قراءة دستورية في عملية تشكيل الحكومة اللبنانية

النوع: 

 

كيفَ تُشَكَّل دستورياً الحكومة في لبنان؟ وهل يقتضي أن يكون تكليف المرشَّح لرئاسة الحكومة ميثاقياً من الناحية الدستورية؟ وهل مِن دور للنواب أو لرؤساء الكتل النيابية في تشكيل الحكومة بحسب الدستور؟ وهل يجوز للنائب تفويض نائباً اخر أو رئيس الجمهورية صلاحية تسمية من يراه مناسباً لتولي رئاسة الحكومة ولا سيما في ظل عدم وجود نص دستوري يحول دون ذلك؟ وهل الاستشارات النيابية التي تحصل بصدد عملية التكليف وتأليف الحكومة تكون مُلزمة دوماً؟ وهل يحق لرئيس الجمهورية المطالبة بحصة وزارية في التشكيلة الحكومية؟ وهل يحق للرئيس المُكلَّف بتشكيل الحكومة ممارسة صلاحيات رئيس مجلس الوزراء قبل تشكيلها ولاسيما في ظل استمرارية وجود رئيس حكومة مستقيل في مقر رئاسة مجلس الوزراء؟ وكيف يتم حلّ المسألة دستورياً في حال عدم التوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس المُكلَّف على تشكيل الحكومة في الوقت الذي يوجب فيه الدستور صدور مرسوم تشكيلها بالاتفاق بينهما؟ وهل من مدة زمنية مُلزِمة لتأليف الحكومة؟ وهل يوجد جزاء دستوري في حال عدم تقدُّم الحكومة المُشكّلة ببيانها الوزاري أمام مجلس النواب خلال مدَّة معينة؟ وهل قد تُبصِر الحكومة النور دون أن يكون بمقدورها القيام بمهامها الدستورية؟ وهل يمكن أن تُعتَبر الحكومة في حال عدم منحها الثقة النيابية بمثابة حكومة تصريف أعمال لاسيما في ظِل وجود أثناء تشكيلها حكومة سابقة مُستقيلة تُصرِّف الأعمال؟

هذه الأسئلة وسواها مِمَّن هي مُرتبطة بها أو ناتجة عنها ستكون مِحوَر دراستنا المتواضعة في هذه المقالة القانونية.

تمهيد: لا بد بدايةً من الإشارة الى أن النظام السياسي المعمول به في لبنان هو بحسب مقدمة دستورهِ نظام ديمقراطي برلماني يقوم على مبدأ الفصل بیّن السلطات وتوازنها وتعاونها. وهذا يعني من الناحية القانونية أن لكل من السلطات الدستورية السياسية صلاحيات تستقِل بممارستها عن غيرها ضمن منظومة تفرض عليها التنسيق والمشاركة في جوِّ تسودهُ روح التعاون.

الجدير ذكره أيضاً أن مقدمة الدستور اللبناني نصَّت كذلك الأمر في فقرتها الأخيرة (ي) على أنَّهُ : "لا شرعیة لأي سلطة تناقض میثاق العیش المشترك". ويُقصَد في هذا الصدد بميثاق العيش المشترك العقد الاجتماعي بين المواطنين اللبنانيين الذين ارتضوا بموجبه بمختلف مِلَلِهم ان يعيشوا في كيانِ واحدِ تسودهُ المساواة والعدالة والتكافل والتضامن، فلا يُصار فيه الى التمييز بينهم الاَّ من حيثُ الكفاءة والجدارة والاختصاص ولا تطغى طائفةِ فيه على أخرى في المشاركة السياسية مهما تكن الذرائع والمبررات وذلك الى حين إلغاء الطائفیة السیاسیة التي نصَّت على وجوب تحقيقها الفقرة (ح) من مقدمة الدستور والتي اعتبرتها هدف وطني أساسي يقتضي انجازهُ وذلك يكون بتشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية سنداً لأحكام المادة 95 من الدستور وبإنشاء مجلساً للشيوخ تتمثل فيه جميع الطوائف الروحية ليتَحرر منذ تلك اللحظة مجلس النواب من قيّد الطائفية الذي جعل منه مُؤلفاً بصورة يتناصف فيها المسلمين والمسيحيين بحيثُ يترك حينها بعدئذٍ للشعب اللبناني بمختلف أطيافه حرية اختيار -وفقَ قانونِ انتخابي عصري عادل يعكس حقيقة الإرادة الشعبية- مجلسهم النيابي خارج القيد الطائفي وبصرف النظر عن حجم تمثيل كل طائفة فيه كنتيجة  حُكميَّة لإلغاء قاعدة التمثیل الطائفي.

كذلك الأمر يقتضي التنويه بأن السلطة الإجرائية التنفيذية أصبحت بعد تعديل الدستور باتفاق الطائف بيد مجلس الوزراء (مجتمعاً) بحسب المادة 65 من الدستور، بعدما كانت هذه السلطة بكُلِّها وكُليِّتِها في السابق بقبضة رئيس الجمهورية الذي كان يقبض وحدهُ على أزمتها ويمارس صلاحيات تشبه كثيراً كتلك المعمول بها في النظام الرئاسي، فكان لا بد اذاَ من تعديل الدستور إمّا بجعله نظاماً رئاسياً ممّا يستتبع حتماً تغيير التسمية في الدستور نحوَ هذا الأمر وإمّا بتصويب بعض الصلاحيات الجوهرية الممنوحة له وانتزاعها منه ووضعها بتصرف الحكومة- كما هو معمول به في الأنظمة البرلمانية- وبذلك يصبح الواقع متناسباً والدستور الذي نصّ على طبيعة نظام الحُكم في لبنان، دون أن يعني ذلك تغييب دور رئيس الجمهورية كرئيساً للدولة ورمزاً للوحدة في الحياة السياسية ؛ وهو الأمر الذي حصل بعد اتفاق الطائف وبغض النظر عن الدوافع السياسية الداخلية والدولية التي أدَّت في نهاية المطاف الى سلسلةٍ من التعديلات التي طرأت على الدستور اللبناني.

ان ما تقدَّمَ من توطِئة كان لا بدَّ منها لكونها ستُبرٍّر ما سنشرحهُ في هذه المقالة عن كيفية تشكيل الحكومة في ظل النظام البرلماني المعمول بهِ في لبنان والمُكرّس في الدستور.

أولاً -بداية مسار عملية تشكيل الحكومة: تسمية الرئيس المُكلَّف

أن انطلاقة عملية تأليف الحكومة تبدأ فورَ تسمية رئيس الجمهورية لرئيس الحكومة المكلَّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً الى "استشارات نيابية ملزمة" يُطلعه رسمياً على نتائجها وذلك بحسب ما جاء في البند رقم 2 من المادة 53 من الدستور؛ أي أن الدستور أوّكَل لرئيس الدولة أن يقوم بمهمة تسمية رئيس الحكومة بعد أن يتشاور رئيس السلطة التشريعية وبعد وقوفه وجوباً على أراء مُلزمة للنواب في تسمية رئيس الحكومة العتيد، شريطة أن يكونوا فعلياً وشخصياً قد تقدموا بها من رئيس الجمهورية وليس بالمراسلة أو بالتفويض.

في صحة التفويض النيابي بعملية التكليف:

ان السؤال الأول والجوهري الذي يطرح ذاته على بساط البحث أثناء قيام رئيس الجمهورية بعملية الاستشارات النيابية لتسمية المرشح لمنصب رئيس الحكومة هو معرفة ما إذا كان يجوز دستورياً تفويض النواب بعضهم الاخر أو تفويضهم رئيس الجمهورية صلاحية تسمية من يشاء لرئاسة الحكومة ولاسيِّما في ظل عدم وجود نص يمنع من ذلك؟

لا بد قبل الاجابة على هذا السؤال من الاشارة بأن تفويض السلطة أو الصلاحية يعني قانوناً منح صاحبها (المُفوِّض) الغير (المفوض إليه) حق التصرف واتخاذ القرارات في نطاق محدد وبالقدر اللازم لإنجاز مهمة مُعيّنة، بما يعني ذلك التنازل عن الصلاحية في بعض المهام والسلطات للمفوَّض اليه.

وفي هذا الصدد، تنصّ المادة 45 من الدستور على ما يلي: "ليس لأعضاء المجلس حقّ الإقتراع ما لم يكونوا حاضرين في الجلسة، ولا يجوز التصويت وكالة". (أي لا يجوز التصويت استناداً الى توكيل أي الى تفويض، طالما أن التوكيل يعني فيما يعنيه تفويض المُوكِّل الى الوكيل مسألة القيام بقضية أو بإتمام عمل أو فعل).

وعلى ذلك، لا يحّق للنائب لنائب الأمّة توكيل وتفويض غيره من زملائه في المجلس النيابي في ممارسة مهامه الدستورية بأيّة مسألة تعّلق الأمر، بما في ذلك مسألة إعطاء مشورته بتسمية رئيس الحكومة الذي سيُكلَّف بتشكيلها لكون التفويض في التصويت على مسألة يتم فيها اختيار شخص ما أو تقرير أمر ما ممنوع بحسب المادة المنوّه عنها. وعليه، إذا كان لا يجوز لنائب يمثِّل الشعب أن يُفوِّض زميلهُ بممارسة مهامهِ بصدد مسألة دستورية معينة، فأنهُ من باب أولى لا يجوز لهُ تفويض مثل هذا الصلاحية لرئيس الجمهورية الذي هو ليس عضواً في المجلس النيابي الذي يُعتَبَر وحدهُ المُمَثِّل الوحيد للشعب الذي انتخبه وذلك في مختلف المهمات العائد الاختصاص لهُ فيها بمقتضى الدستور. وبالتالي ليس لمُمثلِّي الشعب تفويض رئيس الجمهورية أو حتى بعضهم في ممارسة المهام الدستورية المعهود بها إليهم شخصياً والناتجة وكالتهم التمثيلية المُعطاة لهم من الشعب طالما أن الدستور حظّرَ عليهم التوكيل والتفويض في هذا الشأن بنصِّ خاص في كل حالة متعلقة بالتصويت على مسألة معينة.

