مؤيّدو النسبية يحتاجون الى «صوت بكركي العالي» لاسقاط «الستين»
صعود الاسلام السياسي السني في العالم العربي بفعل الحراك المستمر منذ سنة وبضعة اشهر، والمواجهة المفتوحة مع المد الشيعي الذي بدأ بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979 ومحاولة محاصرته وضربه قبل ان يتحول «الهلال الى بدر»، ودفع مسيحيي الشرق اثمان باهظة على هامش هذا الصراع، مفردات لم يعد بالامكان تجاوزها او اغفالها مهما حاول البعض اعطاء ما يجري من صراع في المنطقة صبغة المطالبة بالحرية والديموقراطية، او وضع هذا الحراك في سياق صراع المحاور على النفوذ والموارد وغيرها من القضايا المعقدة في منطقة تسود فيها لغة المذاهب والطوائف وبات علماء الدين هم الصوت الاكثر تاثيرا في الشارع .واذا كان السنة والشيعة يخوضون هذا الصراع بادوات مختلفة وعلى جبهات متعددة وحربهم تحتمل امكانية الربح والخسارة ،فأن خسائر المسيحيين على امتداد العالم العربي تبدو «صافية» وهي لا تعد ولا تحصى في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولكن المفارقة الوحيدة في خضم هذا «الزلزال» السياسي ان مسيحيي لبنان هم وحدهم امام فرصة تاريخية لتحقيق انتصارات في زمن الهزائم فهل يستفيدون من هذه الفرصة ام سيدفعون ثمن انانية بعض قياداتهم وحساباتهم الضيقة ؟
الفرصة التاريخية مطروحة اليوم على بساط البحث في بكركي، ولا مبالغة في توصيف امكانية اتفاق الافرقاء المسيحيين على قانون انتخابي جديد يعتمد القاعدة النسبية بالتاريخي ،كما تقول اوساط سياسية متابعة للاتصلات المتعلقة بصوغ هذا القانون، فالمسيحيون امام فرصة نادرة قد يخسرونها اذا ما اساؤوا التصرف وتعاملوا مع هذا الملف بقصر نظر، في زمن يمكن من خلاله الاستفادة من الانقسام السياسي والديني بين السنة والشيعة لاستعادة استقلالية الصوت المسيحي الذي يخضع اليوم لأهواء قادة الطوائف الاخرى حيث لا يتمتع الناخب المسيحي بأي ارجحية لانتخاب نوابه في اكثر الدوائر الانتخابية وهو يبقى اسير التحالفات السياسية مع القوى الاخرى التي تفرض شروطها شكلا ومضمونا.
وبرأي تلك الاوساط فأن من حق المسيحيين ان يشعروا بالقلق ازاء حملات التهجير المنظمة التي يتعرضون لها في فلسطين والعراق، وازاء سياسة الاضطهاد في مصر، ومن حقهم الخشية من اتساع حالة العنف ضدهم في سوريا، في وقت يترسخ فكر الاسلام السياسي في حكم الانظمة في المنطقة ،فبالنسبة لهم ليس من باب الصدفة ان مرشحي الرئاسة الاقوى في مصر هما مرشحا الاخوان والسلفيين، وليس صدفة ان الاسلام السياسي هو من فاز في انتخابات تونس، والتيار الاقوى في ليبيا هو التيار السلفي الذي يسيطر على الشارع، فيما سقطت الكثير من المدن في اليمن بيد القاعدة، واكثر التيارات شراسة في المعارضة السورية المسلحة هو التيار الاسلامي،فكل هذه النتائج تدل على الهوية والصيغة التي ستحكم من خلالها المنطقة، واول الغيث كان افتاء بعض رجال الدين بضرورة هدم الكنائس في الجزيرة العربية .كل تلك المخاوف تعطي مبررا للهلع والخوف ولكن هل كل ما يصيب المسيحيين هو نتيجة فعل الغير ام نتيجة ازمة ذاتية تجعلهم يدفعون اثمان كان يمكن ان لا تدفع لو احسنت قياداتهم التصرف؟
لا اجابة واحدة في هذا السياق ،فوضع المسيحيين في دول المنطقة مختلف عنه في لبنان، بحسب هذه الاوساط، والعوامل الخارجية والذاتية المؤثرة تختلف من دولة الى اخرى ،لكن المسيحيين اللبنانيين يدفعون اليوم ثمن رهانات بعض قياداتهم في الماضي والتي انتجت اتفاق الطائف على انقاض حرب اهلية اخطأوا فيها الحسابات وغرقوا في منازعات داخلية اضعفت موقفهم، وباتوا بعد اكثر من عقدين من الزمن يشعرون ان التسوية التي وافقوا على اساسها بالمناصفة في الحكم باتت مجرد حبر على ورق، وعقدة الديموغرافيا تحاصرهم فيما باتت رئاسة الجمهورية بدون صلاحيات.والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الان هل بالامكان التعويض عن هذه الخسائر؟ وهل يمكن استعادة بعض الصلاحيات المفقودة؟ وهل من سبيل لفرض التوازن مع الشريك المسلم في السلطة؟
