول تدخل السفيرة الأمريكية في الشؤون اللبنانية كمسألة لا بد منها. سؤالي لماذا تقبلون بتدخل أمريكي في شؤونكم ولا تقبلون بتدخل أطراف أخرى؟

-نحن لا نقبل بتدخل أي دولة بشؤون لبنان لا غربية ولا شرقية، لا مدنية ولا دينية، لا ملكية ولا جمهورية. نحن يجب أن نكون دولة ذات سيادة ومستقلة. لكن أين نحن من هذه السيادة والاستقلال؟ وأين نحن من هذه الدولة المحترمة والشعب الذي يحترم نفسه؟ فإذا لم يتدخل السفراء نُحمِّسُهم للتدخل. وعِوض أن ينتظر الشعب ماذا سيقول المسؤولون اللبنانيون ينتظر ما سيقول السفراء المعتمَدون. هذه عادة سيئة للغاية لدى اللبنانيين.

*وحول مسالة السيادة هل تجد لبنان قادراً على المواجهة وحل مشاكله دون الحاجة الى أوصياء وأولياء وأطراف غير شرعية في لبنان؟

- هناك فرق بين أن يكون لبنان دولة قائمة بذاتها ومستقلة، وبين أن يتحمّل لبنان الأزمات فالانهيار بسبب عناصر خارجة عن إرادته. يملك لبنان جميع مقومّات الدولة المستقلة من النواحي الأمنية والعسكرية والمادية والاقتصادية والجغرافية. هذا لا يعني الانعزال وعدم التواصل مع الحركة الاقتصادية والتجارية. لكن المشكلة أنه يتعرض لأزمات يعجز عن إدارتها بحكم ارتباطها بنزاعات خارجية. حالياً أشك في قدرة لبنان الذاتية. نحن نعيش حربًا مفتوحة على كل قطاعات وجودنا، حتّى أن الدولة اللبنانية تتعرّض لعملية سلب مقدّراتها الاستقلالية. وطالما استمر الفساد والهدر والمعابر غير الشرعية والتهريب المنظَّم في المرافق البرية والجوية والبحرية، والتصدير والاستيراد غير الشرعيين لا مجال للدولة أن تقوم. أي دولة، أكانت غنيّةً أم فقيرة تتعرّض لما يتعرض له لبنان تنهار وتخسر مقومات وجودها المستقل.

*برأيك كيف يجب التعامل مع سلاح حزب الله على الأقل من وجهة نظركم؟

- لا أريد التسويق للفوضى والاضطرابات الأمنية، فمطالبة حزب الله بتسليم سلاحه اليوم من دون تفاهم معه مسألة بالغة الحساسية وستؤدي إلى اضطرابات أمنية. وكل ما نتمناه هو التوّصل إلى تفاهمات تسمح بوضع سلاح حزب الله سلميًّا في كنف الدولة اللبنانية. لبنان ليس بحاجة إلى سلاح حزب الله من أجل أن يعيش بسلام. ونحن لا نريد الحروب لا مع إسرائيل ولا مع غيرها إلا إذا تعرضنا لاعتداء. إن لبنان ليس بحاجة إلى مقاومة عسكرية، بل إلى خلق مناخ سلمي على الحدود الجنوبية من دون التنازل عن السيادة والاستقلال لا بحرا ولا برا ولا جوا. سلاح المؤسّسات العسكرية الشرعية يكفي. أجد أن مقاربة سلاح حزب الله تنطلق من ثلاث زوايا:

الأولى: أنَّ حزب الله أدّى قسطه للعُلى كمقاومة، أما اليوم فالعالم العربي يتصالح مع إسرائيل لاسيّما القيادات الفلسطينية. وبدأ التطبيع التدريجي البطيء مع إسرائيل حتى من قبل دول عربية لم توقع اتفاقات سلام رسمية، وعَقدت صفقات كثيرة معها دفاعية واستراتيجية وأمنية واقتصادية. وأظن أنه عندما يحترم لبنان حرفية قرار 1701، لا يبقى هناك من ضرورة لأن تقوم إسرائيل باعتداء على لبنان. وفي هذا السياق يتم التفاوض حول مزارع شبعا التي هي إشكالية بين لبنان وسوريا قبل أن تكون بين لبنان وإسرائيل. بصراحة غالبية الشعب اللبناني لا تريد التورّط في حرب مع إسرائيل إلا إذا إسرائيل اعتدت علينا دون سبب. طبعًا حزب الله يرفض هذا المنطق. وهذه هي المشكلة.