ولكن السؤال الذي يطرح في هذا الشأن هو: هل الاستشارات النيابية الملزِّمة لاختيار الرئيس المُكلَّف تُعَد بمثابة تصويت النواب على شخص المرشّح للقول بعدم أحقية النواب بتفويض هذه الصلاحية لسواهم؟

نُجيب بكل قناعة بالإيجاب وذلك أقلَّهُ لسببيَّن: أولهما أن التصويت ليس بالضرورة أن يكون خطياً للقول به، بل قد يكون شفهياً أو بأي أمر اخر يُفهم منهُ اتمامهُ وخاصةً في ظل غياب النصّ المانع الذي يحول دون ذلك؛ وثانيهما أن نتيجة الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية لتسمية الرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة هي استشارات مُلزمة بحسب النص الدستوري بحيثُ يكون وجوباً على رئيس الجمهورية تسمية بنتيجتها المرشَّح الذي سمّاه أكثر النواب احتراماً لرأي الغالبية؛ أي يقتضي تسمية المرشّح الذي نال أكبر عدد من "أصواتهم" وهو ما يعني حصول "عملية تصويت" لهم على اختياره لتولي المهمة المنوَّه عنها؛ بمعنى اخر أن الاستشارات النيابية بخصوص مسألة تكليف الشخص المرشَح لرئاسة الحكومة وتأسيساً على صفتها الالزامية تقود حتماً الى ذات النتيجة القانونية الذي يقود اليها التصويت والاقتراع بشأن مسألة من المسائل التي يجريها النواب في إطار مهامهم البرلمانية وهو ما يجعل بالتالي من تفويضهم لسواهم هذه الصلاحية واقعاً حكماً في غير موقعه الدستوري الصحيح طالما أن الدستور منعهم من التصويت بالتفويض بمُقتضى نصِّ عام لم يميِّز فيه المشرِّع الدستوري بين تصويتٍ على موضوع وتصويتٍ على اخر ولم يحدد فيه ماهية التصويت سواء أكان خطياً أم شفهياً في دلالة واضحة منهُ على حظر عملية التصويت بالتوكيل والتفويض بصورة كليّة، مما يعني أن هذا النصّ المتعلّق بالتصويت جاء مطلقاً والمُطلق قانوناً يبقى على اطلاقه دون تمييز بين حالة وأخرى تطبيقاً لمبدأ دستوري عام مآلهُ : "لا تمييز حيثُ لم يُميِّز المشترع".

زد على ذلك، فأنه طالما يجب على رئيس الجمهورية دعوة النواب بالذات لتقديم مشورتهم المُلزِمة بُغية تمكُّنهِ من وقوف حقيقةً على تسمياتهم بشأن الرئيس المُراد تكليفه لتشكيل الحكومة -والتي هي عملياً وفعلياً كما سبق وأسلفنا بمثابة عملية التصويت على اختيار المُرشَّح لتولي هذه المهمَّة من بين المرشحين المطروحين- فهذا يعني وجوب قدومهم الى مقر رئاسة الجمهورية لتصويتهم شخصياً بالذات على شخص المرشَّح وذلك عبر ابدائهم مباشرةً هذه الاستشارة المُلزمة لرئيس الجمهورية، لا تفويضه بها نيابةً عنهم وخاصةً أن ذلك يضرب مفهوم وجوهر الزامية الاستشارة النيابية في هذه الحالة لكون ذلك يجعل رئيس الجمهورية حرُّ الاختيار وتجيير أصوات نواب الأُمّة المُفوَّضة اليه لمَن يشاء من المرشحين في الوقت الذي ليسَ من صلاحيته الدستورية بحسب المادة 53 من الدستور سوى الدعوة الى هذه الاستشارات النيابية واجرائها لينتهي بالنتيجة الى تسمية من سمَّاه بالأكثرية مُمثِّلي الشعب والذين يكونوا بذلك قد منحوه الثقة البرلمانية لتولي المهمّة موضوع الاستشارة.

مع الاشارة بأن عدم تسمية نائب ما لمرشح مُعيّن من بين المرشحين لرئاسة الحكومة رغم التقائه برئيس الجمهورية أثناء عملية الاستشارات النيابية يعني أنهُ قام بمهمتهِ النيابية ولم يقتنع بأي من هؤلاء لتولي هذا المنصب الدستوري فأحجم عن التسمية وقدَّم بذلك لرئيس الجمهورية مشورتهُ بعدم وجوب اختيار أحداً من المرشحين لمبررات خاصة بهِ، فلم يستفد بالنتيجة من صوتهُ أحدهم لكون استشارته النيابية التي أدلى بها -والتي كان من المفترض أن تتضمن تسمية أحد المرشحين- جاءت في الواقع فارغة وخالية من أية تسمية وهو ما يُعادل تماماً الورقة البيضاء في حالة الاقتراع ويُدَلِّل بطريقة أو بأخرى على كون الاستشارات النيابية الإلزامية ما هي في حقيقتها سوى عملية تصويت على شخص المُرشَّح وهو ما يدحض بالتالي فكرة التفويض طالما أن الدستور حظّر على النائب التصويت وكالةً أي بالتفويض.

وما يؤكّد عدم صوابية تفويض النائب لسواه مهمة تسمية الرئيس المكلَّف هو ان احدى المبادئ الدستورية العامة تقضي بأنَّ "لا تفويض بلا نصّ" وهو الأمر غير المتوفر في النص الدستوري المتعلق بمسألة الاستشارات النيابية الملزمة، بل أن النصّ الموجود في الدستور لا يجيز للنائب حق التفويض بشكلِّ عام. وهذا يعني ان هذه الصلاحية بتقديم الاستشارة النيابية لرئيس الجمهورية قد فوّض الدستور نائب الأمّة القيام بها شخصياً بالذات وخاصةً أن الشعب قد سبقَ وفوَّضه بتمثيله بالذات، لا عبرَ غيره بخصوص كل ما يتعلق بالشأن العام بحكم وكالتهم التمثيلية الذين منحوه اياها لشخصهِ بالذات بنتيجة الانتخابات، فلا يجوز له بالتالي تفويض ما هو مُفَوَّض بالقيام بهِ بصورة شخصية، عملاً بقاعدة "عدم تفويض الصلاحيات المُفوَّضة أو عدم جواز تفويض التفويض" وهي القاعدة التي تعني بأنهُ لا يجوز للشخص الذي فوَّضه القانون أو شخصِ ما سلطة أو صلاحية معينة أن يُفوِّضها بدوره الى سواه، ما لم يجز له القانون أو الوكالة المعطاة لهُ عكس ذلك بنص خاص.

وعليه، ان تفويض أحد النواب زميلاً له ليؤدي الاستشارة النيابية لرئيس الجمهورية نيابةً عنهُ بخصوص تسمية المرشح لرئاسة الحكومة أمراً غير جائزاً دستورياً طالما أن الدستور منع على النواب التصويت وكالةً وتفويضاً وطالما أن عملية الاستشارات النيابية المُلزمة تؤدي حتماً الى ذات النتيجة التي تنتُج عن عملية التصويت والاقتراع بأي من المسائل الذي يُصوِّت عليها النواب، باعتبار أن هذه الاستشارات النيابية للتكليف هي استشارات مُلزِّمة بنتيجتها لرئيس الجمهورية لجهة تسمية المرشح الذي سينال أكبر عدد من تسميات النواب بحسب تفسير البند رقم (2) من المادة 53 من الدستور، تماماً كما هو حال نتيجة حصيلة أصواتهم التي أدلوا بها  بخصوص مسألة انتخابهم لرئيس الجمهورية أو لرئيس المجلس النيابي حيثُ سيتم بالنتيجة تسمية واعلان فوز المرشّح الذي نال أكبر عدد من أصواتهم. وفي السياق ذاتهُ، يُعتَبَر كذلك الأمر قيام أحد النواب بتفويض رئيس الجمهورية صلاحية تسمية من يشاء من المرشحين لرئاسة الحكومة أمراً غير جائزاً دستورياً ويكون تفويضاً باطلاً لانعدام هذه الصلاحية الدستورية في هذا الشأن وخاصةً أنهُ في هذه الحالة لا يكون النائب قد قدّم فعلاً استشارته بهذا الخصوص لرئيس الجمهورية كما يفرض النص الدستوري، بل يكون عملياً في الواقع قد فوّض رئيس الجمهورية -الذي يُعتَبَر دستورياً محسوباً على السلطة الاجرائية- بتسمية من يشاء وجعلهُ بهذا التفويض بمرتبة نائباً للأمة وجزءًا من السلطة النيابية المُوكَل اليها وحدها صلاحية القيام بهذا الاجراء الدستوري وهو الأمر الذي يضرب بالنتيجة مبدأ الفصل بين السلطات الدستورية.

ان خُلاصة ما تقدم يقود الى اعتبار تفويض أحد النواب سواه لجهة تسمية رئيس الحكومة مُؤلِّفاً لمخالفةً صارخة للدستور وللأصول القانونية ويُعتَبَر بالنتيجة تفويضاً باطلاً حكماً، وتُبطل بالتبعِّية لهُ التسميات التي حصلت بناءً عليه للخلل الدستوري الذي شابها واعتراها وبصرف النظر عن عددها وأثرها على نتيجة التكليف لكونها تقع باطلة بحكم الدستور لعلَّة عدم جواز تفويض الصلاحية الدستورية لمُمَثِّل الشعب باعتبار أنه يكون بذلك قد تخلّى فعلياً عن وكالته التمثيلية بهذا الخصوص الممنوحة لهُ من الشعب ليقوم هو بالذات بممارسة كل اختصاص يتعلق بمسألة مرتبطة بهذه الوكالة أو ناتج عنها.

في ميثاقية الرئيس المُكلَّف

بعيداً عن مسألة التفويض وطالما أنَّ تسمية الرئيس المكلّف تتم بالاستناد الى الاستشارات النيابية المُلزمة، فأنهُ من الواجب البحث في )مدى دستورية تكليف المرشَّح( الذي نال أغلبية تسميات النواب بنتيجة حصيلة الاستشارات التي أجراها رئيس الجمهورية، رغم كون هذا المرشَّح لم ينل على الأقل بنتيجة هذه الاستشارات نصف عدد نواب طائفته لترأس هذا المركز السياسي الذي يشغلهُ وفقاً للعرف الدستوري المعمول بهِ في لبنان شخصاً من طائفة معينة ومحددة بذاتها وذواتها.  