نعم هي الاجابة على تلك التساؤلات،فوفقا للمؤشرات المتوافرة يستطيع المسيحيون الاستفادة من الانقسام السياسي وغير السياسي القائم في البلاد لتحقيق خطوة جدية باتجاه استعادة دورهم، والاطراف السياسية والطائفية الاخرى المقتنعة بقانون الانتخاب النسبي تحتاج الى «صراخ عالي» من بكركي ومن القيادات المسيحية كي تستطيع الذهاب بعيدا في طرح هذا المشروع واقراره ومواجهة الاعتراضات عليه من الاطراف الاخرى، فالحزبان الرئيسيان لدى الشيعة حركة امل وحزب الله يجمعهما تحالف قل نظيره وهما في مواجهة غير مسبوقة مع الجناح السياسي الاكثر تمثيلا للسنة في البلاد، وهذا امر على المسيحيين استغلاله ايجابيا لتحقيق مصالحهم من جهة ومصلحة النظام الديموقراطي في لبنان .
فللمرة الاولى يجاهر حزب الله وحركة امل بدعم القانون النسبي وليس لديهما اي مشكلة في اعتماد لبنان دائرة واحدة، وهما يعتمدان على التحالف المتين مع التيار الوطني الحر للتعويض في السياسة خسارة بعض المقاعد الشيعية، ولكن دون موقف مسيحي موحد تقوده بكركي قد يجد هذا التحالف الشيعي صعوبة في الذهاب بعيدا في معركة مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ومن يمثل لدى الدروز، وكذلك مع تيار المستقبل ومن يمثل لدى السنة، فخوض معركة قانون الانتخاب بعنوان وطني مختلف عن خوضه تحت عنوان طائفي قد يجر البلاد الى نتائج لا تحمد عقباها،ولذلك المطلوب مد يد العون لهذه الاطراف لتحفيزها على المضي قدما في خياراتها. كما لا يجب ان تغفل القيادات المسيحية موقف رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي الذي تقتضي مصلحته السياسية بدفن قانون الستين وخوض الانتخابات المقبلة وفقا لقانون نسبي يكسر فيه احتكار تيار المستقبل للشارع السني، وهذا امر يعزز من متانة هذا التحالف الذي يضم في صفوفه رئيس الموقع الاول لدى السنة وهذا يعطي اصحاب المشروع النسبي زخما يبعده عن محاولات الاستغلال الطائفي.
هذه المعطيات براي الاوساط نفسها، تضع الكرة في «ملعب» القيادات المسيحية، واذا كانت القيادات الارثوذكسية قد اطلقت الصوت عاليا وطالبت بقانون يعطي كل ناخب الحق بانتخاب نائب طائفته، فهي طرحت السقف الاعلى للحصول على الاقل، ولن يرضيها الا القانون النسبي، في المقابل يبدو ان انقسام الموارنة سيصيب الطموحات المسيحية بمقتل اذا لم تنجح بكركي في ردم الهوة القائمة بين قيادات الطائفة ،فالتيار الوطني الحر هو اليوم اكثر المتحمسين للانتقال الى النظام النسبي او نظام «وان مان وان فوت» وهو مرتاح لتحالفاته على مستوى لبنان وله مصلحة في دفن قانون الستين، البطريرك بشارة الراعي يتبنى تلك الخيارات او اي خيارات اخرى تعيد للمسيحيين حقهم في الاختيار، فيما تمارس «الكتائب» ومعها «القوات اللبنانية» سياسية «التمييع» وعدم تقديم اجابات واضحة حول تصورهما الانتخابي وهما يتعاملان «بقصر نظر» مع الامور ويضعان في حسابهما حليفهما تيار المستقبل دون الالتفات الى المكاسب التي يمكن ان يحققها المسيحيون اذا ما توحدوا حول موقف واحد من يعيد اليهم الكثير من الصلاحيات المفقودة. ولذلك فان المقبل من الايام ستكون حاسمة لمعرفة ما اذا كانت بعض القيادات المسيحية قد تعلمت من دروس الماضي ام انها ستقود المسيحيين نحو خسائر جديدة يصعب تعويضها في زمن قلت فيه الانتصارات وكثرت فيه الهزائم.