المقاربة الثانية هي أن نقول لحزب الله حافظ على سلاحك الخفيف وسلّم سلاحك الثقيل الى الدولة. وبالنسبة إلى سلاحك الخفيف يتم العمل على إنشاء لواء حرس حدودي بإشراف الجيش اللبناني وإمرته وذلك في إطار لامركزية شاملة. هذا الحل مرفوض أيضًا.

أما المقاربة الثالثة فهي أن يبقى الوضع على حاله ريثما يجري حل الموضوع إقليميا ودوليًّا. وأخشى في هذه الحال أن نقع في حرب مدمِّرة.

هناك تفكير أيضًا بأن يجلس اللبنانيون حضاريًّا ويناقشوا الموضوع فإما أن يتجاوب حزب الله مع الدولة اللبنانية، وإما أن نذهب باتجاه الفدرالية أو الكونفدرالية. وفي كل الأحوال لا مجال لبقاء السلاح الثقيل مع الحزب.

شخصيًا لا أحبّذُ خِيارَ الاتّكالِ على حربِ إقليميّة، لكن تمسّكَ حزب الله بسلاحه ضد جميع  الطروحات يدفع الأمور إلى الخيارات القصوى. المكّون الشيعي هو جزء من هذا النسيج الوطني لكن على شركائنا الشيعة أن يفهموا أن لا وجود لسلاح دائم وحرب دائمة ومقاومة دائمة بل يوجد فقط دولة دائمة.

*عطفاً على ما تفضلت به حول خيار الفدرالية، هل أنت مع الذهاب نحو هذا الخيار في لبنان؟

- لا يجوز أن نخلط بين التقسيم والفدرالية والكونفدرالية. التقسيم هو إنشاء دولتين منفصلتين أو أكثر مثلما حدث في بلاد البلقان في تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا. أما الفدرالية والكونفدرالية فهما أنظمة اتحادية وحدوية كما هي حال الولايات المحتدة والبرازيل ألمانيا وسويسرا والنمسا وبلجيكا إلخ… جميع هذه الدول هي دول موحَّدة ولديها دستور واحد وسياستان خارجية ودفاعية وداخلية واحدة وجيش واحد بعكس ما هو واقع لبنان حاليًّا. وإذا كانت هناك إمكانية لتنفيذ الفدرالية في لبنان فليس هو الخيار المثالي، لكن عدم الخضوع للدولة يدفع في هذا الاتجاه.

*لكن هناك مشكلة في موضوع الفدرالية وهو هاجس الولاء الخارجي لدى المكّونات التي ستتشكل لاحقاً، ما تعليقكم؟

- لذلك، يجب اعتماد الحياد بموازاة خيار الفدرالية. مجرد تحييد لبنان يُسقط 70% من مشاكله. من دون الحياد لا ينجح أي نظام دستوري في لبنان لأننا سنظل مختلفين حول السياستين الدفاعية والخارجية. التجربة أثبتت ذلك. الحياد يُسقط الخلاف حول السياسيتين الدفاعية والخارجية ولا يعود أي مبرر لأي طرف في الانحياز. لا يعود يحقّ لأي طرف التورط في أي صراع. نستقر ونعيش أحرارًا. يبقى فقط الاختلاف حول أنماط الحياة والخصوصيّات الثقافية والحضارية وهذه تُحلّ من خلال اعتماد اللامركزية الموسعة. اللامركزية الموسعة تحترم خصوصيات الطوائف على الصعيد الثقافي والحضاري والتربوي والأمني والمالي. المقصود بالمالية هنا انه لا تعود منطقة تعيش على حساب منطقة أخرى. لكن جزءًا من الضرائب المناطقية يذهب إلى الخزينة المركزية لتغطية إنفاق الدولة المركزية ولتحويل جزء آخر إلى إنماء المناطق الأقل مدخولا ليبقى الإنماء متوازنًا.