في الحقيقة، يقتضي ليكون التكليف في هذه الحالة دستورياً أن يكون منسجماً ومتوافقاً مع أحكام الدستور والذي بالعودة الى أحكامه نرى أنه رفع غطاء الشرعية عن أية سلطة تكون غير ميثاقية لكونهِ نصَّ في الفقرة (ي) من مُقدِّمتهِ على أنه : "لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك" وهو ما يفرُض بالنتيجة أن يكون التكليف قد راعى متطلبات العقد الاجتماعي بين الطوائف في الوطن حين تشكيل هذه السلطة السياسية التي ينتجها التكليف ذاتهُ طالما لم تُلغَ بعد الطائفية السياسية من النظام اللبناني والتي أوجب الدستور بلوغها للتخلص من كثير من الإشكاليات الناتجة عنها. وعليه، وطالما أن هذا الهدف الوطني لم يتحقق بعد لغاية تاريخهِ -والذي يُعتَبَر وحدهُ الاجراء المُعدِم للميثاقية- فلا مناصَ اذاَ من تطبيق الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي كرَّست الميثاقية بشكلِّ عام بما يدخل في ذلك ضمناً مسألة تكليف رئيس الحكومة. ولا عِبرَة في هذا الصدد لذريعة عدم وجود نصّ دستوري خاص يرعى الميثاقية في مسألة التكليف طالما أنهُ يوجد نص دستوري عام شرعنَ الميثاقية وكرّسها في البند رقم (ي) من مقدمة الدستور وخاصةً أن هذا النص جاء مُطلقاً لم يشأ فيه المشترع أن يحصرهُ فقط بالسلطات الدستورية التقليدية المتعارف عليها، بل تطبيقه -استناداً لمبدأ المُطَلق يبقى على اطلاقهِ-على أيّة سلطة مهما كان نوعها وماهيتها والتي يتم ممارستها فعلياً على أرض الواقع وأياَّ تكُن طبيعة نشأتها سواء أكان قانون أو دستور، كحال سُلطة رئيس الحكومة التي تدخُل فعلياً وقانونياً ومنطقياً ضمن مفهوم السلطة، ممَّا يقتضي بالتالي تطبيق النصّ المشار اليه والمتعلق بالميثاقية على جميع الحالات دون استثناء وخاصةً في مسألة حسّاسة تَعتَبِر فيها طائفة ما أنها متعلقة بها بشكلٍّ مباشر ولاسيما أن التكليف يقود بالنتيجة الى انتاج سلطة هي (سلطة رئيس الحكومة) وخاصةً في ظل ممارستهُ فعلياً على أرض الواقع هذه السلطة وبدليل أن الدستور الذي اعتبرهُ في فصله الرابع أحد مكوِّنات السلطة الإجرائية قد خصّصَ لهُ في المادة 64 منه صلاحيات دستورية هامة يستقِّل بها عن الصلاحيات المُخصَّصة لمجلس الوزراء في المادة 65 بشكل لم تَعُد فيه رئاسة الحكومة كُرسياَ خاوياً كما كانت في السابق حيثُ كان رئيس الدولة يقبض وحدهُ على السلطة الإجرائية بحسب المادة 17 القديمة من الدستور ولأنهُ هو من كان لهُ صلاحية تعيين الوزراء واختيار رئيساً لهم من بينهم واقالتهم ومن منطلق إرادته الحرّة بحسب المادة 53 من الدستور قبل تعديلها لاحقاً باتفاق الطائف، على نحوٍّ تم فيه الأمر بعد التعديل المذكور بإنشاء مركز في الدستور لرئيس الحكومة وبتخصيص صلاحيات لهُ تكريساً منَ المشترع الدستوري لسلطة دستورية لهُ في الحياة السياسية اللبنانية، في الوقت الذي لم يكن فيه مثل هذا الأمر اطلاقاً قبل التعديل حيث كانت المادة 64 القديمة من الدستور -والتي أصبحت اليوم مُخصصة فقط برئيس مجلس الوزراء وحدهُ- تنص على تولِّي الوزراء إدارة مصالح الدولة وتطبيق الأنظمة والقوانين كل بما يتعلق بالأمور العائدة إلى إدارته وبما خص به. وعلى ذلك، يقتضي لاعتبار التكليف الذي تمَّ استناداً الى الاستشارات النيابية المُلزمة شرعياً من الناحية الدستورية أن يكون في ذات الوقت ميثاقياً ايضاً، لكونه يؤول الى انتاج سلطة تتمثل بسلطة رئاسة الحكومة ولأن بحسب الفقرة (ي) من الدستور "لا شرعية لأي سلطة تناقض الميثاقية". لذلك متى ما كان التكليف غير ميثاقي، فأنه يصطدم لا محالة بعتبة الدستور الذي كرّسَ هذه الميثاقية في ديباجته وبالتحديد في مُقدِّمتهِ في دلالة واضحة من المشترع التأسيسي على وجوب مراعاتها طالما لم يُصار الى الغائها بعد نصّاً وروحّاً.  

الجدير ذكره أن ما قيل عن الميثاقية في شخص رئيس الحكومة يُطبَّق أيضاً على شخص رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي والذي يقتضي أن يتم استيفاء متطلبات الميثاقية في شخص كلِّ منهما حين اختياره وانتخابه والاَّ كان انتخابهما -ولو بتوافر الأغلبية المطلوبة من النواب- يبقى مع ذلك غير ميثاقياً طالما ان الميثاقية هي ركيزة الصيغة الطائفية في النظام السياسي اللبناني والذي لم تُلغَ منهُ لغاية تاريخه لعدم انشاء بعد هيئة إلغاء الطائفية السياسية والشروع بهذه المهمة الوطنية.

في نتيجة الاستشارات النيابية بشأن التكليف:

بعيداً عن مسألة الميثاقية في تكليف رئيس الحكومة بتشكيل هذه الأخيرة، وطالما أن رئيس الجمهورية يُنفِّذ هذه المهمة الدستورية بالاستناد الى مشورة النواب الملزمة لهُ بكونهم ممثلي الشعب والناطقين باسمه، فهذا يعني أن للنائب هنا دور أساسي وفاعل في تسمية الرئيس الذي سيُعهد اليه بمهمّة تأليف الحكومة، باعتبار أن استشارتهُ في اختيار هذا الرئيس ليست من باب الاطلاع على الرأي فقط بل هي استشارة مُلزمة في الحالة الراهنة كما هو منوّه عنها في المادة 53 من الدستور السالف ذكرها، اذ سيتوقف على نتيجة هذه الاستشارات تسمية المرشح لرئاسة الحكومة الذي نالَ أكبر عدد من أصوات النواب الذين شاركوا في عملية تقديم الاستشارة لرئيس الجمهورية اثر دعوة يوجهها الى مجلس النواب في هذا الخصوص.

وبمجرد انتهاء رئيس الجمهورية من عملية الاستشارات النيابية الملزمة، عليه -قبل تسمية الفائز من المرشحين بالأكثرية النيابية لتولي مهمة تشكيل الحكومة التي سيترأسها- أن يتشاور في هذا الخصوص مع رئيس المجلس النيابي سنداً لأحكام البند رقم (2) من المادة 53 من الدستور التي تنص على ما حرفيَّتهُ: "یُسمي رئیس الجمهوریة رئیس الحكومة المكلَّف (بالتشاور) مع رئیس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نیابیة ملزمة یطلعه رسمیاً على نتائجها". ويُقصَد بالتشاور المنوَّه عنه قيام رئيس الجمهورية باطلاع رسمياً على سبيل العلم رئيس مجلس النواب بحصيلة الاستشارات النيابية التي آلت الى تأييد المرشّح الذي نال أكثرية عدد أصوات النواب لتوليه رئاسة الحكومة، كي يقوم رئيس المجلس بإبلاغ مجلسهِ بهذه النتيجة وذلك عملاً بأسس النظام البرلماني ومبادئ الديمقراطية التي قادت الى احترام أكثرية أراء مُمثلي الشعب.

بعد ذلك يُرسل رئيس الجمهورية وراء هذا المرشح الفائز بنتيجة الاستشارات للحضور الى مقر رئاسة الجمهورية بُغية وضعه عن كثب بحصيلة استشارات التكليف التي رست عليه ويُفهمهُ بأنهُ هو الشخص المكلّف بالمهمّة الدستورية موضوع الاستشارات النيابية التي تم اجرائها ويطلب منهُ بالتالي الشروع بتشكيل الحكومة التي سيترأسها وتحديد مواعيد التقائه بممثلي الأمة للوقوف على طلباتهم.

وعلى اثر هذا الأمر يقتضي أن يصدُر رئيس الجمهورية عبر المديرية العامة لرئاسة الجمهورية بيان تكليف المرشّح الذي نالَ أصوات الأكثرية النيابية لترؤس الحكومة العتيدة ويُحدد هذا البيان أيضاً موعد استشارات التأليف التي سيجريها الرئيس المكلَّف مع النواب في مقر مجلس النواب.

ثانياً-منتصف مسار عملية التأليف: استشارات نيابية وتفاهمات رئاسية

بعد تكليفه بالأكثرية النيابية وتسميتهِ من قبل رئيس الجمهورية بالاستناد الى استشاراتهم المُلزِمة، يقتضي في الرئيس المكلّف أن يبدأ بعملية تأليف حكومته. وبحسب ما جاء في المادة 64 من الدستور ان أولى خطوات تأليف الحكومة تبدأ من خلال شروع الرئيس المُكلّف بإجراء استشارات مع النواب يتم خلالها التباحث معهم في شكل الحكومة وتمنياتهم وهواجسهم وطلباتهم.  

في مدى الزامية الاستشارات النيابية بالتأليف ودور البرلمان بهذه العملية:

ان السؤال الواجب التصدي اليه بدايةً في هذا الشأن هو: إذا كانت استشارة النواب مُلزمة لرئيس الجمهورية فيما خصَّ تسمية رئيس الحكومة، فهل أيضاً تكون استشارتهم مُلزمة في المقابل لرئيس الحكومة المكلَّف بتشكيلها عبر اختيار الوزراء الذي سيعمد الى تسليمهم الحقائب الوزارية وتوزيعها عليهم؟

ان الجواب على ذلك يُستنّبط من فحوى أحكام المادة 64 من الدستور التي تنص على أن: "يجري رئيس الحكومة الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويُوقِّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها". وهذه المادة تنعطف أيضاً بدورها على البند رقم 4 من المادة 53 من الدستور التي تنص على ما حرفيَّتهُ: "يُصدِر رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة". ويتضح جليًّا من هاتين المادتين أن مرسوم تشكيل الحكومة يصدر نتيجة توافق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلَّف بتشكيلها ولكن بعد استشارات يجريها هذا الأخير مع النواب.

والسؤال الذي يطرح في هذا الصدد: هل أن حصيلة استشارات النواب التي تلقاها الرئيس المكلَّف منهم هي مُلزمة له ويتوجب عليه احترامها، شأنهُ في ذلك شأن الاستشارات النيابية التي تلقاها رئيس الجمهورية حين تسمية الرئيس المكلَّف بتشكيل الحكومة؟ 

في الحقيقة، يُقصَد باستشارة رئيس الحكومة المكلَّف للنواب المنصوص عنها في المادة 64 من الدستور هي أخذ الرأي دون الزاميته، أي أنَّ الرئيس المكلَّف مُلزِم فقط بوجوب أخذ الاستشارة منهم من الناحية الشكلية وليس بوجوب الالتزام بتطبيقها من الناحية الموضوعية وخاصةً أنَّ الهدف منها هو فقط تمكين رئيس الحكومة من الوقوف على توجّهات النواب ونصائحهم لهُ في عملية التأليف ومتطلباتهم التي يرغبون بحكومتهِ السعي لاحقاً لتنفيذها بشكل يتم التنويه عنها والاضاءة عليها في البيان الوزاري، دون أن يكون عليهِ لزاماً التقيُّد بها تحت طائلة المُخالفة الدستورية وبدليل أن هذه المادة لم تُعقِب كلمة "استشارات" بكلمة "ملزمة" كما فعلت المادة 53 من الدستور التي نصّت حرفياً على عبارة استشارات نيابية مُلزمة حين تسمية رئيس الحكومة وذلك في دلالة واضحة من المشترع الدستوري على التمييز بين نوعين من الاستشارات: احداها يكون مضمونها مُلزم وهي المتعلقة بتسمية رئيس الحكومة وتكليفه بمهمة التأليف والأخرى يكون مضمونها اختياري وهي المتعلقة بتسمية الوزراء وتوزيع عليهم الحقائب الوزارية تأليفاً للحكومة؛ وبدليل أيضاً المعنى اللفظي لنص المادة 64 من الدستور الذي جاء في البند (2) منها على أن: "رئيس الحكومة (يُجري) الاستشارات النیابیة لتشكیل الحكومة" ولم تقُل (يُسمي) الوزراء استناداً إلى استشارات نیابیة مُلزمة كما فعلت ذلك المادة 53 في البند (2( منها لتسمية الرئيس المكلَّف. وكان الأجدر في هذه الحالة بالمشترع الدستوري الاستعاضة عن كلمة استناداً الى استشارات نيابية ملزمة  Consultations parlementaires obligatoires  المذكورة في المادة 53 بعبارة استناداً الى تكليف أكثرية النواب Délégation de la majorité des députés، لأن الاستشارة بحسب طبيعتها القانونية وبشكل عام لا تكون ملزمة طالما أن مفهومها فقط هو استكشاف للرأي بشأن مسألة معينة لا يكون فيها للمُستشار فرض رأيهُ على المُستَشير ان لم يرِد هذا الأخير الأخذ بهِ وذلك بعكس التكليف الذي يكون مُلزم دائماً متى ما استوفيت شرائطه القانونية وقبِلَ بهِ الشخص المُكلَّف وخاصةً أنه متى ما جاء استناداً الى أحكام الدستور كما هو حال قبول الرئيس المكلَّف بمهمّة تأليف الحكومة بناءً على تكليف الأغلبية النيابية.

ومرَد ذلك الى كون الدستور حصر علمية تأليف الحكومة باتفاق يتم التفاهم بشأنه بين رئيس الدولة والرئيس المكلَّف فقط وسنداً لفحوى ومضمون أحكام البند رقم (4) من المادة 53  و البند رقم (2 ) من  المادة 64 من الدستور السالفتيّ الذكر دون أي دور جوهري لأعضاء السلطة التشريعية في هذه العملية والذي تنتهي مهمتهم بشأنها بتقديم المشورة غير المُلزمة للرئيس المكلَّف ليس الاَّ وهذا الأمر يجد أساسهُ القانوني في توزيع الدستور الصلاحيات بين السلطتين التشريعية والاجرائية في هذا الشأن، اذ ليسَ لمجلس النواب الذي لهُ حق تسمية رئيس الحكومة حق تسمية كذلك الأمر أعضاء هذه الحكومة وحرمان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة من هذه الصلاحية في وقت يعهد الدستور اليهما معاً بتشاطر (رأس) السلطة الإجرائية المناطة كما سبق وأسلفنا بمجلس الوزراء مجتمعاً (الذي يترأسه رئيس الحكومة اذا ما انعقد في مقر مجلس الوزراء ويترأسه رئيس الجمهورية في حال انعقاده في مقر رئاسة الجمهورية). وهو الأمر الذي يُفسِّر قول المشترع الدستوري في المادة 53 على أن رئيس الجمهورية يُصدِر (بالاتفاق) مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة وليس (بالاتفاق) مع النواب ولا حتى (بالتشاور) مع رئيس مجلس النواب كما هو الحال حين تسمية رئيس الحكومة وهو المعنى الذي ينسجم مع قول المشترع الدستوري في المادة 64 بأن الرئيس الحكومة يوقِّع مع رئیس الجمهوریة مرسوم تشكیلها لكون الاتفاق على تأليفها قد أُبرمَ رسمياً بين هذين الفريقين فقط وفي ذلك دلالة واضحة من الدستور على أن تلعب كل سلطة من السلطات الدستورية )التشريعية والاجرائية(، دورها الكامل خلال عملية تشكيل الحكومة بحيث ينحصر دور المجلس النيابي بتسمية رئيس الحكومة وينحصر دور رئيس الحكومة العتيدة بتسمية الوزراء وتوزيع الحقائب بعد التنسيق والتفاهم والاتفاق مع رئيس الجمهورية، وذلك تطبيقاً لمبادئ النظام البرلماني القائم على مبدأ فصل السلطات الذي يقتضي أن يسودها مناخ من التعاون والاحترام المتبادل وعدم اغتصاب كلً منها لصلاحيات الأخرى.

وعلاوة على ذلك، ان ما يؤكد انعدام دور النواب في عملية تأليف الحكومة من الناحية الدستورية وحصرها فقط برئيسي السلطة الإجرائية (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة) هو النص القديم للمادة 53 من الدستور قبل اتفاق الطائف والذي كان يحصر السلطة الإجرائية بشخص رئيس الجمهورية حيث كانت تنص على أن: "رئيس الجمهورية يُعيِّن الوزراء ويسمي منهم رئيساً..." ولم تأتِ اطلاقاً على ذكر أي دور للنواب فيما خص تأليف الحكومة وتشكيلها.

زد على ذلك أن الدستور الذي أناط برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة أمر تشكيل الحكومة لم يلزمهما على الاطلاق بقيود وشروط معينة لتشكيلها، والاَّ لكان من الصعوبة بمكان تشكيل هذه الحكومة في حال كانت استشارات النواب بشأن تأليفها مُلزمة للرئيس المكلَّف لتضارب طلبات الكتل النيابية ومصالحها السياسية وهو الأمر الذي يُبرر حرمان المشترع الدستوري النواب من الاشتراك بتوليفة الحكومة وحفظ لهم في المقابل حرية واسعة بمنحها لاحقاً ثقتهم أو بحجبها عنها اذا لم تكن تراعي متطلباتهم الذين أعربوا عنها أثناء التقائهم بالرئيس المكلَّف وتقديمهم استشارتهم له، وهذا ما يأتلف ويتوافق وينسجم بالنتيجة مع طبيعة ومبادئ النظام البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها.

وغنيُّ عن البيان ان ما تقدم من معطيات يقود الى الجزم بأن دور النواب في عملية التأليف ينحصر فقط بتقديم المشورة للرئيس المكلَّف وينتهي عند هذا الحد دون أي صلاحية أخرى في هذه المرحلة ليختلي بعد ذلك الرئيس المُسمَّى لتأليف الحكومة الى نفسه بُغية وضع تصوراً أولياً لحكومته المُرتقبة ومسودّة بعدد الوزراء وأسمائهم بعد جوجلتها بشكل يضمن له بالنتيجة الخروج بحكومة فعالة ومنسجمة توحي بالتضامن الوزاري الذي من شأنه أن يوفِّر الأرضية الصالحة لنجاح حكومته في مهماتها لاحقاَ وذات قدرة على الانتاجية و قادرة في الوقت عيّنه على أن تحظى بثقة مجلس النواب ببيان وزاري يتم صياغته بشكل يوفِّق فيه بين جميع الطلبات التي اطلع عليها بحصيلة الاستشارات التي أُجريت مع النواب المؤيدين والمعارضين لتسميتهِ، دون أن يكون مُلزماً ومُقيداً بمطالبهم التي يأخذ بعين الاعتبار ما يرى منها ضرورية لحصول حكومته على ثقة غالبيتهم.

ولكن السؤال الذي يتبادر للذهن ويُثير الفضول: لماذا هذه الاستشارات النيابية هي بحسب الدستور مُلزمة لرئيس الجمهورية بخصوص تسمية رئيس الحكومة المكلّف وغير ملزمة لهذا الأخير بخصوص تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب الوزارية عند تأليف الحكومة؟

الجواب بكل بساطة لأن النواب هم أنفسهم من منحَ الثقة لشخص رئيس الحكومة حين تسميتهِ وتكليفهِ بتشكيل الحكومة وبطبيعة الحال يكون لمن تمَّ وضع الثقة بهِ منحهُ بالتالي حرية التأليف واطلاق يده كما يشاء في تشكيل الحكومة بحيثُ ينطلق وحده وبالاتفاق مع شريكه في رئاسة السلطة الإجرائية (رئيس الجمهورية) في عملية تأسيس وتشكيل حكومته وبدلالة ظاهر ومضمون نص المادتين 53 و64 من الدستور وبدليل أن الدستور أتاح للنواب لاحقاً -كما سبق وأسفنا- حق حجب الثقة عن حكومته التي شكلّها اذا ما تبيّن لهم أن الرئيس المكلَّف لم يكن على مستوى تطلعات الثقة التي منحوه اياها لتشكيل الحكومة أو في حال عدم موافقتهم على التسميات التي جرت لبعض الوزراء فيها وحجم تمثيل الكتل النيابية فيها والحقائب التي سُلِّمَت الى ممثلي الأحزاب في السلطة أو في حال عدم موافقتهم على بيانها الوزاري.  