*واقعياً، لبنان واقع في مأزق عميق ويتم الحديث عن الانفتاح نحو السوق المشرقي. هل تجد في ذلك مصلحة للبنان؟

- أولاً، علينا معرفة ماذا يعني التوجه نحو الشرق. أي شرق؟ الدول الأسيوية مثل الصين؟ ليس لدينا مشكلة مع الصين. فلتتقدم بعروض لمساعدة لبنان ولكل حادث حديث. الصين اليوم لم تعد كما في السابق دولة شيوعية ماركسية لينينية مثلما كانت على أيام ما وتسي تونغ. الصين عقيدتها يسارية واقتصادها يميني. لم تعد دولة تربط انتشارها الاقتصادي بإقامة قواعد عسكرية. وأصلا إذا فعلت نرفض ونشكرها. لكن، هناك أولويات في تعاطي لبنان مع الغرب لان علاقات لبنان الطبيعية والتاريخية هي مع هذه الدول الحضارية والغنية. أما إذا كان الشرق يعني الدول العربية فنحن نطالب بذلك ونحن على علاقة مستمرة مع محيطنا من دون تمنٍ من أحد. وإذا كان الشرق سوريا وإيران والعراق حصرًا، فلسنا ضد التعاطي الحر، غير أن هذه الدول تحتاج اليوم إلى من يساعدها. نحن منفتحون على الجميع شرقاً وغرباً لكن بشرط عدم التدخل في شؤوننا الداخلية.

*هل يمكن التوفيق في ظل هذه الصراعات الإقليمية بين الشرق والغرب؟

-لقد ظن السيد حسن نصر الله أنه اخترع البارود عندما طرح الانفتاح نحو الشرق. فلبنان بالأساس منفتح شرقًا منذ تكوينه. السفارة الصينية موجودة في لبنان منذ عام 1973، في عهد وزير الخارجية خليل أبو حمد، وعلاقتنا مع الصين وإيران جيدة كذلك مع دول الخليج، فالمطلوب تغيير مواقف حزب الله التي تعيق تعامل لبنان مع الشرق والغرب. نحن الشرق بحكم تاريخ لبنان. بلادنا على صلة وثيقة بالعروبة. لبنان ساهم في نهضة الشرق العمراني والصحافي والقومي. نحن لا نُدعى الى الشرق بل نَدعو إليه. نحن أهل الدار. ولبنان له رسالة التعددية والتعايش ليس بحكم موقعه الجغرافي فقط بل بحكم تكوينه. العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات خفّفت من أهمية الموقع الجغرافي. أهمية لبنان أصبحت بعلوم أبنائه وذكائهم وروحهم السلمية ونجاحاتهم في كل موقع. أهمية لبنان بكرمه ومناخه وفكره المتسامح والمنفتح على الآخر. أهمية لبنان بثقافة التعايش المسيحي-الإسلامي وبأن يكون ملتقى الحضارات التاريخية من مدنية ودينية. لبنان يجسد المصالحة بين الأكثريات والأقليات.

*هل أنتم متفائلون بثورة 17تشرين؟

-عادة الثورة في التاريخ يكون لديها قائد ومشروع وإيديولوجيا. تنتقض من أجل التغيير الثقافي والاجتماعي والانقلاب كل ما هو قائم. الثورة في هذا التحديد هي حالة تأسيسية كما كانت حال الثورة الفرنسية والبولشيفية وفي بعض دول أمريكا اللاتينية. لكن في عصرنا الحديث تغيّر مفهوم الثورة وأصبحت الثورة انتفاضة شعب لتغيير واقع سياسي أو اجتماعي من دون المرور حتمًا بالعنف وفي إسقاط البنية القائمة بكليتها.