نخلُص الى القول بأنهُ ليس للنواب ولا للكتل النيابية مهما كان وزنها وحجمها ولا لرؤساء الكتل أي دور على الاطلاق من الناحية الدستورية في عملية تأليف الحكومة، بل ينحصر هذا الدور فقط بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. والقول بغير ذلك يقود الى التساؤلات التالية: إذا كانت الكتل النيابية ورؤسائها هم من يشتركون أيضاً بعملية تأليف الحكومة، فلماذاً اذاً تحتاج هذه الحكومة الى أخذ الثقة منهم في جلسة تشريعية مخصَّصة لهذه الغاية؟! أليس مثل هذا الأمر من شأنهِ أن يجعل من السلطة التشريعية في موقع الخصم والحكم في آن طالما أنها تشترك بعملية التأليف وتحكم في الوقت عينه بثقتها على ما اشتركت في تأليفه؟ أليسَ في ذلك ضرب وانتهاك وخرق لمبدأ فصل السلطات وتوازنها الذي نصت عليه البند(ه) من مقدمة الدستور؟ أليسَ في إعطاء الكتل النيابية حق اشتراكهم في تأليف الحكومة أن يتحوّل نظام الحُكم السياسي في الدولة من نظام برلماني الى نظام مجلسي؟ بل ماذا يبقى لرئيس الجمهورية ولرئيس الحكومة من صلاحية أو دور في عملية تشكيل الحكومة عندما تتدخل الكتل النيابية بنفسها في هذه المسألة؟ أليسَ مثل هذا الأمر سيُعدم أي دور فاعل ومحوري لرئيس الحكومة في تشكيل حكومته وسيحوِّل دوره في عملية التأليف الى مجرد مفاوض أو وسيط أو موِّفق بين الكتل النيابية في عملية التأليف وسيؤدي بالنتيجة الى تعطيل السلطة الإجرائية في عملية التأليف لهيمنة السلطة التشريعية وتشكيل بالنتيجة حكومة تناقضات وتناحرات وأضداد غير فاعلة لا تأتلف مع قناعة الرئيس المكلَّف بكون الكتل النيابية هي من فرضها عليه وليسً هو من اختارها كما شاء وفي وقتِ يُحمِّل فيه الدستور رئيس الحكومة المكلَّف وحدهُ مسؤولية سياسة الحكومة أمام البرلمان والرأي العام على السواء، دون أية مسؤولية في المقابل على النواب الذين يأخذون لاحقاً دور السلطة الرقابية على عمل الحكومة التي صار الى تأليفها؟  

تأسيساً على ما سبقَ وتقدم، يمكن بسهولة استنتاج أن للنائب دور فقط بمنح الثقة أو لا لشخص الرئيس المكلّف حين تسميته لتأليف الحكومة ومن ثمَّ بمنح الثقة أو لا للحكومة المؤلّفة، دون أي دور لهُ من الناحية الدستورية الصرف في تأليفها وتشكيلها لانحصار هذه الصلاحية والمهمَّة بشكل أساسي (بالرئيس المكلَّف) وهي ما تؤكِّده هذه (التسمية) التي تُطلق عليه.  بمعنى اخر انعدام دور السلطة التشريعية في عملية تكوين الحكومة بحيث ينحصر دورها: امَّا بولادتها واخراجها الى الحياة الدستورية عبر منح الثقة النيابية لها وامَّا بإجهاضها بعدم منحها هذه الثقة طالما أنها تبقى قبل هذه اللحظة بمثابة الجنين الذي لم يبصر النور رغم حصول التكوين، باعتبار أن خروجه بصورة متعافية الى الحياة الدستورية يتم بعد ولادتهِ على يد القابِلة التشريعية التي تُنَجِّح هذه العملية بمنحهِ الثقة البرلمانية.   

في دور رئيس الجمهورية بعملية التأليف:

إذا كانت الحكومة تخرج الى الحياة الدستورية بعد منح النواب الثقة لها، الاَّ أنه يقتضي عدم تجاهل المرحلة السابقة لذلك باعتبار أنهُ يقتضي لتكوينها وتشكيلها أن يتم أولاً الاتفاق عليها بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف اذ هي لا تتكون دستورياً الاَّ بمرسوم يتم توقيعه من كليهما كما سبق وأسلفنا؛ وهو ما يوجب بالتالي على الرئيس المكلّف أن يتناقش مع رئيس الجمهورية بتفاصيل التشكيلة الوزارية وكل ما يتعلق بها واجرائه التعديلات التي يقترحها هذا الأخير عليه على مسودّتها الأولية وخاصةً أن دور رئيس الجمهورية بما يُمثِّل من الناحية الدستورية ليسَ دوراً عارضاً أو عابراً أو متلقياً لأنه أولاً يُشاطر رئيس الحكومة رئاسة السلطة الإجرائية فيكون من حقِّهِ التدخل في تشكيل ما سيرأس، الأمر الذي يجعله بالتالي يلعب دوراً دستورياً أساسياً في تكوين هذه السلطة ولا سيما أن مرسوم تشكيلها يصدر )بالاتفاق( بينهُ وبين رئيس الحكومة وعليه فأن الاتفاق  يفرض وجوب اجراء تفاهمات بينهما يتمخّض عنها تعديلات بشأن تشكيلها بناءً لرغبتهما معاً -بحسب رؤيتهما لمنطق مجريات الأمور- لا بناءً لرغبة الرئيس المكلَّف فقط؛ ولأنهُ ثانياً رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن بحسب الدستور، الأمر الذي يُمكِّنه بالتالي من ابداء ملاحظاته بشأن شكل الحكومة وطلب اجراء التعديلات على مسودّة مشروع تأليفها، بما يجعلهُ مقتنعاً ومطمئناً الى توفُّر سائر المقوِّمات اللازمة لنجاحها وبما يتلاءم مع تحقيق المصلحة الوطنية العليا للبلاد.

وفي المقابل، لا يعني ذلك اطلاقاً بأن يُصبح رئيس الجمهورية عائقاً أمام عملية تأليف الحكومة، بل يقتضي بهِ أن يلعب دور المؤازر والمسهِّل لمهمَّة الرئيس المكلف في تشكيل الحكومة، وهو لن يتمكن من أن يلعب هذا الدور الاَّ اذا جعل من نفسه بالمركز الذي أناطَهُ بهِ الدستور كرمز لوحدة الدولة بما يفرض عليه ذلك الاَّ يكون  فريقاً في الصراع السياسي الذي يحتدم بين القوى السياسية والكتل النيابية، باعتبار أن الدستور وضع رئيس الجمهورية في مقامٍ سامٍ يتناسب مع موقعه ودوره، اذ أنه بنصه في المادة 49 على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن يكون قد ميّزه عن غيره من رئاسات السلطات الدستورية ووضعه بالتالي فوق الطوائف والصراعات السياسية والحزبية التي تنتهجها الكتل النيابية، بحيث يكون عنواناً جامعاً للعباد، وأساساً لوحدة البلاد، الأمر الذي يعني معهُ أن تكون تعديلاته المقترحة على تشكيلة الحكومة تستهدف تحقيق الصالح العام لا تحقيق المصالح الخاصة بالكتل النيابية التي هي على حالة وئام معه وخاصةً أن ذلك يُصعِّب مهمة التأليف على الرئيس المكلّف وقد يؤخر هذه العملية برمَّتها، بما يستتبع ذلك من ادخال البلاد في أزمة سياسية ودستورية خطيرة قد لا تُحمَد عُقباها. لذلك يقتضي ان يبذل رئيس الدولة مع الرئيس المكلَّف كل جهدٍ مُستطاع لتشكيل الحكومة لا لعرقلتها بمطالب ذات نزعة مصلحية خاصة، ممَّا يفرض عليه تحمّل مسؤوليتهِ الدستورية كمفتاحٍ للحلول انطلاقاً من دوره الجامع السامي الذي أناطهُ بهِ الدستور المُؤتمِن بقسمهِ على احترامهِ.

وعليه، تكون مرحلة تأليف الحكومة -التي تبدأ بعد مرحلة تسمية رئيس الحكومة- محصورة بشكل أساسي برئيس الحكومة المكلّف الذي منحه النواب الثقة البرلمانية بتسميته بناءً لاستشارات نيابية ملزمة وبشكل تبعي برئيس الجمهورية باعتبار أنهُ يتوجب في هذه المرحلة على الرئيس المكلّف أن يبقى على تواصل يومي مع رئيس الجمهورية، ومنذ انطلاقة استشاراته مع النواب، فيطلعهُ على الأجواء التي سادت هذه الاستشارات، وعلى مطالب الكتل النيابية، والصعوبات التي يُواجهها، ويتداول معهُ في كيفية تذليل هذه الصعوبات وفي كل شاردة وواردة  في هذا الشأن ولاسيما الأسماء المطروحة في التشكيلة الوزارية وكيفية توزيع الحقائب بين سيادية وخدماتية وغيرها من الأمور لتسهيل عملهِ في عملية التأليف ويكون بالتالي من الواجب على الرئيس المكلّف أن يجري التعديلات اللازمة التي يقترحها بصورة موضوعية رئيس الجمهورية عليه بخصوص مشروع التشكيلة الوزارية وخاصةً أن تشكيل الحكومة يتم في نهاية المطاف بمرسوم مشترك يصدُر في هذا الشأن ويُوقعان معاً عليه.  

وعلى ذلك وبعد اجراء الرئيس المكلَّف المقتضى اللازم من التعديلات التي تناقشَ وتباحثَ بشأنها مع رئيس الجمهورية، يقترح الأول على الثاني التشكيلة التي خلصَ وانتهى اليها، كي يُصدر مرسوم تشكيلها دون تدخل للنواب في هذا الصدد والذي انحصر دورهم بتقديم فقط المشورة غير الملزمة للرئيس المكلّف كما سبق وأسلفنا.

في أحقية رئيس الجمهورية بحصَّة وزارية:

أن السؤال الذي يطرح ذاته بذاته أثناء عملية التأليف هو معرفة ما إذا كان يحق دستورياً لرئيس الجمهورية فرض على رئيس الحكومة أثناء تأليفها أن يكون له حصة وزارية في هذه الحكومة المرتقبة.