 

إن ثورة 17 تشرين ظهرت بداية كثورة ثم تراجعت إلى مستوى حراك ثم إلى تظاهرات متفرقة. فقدت الساحة المركزية. وهذا مسار مخالف للثورات في العالم حيث تبدأ حراكا ثم تظاهرة ثم ثورة. نحن لسنا بدول عسكرية ديكتاتورية. نحن عائلات وطوائف وجماعات تشكل هذا المكون المُجتمعي. انطلق الناس الطيبون في الانتفاضة ثم انضمت إليهم الأحزاب ثم فئات مرتهنة لسفارات ودول وأحزاب. وجرى ضرب الثورة. ظلت الانتفاضة موحدة طالما كانت ترفع شعارات اجتماعية وإصلاحية، لكنها تبعثرت حين تم رفع الشعارات السياسية. لا تستطيع هذه الانتفاضة أن تستمر دون قوة محركة مركزية.

*حزب الله يرفض تسليم سلاحه بفعل هواجس عديدة أهمها تكرار تجربة القوات اللبنانية وهي تسليم السلاح وعدم تحقيق الدولة وإضعافه الأمر الذي سيؤدي الى ترك الساحة خالية لإسرائيل. سؤالي ما هي ضماناتكم له في ظل هذه التحديات الوجودية الصعبة؟

- ليت القوات اللبنانية لم تسلّم سلاحها بعد اتفاق الطائف لدولة لبنانية كانت تحت سلطة النظام السوري ووصايته. وبالتالي لا أحد يسلِّم سلاحَه إلى عدوّه. أنا كنت ضد تسليم سلاح القوات اللبنانية في تلك المرحلة، وأتت الأحداث لتؤكد صحة موقفي. أما اليوم، فالدولةُ هي دولة صديقة لحزب الله، بل إن حزب الله يهيمن عليها. وإذا سلّم سلاحه فيكون في إطار بناء دولة مستقلة ومستقرة وضامنة جميع اللبنانيّين وفي طليعتهم إخواننا الشيعة. الدولة اليوم ليس لديها مشاريع عدائية لأي طرف لبناني. والضمانات تقدمها الدولة لا الأطراف السياسية أو الطائفية. الدولة القوية المحترمة هي من يعطي الضمانات لشعبها أفرادًا وجماعات، مواطنين أو طوائف. وحين يلتف اللبنانيون حول دولتهم تصبح قوية وبالتالي تصبح قادرة على حماية الجميع. ولا أعتقد أن امتناع حزب الله عن تسليم سلاحه يعود إلى حاجته إلى ضمانات. هو الطرف المسلح الوحيد في لبنان ولا توجد فئة لبنانية تريد رأسه. كل اللبنانيين يتمنون العلاقات الودية معه. أما بالنسبة إلى ضمانات تتعلق بإسرائيل، فالدولة اللبنانية الحيادية تضمن الجميع تجاه الجميع. في كل الأحوال هذه الأمور تدرس حين يصبح قرار تسليم السلاح واردًا. ونحن منفتحون على كل الأشكال الدستورية التي تطمئن بيئة حزب الله وكل البيئات اللبنانية الأخرى.

*البعض يعول على فكرة أننا نحن الشعوب المستعمرة بحاجة كل فترة إلى إحياء الاستعمار في مجتمعاتنا لأننا عاجزون عن حل خلافاتنا لوحدنا، برأيكم كيف يمكن فهم الهوية الإنسانية بما فيه العربية والإسلامية التي لها الكثير من الروافد دون فهم الغرب في ثنائية العلاقة بين الأنا والآخر واستيعاب تأثيراهم على الآخر من أجل خلق رسالة تسامح وحوار حقيقي بعيداً عن الإكراهات والتجريم التعسفي وخطاب الكراهية والتقسيم بمفهومه الواسع بعيداً عن الخلافات الضيقة؟