في الحقيقة لم ينص الدستور اطلاقاً على هذا الحق لرئيس الجمهورية، بل على العكس من ذلك نص في المادة 49 على أنه رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن وهذا يعني فيما يعنيه أنهُ مرجعية وطنية ودستورية كبرى فوق العادة خصّهُ بها الدستور وفق مآل بيانه انفاً بشكل يُصبح فيه صمّام أمان النظام السياسي في البلاد انطلاقاً من الحيدة التي يجب ان يكون عليها كمرجع سامٍ بكونه رمزاً لوحدة الوطن بكل مكوِّناته الطائفية وأطيافه السياسية. وبطبيعة الحال لا يتحقق مثل هذا الأمر اذا كان لرئيس الجمهورية وزراء داخل الحكومة قد تتناقض سياستهم مع سياسة الكتل النيابية الحزبية المُمثَّلة فيه وهو ما سيجعل من رئيس الجمهورية في موقع غير محايد وغير جامع بين القوى السياسية وستنهار بالنتيجة صفتهِ كرمزاً للوحدة الوطنية وهذا هو السبب المُبرِّر الذي يدحض بدعة اعطاء حصة لرئيس الجمهورية في الحكومة حين تأليفها لكونه  يلعب دور المرجع الجامع والحكم المحايد في الصراع السياسي الدائر بين الأحزاب والكتل السياسية التي تتنافس على السلطة وذلك لأنَّ الدستور وضعه في هذا الموقع السامي الذي يسمو فوق الصراعات السياسية والحزبية لحماية النظام والحفاظ على الدولة الذي هو رمز وحدتها، وبما لا يجعله فريقاً او طرفاً في هذا الصراع، فيفقد حياده وتجرده ودوره كحَكم  ولاسيما أن نظام الحُكم في لبنان هو بحسب مقدمة الدستور ديمقراطي برلماني وليس رئاسي على الاطلاق ليتَقرّر لرئيس الدولة مثل هذا الحق. زد على ذلك، أن اعطاء رئيس الجمهورية حق الاشتراك بالحكومة بحصة غالباً ما تكون صغيرة تكاد لا تُماثل حصة أصغر كتلة سياسية أو حزب سياسي متمثل في الحكومة من شأنه يضرب معنوياً موقع الرئيس وهيبة الرئاسة والانتقاص من عظمتها وقيمتها الدستورية انطلاقاً من كون رئيس الجمهورية هو رئيس البلاد والعباد ومولجاً بهِ دور دستوري هام في حفظ المصلحة العامة العليا وسلامة الدولة عبر سهره على احترام الدستور وليس عبرَ الاهتمام بحصة وزارية لا تأتلف مع الدور الوطني الكبير الذي يقتضي أن يؤديه. وما يبرر أيضاً عدم اعطاء رئيس الجمهورية مثل هذا الحق هو أنه بحسب المادة 60 من الدستور لا تبِعًة عليه )إلا فقط عند خرقه الدستور أو في حال الخیانة العظمى(. فكيفَ يستقيم هذا الأمر إذا كان لهُ وزراء ينفذون تعليماته داخل الحكومة وهم يُسألون بحسب المادة 70 من الدستور في حال إخلالهم بوظيفتهم وسوء أداء مهامهم والتي قد تنتُج بسبب طلب معيّن لهم من رئيس الجمهورية في حال كانوا من ضمن حصته الوزارية لتحقيق غاية خاصة به؟! ثم هل أن رئيس الجمهورية بحاجة أصلاً الى وزراء يمثلونه ضمن الحكومة في الوقت الذي لهُ حق ترؤس مجلس الوزراء ساعة يشاء ودعوته للاجتماع استثنائياً كلما رأى ذلك ضرورياً وطرح ما يشاء حتى من خارج جدول الأعمال متى ما وجد ذلك طارئاً بحسب المادة 53 من الدستور وغيرها من كثير الصلاحيات الدستورية؟ 

لا شكَّ ان هذه المُبرِّرات الهامّة تقود الى عدم جواز تخصيص حصّة وزارية لمن وصفه الدستور برمز وحدة البلاد والتي تفرض عليه أن يلعب دور الحَكم بين السلطات وتصويب مسارها ولاسيما أن الدستور قد خوَّله ُوزوّدهُ بكل ما يلزم من صلاحيات في سبيل تحقيق هذه الغاية والتي تُوحي بكونه فعلاً كحَكمٍ بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، مهمّتهُ الأساسية انتظام عمل هاتين المؤسستين وتصويب مسارهما الدستوري بكونه مؤتمناً على الحفاظ على الدستور وذلك ابتغاءً للمصلحة العامة في الدولة كرئيساً  لها وبدليل الصلاحيات المتماثلة التي أُعطِيت لها تجاه مجلس النواب ومجلس الوزراء معاً اذ أنهُ وبحسب المادة 53 من الدستور له حقه في  دعوة مجلس الوزراء استثنائياً للانعقاد كلما رأى ذلك ضروریاً وأيضاً لهُ في المقابل حق دعوة مجلس النواب للانعقاد في دورة إستثنائية بحسب المادة 86 وكذلك الأمر حقه بالطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر في أي قرار من القرارات التي یتخذها بحسب المادة 56 من الدستور لإعادة دراستها وأيضاً له في المقابل حق الطلب من مجلس النواب إعادة النظر في القوانين التي يسنّها بحسب المادة  57  لإعادة دراستها وكل ذلك يؤكد على حقوق أشبه بمتشابهة ومتوازية مُنِحت لرئيس الجمهورية تجاه السلطتين التشريعية والتنفيذية للتأكيد على صفته كحَكم دستوري وهو الأمر الذي يجد صداه أصلاً في قسمهِ المنصوص عنه في المادة 50 من الدستور والذي أناط بهِ وحده مهمّة السهر في الحفاظ على احترام دستور الأمة وحفظ استقلال الوطن وسلامة أراضيه دون أية تبِعة عليه حال قيامه بهذه الوظيفته سنداً للمادة 60 من الدستور، باعتبار أنهُ كحَكم لا يُعتَبر مسؤولاً عن السياسة العامة التي يضعها مجلس الوزراء طالما أن الحَكم لا يكون مسؤولاً أمام أحد بل هو مَن يدير اللعبة التي تكون بين الفريقين )مجلس الوزراء ومجلس النواب) وبدليل أيضاً أن لهُ صلاحية رفع البطاقة الحمراء بوجه البرلمان وذلك بالإيعاز للحكومة بحل البرلمان لإخراجه من ملعب الحياة السياسية وفق شروط معينة بحيثُ یُصدر رئیس الجمهوریة وحدهُ بحسب المادة 55 من الدستور مرسوم الحل لصدور البطاقة الحمراء عنهُ وكل ذلك متى ما وجدَ كرمز لوحدة الوطن أنه من المصلحة العليا للبلاد حل المجلس القائم قبل انتهاء مدة ولايتهِ والاحتكام للإرادة الشعبية ليُبنى على الشيء مقتضاه.

والحقيقة أن الواقع السياسي اللبناني مازال قاصراً لغاية تاريخه على جعل رئيس الدولة في هذا المقام السامي وتمكينه من لعب هذا الدور التحكيمي الوطني نتيجةً للمناخ السياسي الطائفي التي تُلقي غيومهِ بظلالها دوماً على انتظام العمل الدستوري والمؤسساتي.

في كيفية حل إشكالية انعدام التوافق بين رئيس الجمهورية والرئيس والرئيس المكلَّف:

إذا كان ولا بدَّ دستورياً من حصول اتفاق بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف حول تشكيل الحكومة، فأن السؤال الذي يُطرح في هذا الصدد: ماذا لو لم يتفق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف على ذلك؟

في الواقع لم يتصدَّ الدستور لهذه المُعضِلة ولكن يمكن الاستنتاج بأن حلَّها يتوقف على ارادة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف طالما أن الدستور عينهُ اشترط في المادتين 53 و64 منه حصول اتفاق بينهما لإصدار مرسوم تشكيل الحكومة وتوقيعهُ معاً.

وأنهُ في ظل احتدام الصراع بينهما بشأن التشكيلة الحكومية والذي غالباً ما يكون على التسميات وتوزيع الحقائب الوزارية بين الكتل النيابية لا مناصَ حينها من أمرين: امّا الاتفاق فيما بينهما على تشكيل حكومة تكنوقراط من خارج مجلس النواب طالما أجازت المادة 28 من الدستور مثل هذا الأمر الصُحي في مثل هذه الحالة؛ وامّا احتكامهما لمجلس النواب الذي يُمثِّل الشعب عبر اصدار رئيس الجمهورية مرسوم تشكيل الحكومة يوقِّع عليه معهُ الرئيس المكلّف وذلك لإراحة البلاد من هذه المشكلة بدلاً من أن تستمر في حالة الشلل الدستوري التام الذي تعانيه. وما يُبرِّر وجوب حصول هذا الاجراء حينها هو أن رئيس الجمهورية يُعتَبَر دستورياً مؤتمناً على سلامة البلاد واحترام الدستور بما يعني عدم تعطيله حفاظاً على المصلحة العامة للدولة وخاصةً أن رئيس المكلَّف هو الذي سيتحمل لاحقاً دون رئيس الجمهورية مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب ، ليقوم بالنتيجة هذا الأخير بإعطاء الثقة لهذه الحكومة أو بحجبها عنها وبالتالي امّا يكون فيه موقف المجلس النيابي الذي يُمثِّل الشعب مع ما توصل اليه الرئيس المكلَّف ولو لم يكن وفق ما ابتغاه رئيس الجمهورية لتنصرف بذلك هذه الحكومة الى حلّ المشاكل الاقتصادية والمالية والاجتماعية بعد نيلها الثقة، وامَّا يكون فيه موقف المجلس النيابي مع تطلعُّات رئيس الجمهورية الذي لم يتوصل الى اتفاق مع الرئيس المكلَّف وذلك بحجب الثقة عن حكومته والعودة مجدداً الى رئيس الجمهورية في هذه الحالة لإجراء استشارات نيابية جديدة تنتهي الى تكليف رئيس جديد وفقاً لما تُسفر عنه الاستشارات النيابية الملزمة.

ومع الإشارة بأنه لا يمكن لا رئيس الجمهورية ولا للمجلس النيابي حق عزل الرئيس المكلَّف إذا لم يشأ هذا الأخير الاعتذار عن متابعة مهمته بتأليف الحكومة والسبب في ذلك هو عدم وجود نصَّ يجيز مثل هذه الصلاحية لرئيس الجمهورية اذ أن المبدأ هو "لا صلاحية دستورية بلا نص" ولاسيما أن الرئيس المكلّف حاز على ثقة اغلبية النواب وليس على ثقة رئيس الجمهورية ليقوم هذا الأخير بسحبها منه عبر عزله لهُ ؛ كذلك الأمر ليس لمجلس النواب حق وضع يده على موضوع تشكيل الحكومة والتدخل في عمل السلطة الإجرائية حين حصول الخلاف بين رأسَيّ هذه السلطة عملاً "بمبدأ فصل السلطات" ولا سيما أن قيام المجلس النيابي بعزل الرئيس المكلّف أو سحب التكليف منه يُشكِّل انقلاباً غير دستورياً على نتيجة الاستشارات المُلزمة التي خلُص اليها رئيس الجمهورية بصدد عملية التكليف ولاسيَّما أن تقرير مثل حق هذا للمجلس النيابي سيقود الى نتيجة خطيرة تُتيح لهُ حق عزل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب في حال وجود مشكلة إجرائية داخل السلكة الواحدة لا تتعلق بسقوط الأهلية القانونية عن المطلوب عزله وذلك لا يأتلف اطلاقاً مع منطوق أحكام الدستور ولا مع روح النظام البرلماني.

وربَّ قائلٍ يقول ماذا لو تمَّ تكليف أحد بتشكيل الحكومة ولكنه تعرّض لحادث ما جعله في غيبوبة دماغية، فهل يعقل أن يبقى تشكيل الحكومة معلّقاً على استعادة الرئيس المكلّف لوعيّه وعافيته؟!

نجيب بأنَّ هذه الحالة تتعلق بالأهلية الصحية للرئيس المكلّف وليس بمشكلة إجرائية حول تشكيل الحكومة عالقة فيما بيّن رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف وفي هذه الحالة يصبح بعد انقضاء فترة معقولة زمنياً وعلى ضوء نتيجة التقارير الطبية حول مدى إمكانية شفاء الرئيس المكلف خلال هذه المهلة من حق مجلس النواب التدخل حمايةً للمصلحة العامة للبلاد وإعلانه سقوط التكليف للعلّة الصحيّة التي ألمّت بالرئيس المكلف.

الفترة الزمنية الواجب خلالها تأليف الحكومة العتيدة:

إذا كانت عملية تشكيل الحكومة تقوم على استشارات يجريها الرئيس المكلَّف مع النواب واتصالات مع رؤساء الكتل النيابية والحزبية وتفاهمات مع رئيس الجمهورية، فالأمر يتطلب منهُ اذاً دراسة متأنية كي تنضج حكومته العتيدة وتتبلور الصورة بشكل واضح أمامه ولاسيما لجهة الأسماء المطروحة وحجم تمثيل الكتل النيابية والقوى الحزبية وكيفية توزيع الحقائب الوزارية عليها بين سيادية وخدماتية وعادية والتمعٌّن بمطالب النواب التي اطلعَ عليها بنتيجة الاستشارات معهم وغيرها من الأمور المتعلقة بالتأليف بما يفرض ذلك كلّهُ وجوب إعطائه هامش من الحرية الزمنية ليحسم خياراته وتشكيل حكومته بتأنٍ وروِّية.

ولكن مع ذلك يبقى أخيراً معرفة ما إذا كانت عملية تأليف الحكومة تخضع لمهلة زمنية محددة دستوراً للرئيس المكلَّف في هذا الصدد؟

في الواقع لم يحدد الدستور مهلة معيّنة على الرئيس المكلَّف لتأليف الحكومة خلالها -كما هو حال عدم تحديد الدستور مهلة لرئيس الجمهورية للدعوة للاستشارات النيابية المُلزمة لتكليف رئيس الحكومة- وذلك مردّهُ الى توفير للرئيس المكلَّف مناخاً ملائماً يُسهم إيجابياً في انتاج تشكيلة حكومية فعّالة؛ بمعنى اخر لكي ينصرف بحرية الى تشكيل حكومته دون أي ضغط ناتج عن عامل الوقت، خاصةً في ظل تعرِّضه في هذه المرحلة لضغط ناتج عن الرأي العام وعن المُعطيات التي تتكون لديه من خلال الاستشارات النيابية للكتل النيابية الوازنة وللقوى السياسية والحزبية وصعوبة التوفيق بين مطالبها والتي غالباً ما تسعى الى خلق الصعوبات ووضع العراقيل أمام تشكيل الحكومة لحثِّهِ امّا على الاعتذار وامّا على الرضوخ لمطالبها غير المُلزمة دستورياً له لناحية تسمية وزرائها وعددهم واختيار الحقائب التي ترغب بها. وعليه، ترك له الدستور هامش من الحرية المرِنة يُتاح له من خلالها فرصة تشكيل حكومة مُنسجمة وفاعلة وفق قناعاته الخاصة وقادرة في الوقت عينهُ أن تحظى بثقة البرلمان والرأي العام على السواء ولاسيما أنهُ هو من سيُسأل لاحقاً أولاً وأخيراً عن سياساتها العامة.

الاَّ انه مع ذلك هذه الحرية الزمنية في تشكيل الحكومة ليست بلا ضابط، باعتبار أن الحرية يقتضي أن تكون دوماً مسؤولة، لاسيَّما متى ما وُجِدت مُبررات جديّة وضرورات ملحَّة تُحتم الاسراع في تشكيل الحكومة دون تأخير أو ابطاء حفاظاً على المصلحة العامة للبلاد والعباد وحفظاً على النظام العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي وانتظاماً لعمل المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، باعتبار أنهُ لا يمكن الاستمرار في ادارة مصالح الدولة عن طريق تصريف الاعمال لِما في ذلك من انعكاس سلبي على مختلف قطاعات الدولة وحسن أدائها وانتاجيتها ولاسيما القطاعات الاقتصادية والمصرفية التي غالباً ما تتأثر سلباً في حال بقاء الدولة مُستمرة بحكومة تصريف أعمال لا تُسمِن ولا تغني من جوع بكونها حكومة مُقيدة الصلاحيات الدستورية وغير مسؤولة دستورياً أمام مجلس النواب ولا يمكن التشريع في ظلها الاَّ في الحالة الضرورة الماسّة التي تبيحها الظروف الاستثنائية.

وعلى ذلك لا بَّد من أن تتمّ عملية تأليف الحكومة ضمن مهلة زمنية معقولة Délai raisonnable وهي المدة الزمنية المنطقية التي يُعقَل خلالها تنفيذ الالتزام القانوني أو المهِمَّة الدستورية بحسب منطق الأمور. وهذه المدّة يتم تحديدها بحسب كل حالة وفقاً لظروف كل قضية على حِدة بحيثُ أنهُ كلما كانت ظروف القضية لا تحتمل التأجيل ويترتب على التأخير في تنفيذ الالتزام أو المهِمَّة أضراراً جسمية يتم تفسير حينها هذه المدّة بصورة ضيقة جداً، فيُصبح الأجل الواجب انجاز العمل خلالهُ محصوراً بأيامٍ معدودات، نظراً لما قد يترتب على التأخير في تنفيذ الالتزام أو المهِمَّة من مخاطر جسيمة وأضرار فادحة قد لا يُمكن تدارك نتائجها ولاسيما أن البلاد تكون ما زالت منذ فترة بحالة تصريف أعمال ليس فيها للحكومة سوى صلاحيات قاصرة لا تفي بالغرض المطلوب لإدارة المؤسسات بالشكل الفاعل المطلوب وخاصةً أن الرئيس المكلَّف لم يصبح بعد رسمياً رئيساً لمجلس الوزراء ليدير ويشرف على تنفيذ السياسات الحكومية العامة في البلاد.

في صحّة ممارسة الرئيس المكلّف للصلاحيات المنوطة برئيس مجلس الوزراء:

ان السؤال الجوهري الذي يطرح على بساط البحث في هذا الشأن هو معرفة ما إذا كان يحق للرئيس المكلَّف -قبل صدور مرسوم تشكيل الحكومة- ممارسة صلاحياتهِ كرئيساً لمجلس الوزراء والمنصوص عنها في المادة 64 من الدستور طالما أنهُ سبقَ أن تمَّ تكليفه بتشكيل مجلس الوزراء بصورة دستورية من قبل السلطة الاشتراعية المُمثِّلة للأمة؟

في الواقع لا يُصبح الرئيس المكَّلف رئيساً لمجلس الوزراء بالمفهوم التي عنتهً المادة المذكورة قبل ولادة هذا المجلس بمرسوم يُصدره رئيس الدولة ويوقع هُوَ معهُ عليه. وعلى ذلك، فهوً بالتالي قبل حصول هذا الاجراء الدستوري يُعتبر رئيساً مكلَّفاً بتشكيل مجلس الوزراء وليس رئيساً لمجلس الوزراء طالما أن هذا المجلس لم يتم تشكيله بعد. والقول بغير ذلك يجعلهُ مترأساً لمجلساً غير قائم ويؤول الى اعتباره بهذه الصفة -والحال هذه- مُمثِّلاً وناطقاً باسم هيئة دستورية غير موجودة بعد وهو ما لا يتقبَّلهُ المنطق القانوني باعتبار أن المجلس غير المولود بعد يكون بحُكم المجلس المُنعدم الوجود والعدم لا ينتجُ قانوناً سوى عدماً ولا يُولِّد أيّة صلاحياتِ قط، الأمر الذي يحُول بالنتيجة دون أحقية الرئيس المُكلَّف من ممارسة الصلاحيات المُخصصة لرئيس مجلس الوزراء لعدة أسباب جوهرية، أهمها: عدم ولادة مجلس الوزراء الذي سيُنصّب رئيساً عليه والذي وحدهُ سيحوِّل صفته من رئيس مكلَّف الى رئيس لمجلس الوزراء وعدم جواز حصول تنازع في الصلاحيات بينهُ وبين الرئيس المكلَّف بتصريف الأعمال الذي يكون حتى هذه اللحظة ما يزال قابعاً في مقرّ رئاسة الحكومة ويمارس صلاحياته الدستورية المحدودة كرئيساً لمجلس الوزراء المستقيل الذي يقوم بتصريف الأعمال وعدم وجود من صلاحيات للرئيس المكلَّف بتشكيل الحكومة في الدستور سوى اجراء استشارات مع النواب حين الشروع بتشكيلها واجراء مشاورات مع رئيس الجمهورية بشأن التأليف واعداد مشروع تشكيلة حكومتهِ والتوقيع على مرسوم تشكيلها فور صدوره عن رئيس الجمهورية.

ثالثاً-نهاية مسار عملية التأليف: اصدار المراسيم واعداد البيان الوزاري والمثول

إذا كانت عملية تأليف الحكومة تتمّ باتفاق بين الرئيس المكلّف ورئيس الجمهورية ضمن المهلة المنطقية المعقولة مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التي تمرّ بها البلاد، فأنهُ مع ذلك لا تتكوَّن هذه الحكومة الاَّ بإجراء دستوري يتمثل بصدور مرسوم مشترك عن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة بعد الاتفاق على صيغتها وشكلها النهائي بكامل تفاصيلها سواء لناحية أسماء الوزراء أو لناحية الحقيبة الوزارية التي سيُكلّف بحملِها كلٌّ منهم.

في ولادة واجهاض الحكومة العتيدة:

يتوجب على رئيس الجمهورية بعد نضوج التشكيلة النهائية المُتفق عليها إصدار ثلاثة مراسيم بالتزامن مع بعضها البعض:

-المرسوم الأول: هو مرسوم قبول استقالة الحكومة السابقة التي كانت تُصرِّف الأعمال واعتبارها مستقيلة حكماً ويوقِّع وحدهُ منفرداً على هذا المرسوم سنداً لأحكام البند رقم )5( من المادة  53 من الدستور وهو الأمر الذي ينهي دورها كلياً من المشهد السياسي والدستوري.

-المرسوم الثاني: هو مرسوم تسمیة الرئيس المكلّف كرئیساً لمجلس الوزراء الذي تمّ تأليفه ويوقِّع وحده منفرداً على هذا المرسوم سنداً لأحكام البند رقم )4) من المادة  53 من الدستور ومنذ هذه اللحظة تنقلب صفة الرئيس المكلّف الى رئيساً لمجلس الوزراء، باعتبار أنهُ قبل ذلك لا يكون المجلس المذكور مؤلفاً ومُبصراً النور.  

-المرسوم الثالث: هو مرسوم تشكيل الحكومة ويقتضي لصحتِّه أن يُوقِّع عليهِ حُكماً معهُ رئيس مجلس الوزراء وذلك سنداً لأحكام البند رقم )4( من المادة  53 والبند رقم )2( من المادة 64 من الدستور المعطوفتين على بعضهما البعض للتلازم.