- كل دولة عربية تحدّد هويتها حسب تكوين تاريخها ومكوناتها. أنا أؤمن بالهوية الكيانية أي باللبنانية. انتماء لبنان عربي لكن هويته الذاتية لبنانية مركَّبة من جميع مراحله التاريخية، بما فيها العربية. والتسويات السياسية، مثل اتفاق الطائف، تستطيع أن تعدّل الدستور لكنها ليست مؤهّلة لتغيير هوية وطن. أهل الشرق لم يعرفوا أن يعيشوا في ظل الاحتلالات ولا أن يخرجوا الى الحرية. لم يعرفوا الإفادة من الاستعمار ولم يعرفوا إنشاء دول مستقلة. ضاعوا بين الانتماء الديني المهيمن والهويات القديمة والعقائد الفكرية. فشعروا كأنهم يعيشون حالة حرب حتى لو من دون قتال. والدليل، أن رغم كل ثروات الشعوب العربية وسعة أراضيها وتاريخها الغني، لم تتمكن هذه الشعوب من تكوين حالة استقلالية حقيقية. عملت الأنظمة على السيطرة على شعوبها لا على حكمه وإدارته وحمايته. عوض أن تحمي الأنظمة العربية شعوبها، الشعوب تبحث عمن يحميها من أنظمتها. كذلك الحال من المحيط إلى الخليج. لقد سيطرت فكرة الحكم على الناس وليس حكم الناس. سقطت هذه الدول في تجربة الحرية. واللافت أن اللبنانيين استفادوا من الانتداب الفرنسي فبنوا دولة المؤسسات والقانون، في حين أن الشعوب العربية أمضت تاريخها في حروب عبثية.

*ألا تجد نوعًا من المبالغة في تشريح هذا الواقع من حيث علاقة الاستعمار بالمستعمر والدليل اختلاف العلاقة بين الاستعمار الفرنسي للجزائر والانتداب الفرنسي للبنان كيف تقرأ هذه الخصوصية التي سادت أليس هناك من مغالطات تاريخية في نقد المجتمعات العربية وعلاقاتها مع الآخر؟

- لم تكن الجزائر تحت الانتداب الفرنسي، بل تحت الاحتلال الفرنسي. الفرنسيون اعتبروا الجزائر جزءاً من فرنسا، وهذا خطأ. في حين أن الانتداب الفرنسي في لبنان جاء بتكليف من عصبة الأمم ـــ الأمم المتحدة عصر ذاك ــ استنادا الى المادة (22) من النظام الداخلي، حيث تم تكليف فرنسا برعاية نشوء الدولة اللبنانية.

*اليوم لا نزال نعيش في ظل تيارات فكرية وخطابات تقليدية خشبية حيث فرضت ثورة جيل الألفية الثالثة أو ما يعرف ب جيل الميلينيوم أي، أن الجيل الذي نشأ في ظل الثورة الرقمية والثورات العربية ولم يعرف حكم الاستبداد ولا يهتم بالمرجعيات الدينية ولا بالسلطات الحاكمة، ألا تجد بمكان ما أن العروبة أصبحت هوية من الماضي أم ذريعة للقطيعة الثقافية مع العالم؟ أم أنها لا تزال صالحة للتأسيس للمستقبل؟ وكيف؟

-نعم، أنا أجد أن كلمة العروبة كانت ولا تزال موضع خلاف لفظي قبل أن تكون موضع خلاف عقائدي. إذا كانت العروبة تعني الشعوب التي تتكلم اللغة العربية وتنتمي جزئيا أو كلّيا الى الثقافة العربية، فنحن طليعة العرب. أما إذا كانت العروبةُ مشروعًا قوميًّا وحدويًّا، فلست منها. كان يمكن للعروبة أن تكون فكرة عظيمة مثل الاتحاد الأوروبي والسوق الأوروبية المشتركة. كان يمكن أن تفيد شعوب المنطقة لو لعبت رسالتها الحضارية مثل أوروبا التي جمعت الدول الأوروبية من دون أن تسيء إلى كرامة واستقلال وسيادة وهوية الأوروبيين الوطنية. لكن العروبيّين طرحوا فكرة العروبة وربطوها بالقومية الدينية والوحدة السياسية ما أدّى الى الجفول عنها. نحن نتعاطى مع العروبة كحالة فكرية حضارية لا كمشروع دولة وحدوية. في كل الأحوال نُحِرت العروبة يد أهلها والقائلين بها قبل أن يسقطها أخصامها. العربيون ضربوا العروبة بانقساماتهم وحروبهم ونزاعاتهم وانحرافهم عن مبادئ العروبة وقيمها.

*هناك توجه لدى أطراف من الدول العربية نحو مشاريع التطبيع مع إسرائيل، هل أنت ترحب بفكرة التطبيع مع إسرائيل على اعتبار أن ذلك يمأسس للسلام والاستقرار في المنطقة؟

-ليس لي أنا حق التقرير عن غيري. في ظل الانقسام العربي واعتراف الفلسطينيين بدولة إسرائيل، بات من حق كل دولة أن تقرر مصير علاقتها بإسرائيل. في لبنان أعتقد بأن السلام مع إسرائيل هو قرار الدولة اللبنانية المستقلة والقادرة على اتخاذ القرار الحر. وفي هذا الإطار لبنان قَبِلَ مبدأ الحل السلمي منذ سنة 1975 وتثبّت ذلك في مبادرة السلام العربية عام 2001. نفضل أن ننتقل الى حالة السلام بشرط الإجماع اللبناني. كل قرار استراتيجي يتطلب توافقًا لبنانيًّا أو تصويتًا برلمانيًّا.

*هل هناك مصلحة لبنانية في تحقيق هذا السلام؟

- أولاً، هناك فرق بين الصلح وبين التطبيع مع إسرائيل. حتى اليوم لا يوجد تطبيع حقيقي بين الدول العربية وإسرائيل، حتى مع تلك التي وقعت اتفاقات سلام. لا يوجد صلح شعبي بين مصر وإسرائيل، المصريون لا يذهبون للسياحة والاستثمار في إسرائيل، والإسرائيليون يخشون المجيء إلى الدول العربية.

*بالختام لا شك أن جائحة كورونا كوفيد -19 ساهمت بتغيرات قيمية وثقافية عميقة بين الأنا والآخر، هل أنت متفاءل بأننا نستطيع عبور هذه الأزمات إذا توحدنا وبخاصة أننا نعيش في خضم مآسي حضارية جاءت كورونا لتغيير بعض من ملامحها الإنسانية والحضارية؟

- لا شك أن هذه الجائحة تركت أثرا على نفسية البشرية واقتصادات العالم وعلى نظام العولمة الذي كان في عز انطلاقته. لكن كورونا لم تقض على النظام العالمي، اكتفت بكشف ثغراته. صحيح أننا نعيش في ظل أنماط حياة مختلفة وأزمات مختلفة لكن كورونا خلقت فكرًا إنسانيا جديدًا في العالم وفي لبنان بالطبع. في لبنان التأثيرات النفسية التي خلقتها الأزمة الاقتصادية والاجتماعية امتزجت بتأثيرات كورونا. ردود الفعل المجتمعية تجاه هذه الجائحة متفاوتة أكان بشأن العلاقة مع الآخر أو الدين أو العلاقة مع الشعوب الأخرى. يجب الانتظار فترة أطول لمعرفة ما سيبقى من هذه التأثيرات على الإنسان والمجتمعات.

تسألينني عن العلمنة، أنا لست متفائلاً بصددها في لبنان. نحن أبعد ما نكون عن العلمنة. على المستوى الشخصي لست مع العلمانية المطلقة. أنا مع فصل الدين عن الدولة لا فصله عن الإنسان.

الكاتب: 
اورنيلا سكر
التاريخ: 
السبت, يوليو 11, 2020
ملخص: 
لا أحد يطالب بإلغاء اتفاق الطائف بل بتعديله وتصويبه وسدّ ثغراته. “الطائف” لم يعد وثيقة وطنية، صار دستورًا نعيش في ظله. هذا الدستور يحتاج إلى تحسين لتنتظم آلية عمل الحكم والعلاقات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.