ولكن لسؤال الذي يطرح ذاته في هذا الشأن: هل تنتهي عملية تأليف الحكومة بمُجرد صدور مرسوم تشكيلها ويصبح بإمكانها منذ هذه اللحظة الشروع بمهامها الدستورية العادية؟

الجواب قطعاً لا، لأن صدور مرسوم تشكيل الحكومة يعني نشأتها كجنين مازال بحاجة ليَخرُّج الى الحياة الدستورية الى ثقة النواب مُمثلي الشعب وهو الأمر الذي يوجب اذاً بعد الانتهاء من مهمّة تأليف هذه الحكومة بين رأسي السلطة الاجرائية على النحوّ السابق بيانه انفاً أن تنكَّب على وضع بيانها الوزاري الذي تُعلن فيه عن الخطوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية العريضة التي ستنتهجها غِبَّ الشروع بمهامها توسُّلاً لمنحها الثقة من الشعب بصورة غير مباشرة عبر ممثليهم في مجلس النواب الذين سبقَ أن تمَّ انتخابهم بالاقتراع المباشر.

ثم بعد الانتهاء من ذلك واخطار رئيس مجلس النواب يوجِّه هذا الأخير دعوة الى جلسة للهيئة العامة لمجلس النواب تكون مُخصَّصة لهذه الغاية بحيثُ تَمثُّل الحكومة المُؤلفة أمام هذه الهيئة لتُعلن عبر رئيسها بيانها الوزاري والذي يطلب ثقة المجلس بها لينتهي بذلك مسار عملية تشكيلها وذلك بعدما ينهي النواب جلسة مناقشة البيان الوزاري للحكومة ويعلنون عن موقفهم في ختام كلمتهم بمنحها الثقة أو بحجبها عنها ولكن يبقى هذا الاجراء مُعلَّقاً على قيام الحكومة بتقديم ببيانها الوزاري من مجلس النواب ضمن المهلة المحددة في الدستور.

في المدة الواجب خلالها على الحكومة المُؤلفة تقديم بيانها الوزاري:

تنص المادة 64 من الدستور أنهُ على الحكومة أن تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيِّل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها· ولا يحق لها أن تُمارس صلاحياتها قبل نيِّلها الثقة "إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال".

والسؤال الذي يطرح ذاته بذاته هنا: ماذا لو لم تتقدم الحكومة المُؤلفة

من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها التي حددتها المادة الدستورية الانفة الذكر؟

الجواب على ذلك يتوقف على معرفة ما إذا كانت مهلة الثلاثين يوماً هي مهلة حثَّ لا يترتب على عدم احترامها والتقيد بها أيّة نتائج قانونية لكون الغاية منها عدم التباطؤ في تنفيذ الالتزام القانوني المفروض على الحكومة أم أنها مِهلة اسقاط يترتب على تصرّمها سقوط الحق بنشأة هذه الحكومة دستوراً بمجرد انقضائها وعدم الشروع بإجراءات منحها الثقة النيابية.

وأنهُ من المسلم بها فقها واجتهاداً في هذا الصدد أن تحديد طبيعة المِهل القانونية يتم بحسب صياغة النص الذي يتضمَّنها وأنه كلَّما كانت هذه الصياغة تنصُّ على وجوب والزامية التقيُّد بها لإجراء الالتزام التي تفرضهُ تكون هذه المهلة مهلة اسقاط، تماماً كما هو حال المهلة المنصوص عنها في المادة 64 من الدستور التي فرضت على الحكومة الالتزام بتقديم بيانها الوزاري خلالها وذلك لكون الصياغة البنائية الشكليّة لهذه المادة الدستورية ابتدأت بكلمة "على الحكومة تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري خلال 30 يوماً"، بما يعني وجوباً عليها اجراء هذه المهمّة خلال هذه المهلة وخاصةً أن المهلة في الحالة الراهنة هي احدى المهل الدستورية التي ترتبط بمبدأ الأمان التشريعي، وليست مُجرد مهلة قانونية عادية. والقول بغير ذلك يُمكِّن الحكومة المُؤلفة ان تبقى أشهراً عديدة دون أخذ الثقة، وهذا ما يُشكِّل وضعاً دستورياً شاذًّاً يُخالف أبسط مبادئ الشرعيّة ومن شأنه أن يُبقي البلاد في حالة تصريف الأعمال الى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً.

وعليه، في حال لم تتقدم الحكومة المُؤلفة ببيانها الوزاري ضمن المهلة المحددة دستوراً لا تستطيع أن تنَل ثقة مجلس النواب لأن اجراء منح هذه الثقة كان يقتضي أن يتم حصوله شكلياً ضمن المهلة الذي قررها الشارع الدستوري وان تخطي الحكومة المُؤلفة لهذه المهلة الدستورية يشكل مخالفة صاخة للدستور ويدُّل على استخفاف الحكومة المُؤلفة -ومنذ البداية- بواجباتها الدستورية وتخليها عنها واستهتارها بها، الأمر الذي يُشكِّل عدم كفاءة ذاتية لها في تولي المهام المفروضة عليها وخاصةً في ظِل غياب لظروف استثنائية تحُول دون التقيُّد بالمهلة الدستورية وتُبرر هذا الابطاء السافر الحاصل.

وعلى ذلك، في حال عدم تقَدُّم الحكومة المؤلفة من مجلس النواب ببيانها الوزاري خلال مهلة الثلاثين يوماً التي تلي صدور مرسوم تشكيلها يقتضي اعتبارها حُكماً بمثابة الحكومة المستقيلة لعدم الإمكانية دستورياً من الشروع بإجراء منح الثقة لتصرُّم ملهة الاسقاط المنوّه عنها. وما يؤكد هذا الفرض هو البند رقم 2 من المادة 64 من الدستور التي نصّت على أن: "ولا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نیلها الثقة ... إلا بالمعنى الضیِّق لتصریف الأعمال"؛ أي أنه في حال لم تنل الحكومة الثقة النيابية لسبب من الأسباب تُصبح تلقائياً بمثابة الحكومة المستقيلة وعليها أن تقوم بتصريف الأعمال ريثما يتم تشكيل نظيراً لها وذلك بهدف تسيير شؤون المرافق العامة في الدولة وذلك بصلاحيات قاصرة ومحدودة دون الأحقية بممارسة الصلاحيات الواسعة والاختصاصات التقريرية التي من شأنها إحداث أعباءٍ جديدةٍ أو التصرّف باعتماداتٍ هامّة أو ادخال تغييرٍ جوهريّ على سير المصالح العامة السياسية والإقتصادية والإجتماعية تحت طائلة المسؤوليّة القانونية ؛ أي أنه لا يجوز لها كحكومة تُعتَبر دستورياً بحكم المستقيلة أن تقوم بأعمال التصرفيَّة باستثناء ما تعلق منها بتدابير الضرورة وأمن الدولة الداخلي والخارجي والتي تبقى فيها خاضعة لرقابة القضاء الاداري دون رقابة عليها من مجلس النيابي، باعتبار أن مسؤولية السلطة التنفيذيّة أمام مجلس النواب مرتبطة بممارسة الحكومة لصلاحياتها الكاملة اثر حصولها على ثقة السلطة التشريعيّة. 

امَّا إذا تقدمت الحكومة ببيانها الوزاري ضمن المهلة الدستورية ونالت ثقة المجلس بالأغلبية المطلقة لا الموصوفة، فأنها منذ ذلك الحين تبدأ فترة ولايتها الدستورية بشكل طبيعي ويصبح بإمكانها ممارسة مهامها بكامل الصلاحيات التي كرّستها لها المادة 65 من الدستور.

في لحظة انعدام صلاحيات الحكومة المستقيلة وحلول محلها دستورياً الحكومة الجديدة:

من المُسلَّم بهِ فقهاً واجتهاداً أنهُ حتَّى تشكيل حكومة جديدة وصدور مرسوم في هذا الشأن، فإن الحكومة المستقيلة السابقة تواظب على القيام بوظائفها في تصريف الأعمال بصلاحيات ضيقة تطبيقاً لمبدأ استمرارية سير المرافق العامة ولا يمكن دستورياً كفّ يدها عن ذلك الاَّ بعد صدور مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة والذي يرافقه بالتوازي مرسوم اعلان اعتبارها مستقيلة والذي يفقدها سند وجودها الدستوري كحكومة تصريف اعمال ويصبح بالتالي محظراً عليها منذ تلك اللحظة من الشروع بأيّ عمل مهما كانت ماهيتهُ ونوعهُ ولو على سبيل تصريف الأعمال لعلّة نشأة وولادة حكومة جديدة تكون قبل منحها الثقة بمثابة حكومة تصريف أعمال والتي تُعتَبَر كذلك الأمر أيضاً في حالة عدم التقدُّم ببيانها الوزاري ضمن المهلة الدستورية أو لحجب الثقة عنها بالجلسة التشريعية المُخصصة لهذا الأمر لكونها تُصبح في هذه الحالة بمثابة الحكومة المُعتَبَرة بحكم المستقيلة. مع الإشارة، بأن ما يُبرِّر كفّ يد الحكومة المستقيلة عن متابعة تصريف الأعمال بمجرد صدور مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة هو للحؤول دون وجود حكومتين برئيسيّن في الدولة: سابقة أصبحت مستقيلة لاستقالة رئيسها أو لتوافر أحد حالات اعتبارها مستقيلة سنداً للمادة 69 من الدستور وجديدة أصبحت قائمة لتوافر مرسوم تشكيلها سنداً للمادة 64 من الدستور ولكن  لها قبل منحها الثقة النيابية ذات قيمة الحكومة المستقيلة من الناحية الدستورية طالما لا تسطيع مزاولة صلاحیاتها إلاَّ بالمعنى الضیِّق لتصریف الأعمال على ما نصّت عليه المادة المذكورة في البند رقم )2( منها ؛ بمعنى أنها  تُعتَبَر قبل حصولها على هذه الثقة بمثابة حكومة تصريف أعمال ذات الصلاحيات الناقصة الى أن تنال الشرعية البرلمانية من ممثلي الأمّة والتي تستمدها من ثقتهم في جلسة مُخصصة لهذه الغاية، لتنقلب حينئذٍ الى حكومة عادية بكامل الصلاحيات الدستورية.

أمّا في حال لم تنل هذه الثقة -ولأي سبب كان- استمرت بالصفة التي هي عليها كحكومة تصريف أعمال الى حين تشكيل نظيراً لها بناءً على عملية دستورية جديدة في هذا الشأن.

نخلص الى القول، بأن عملية تشكيل الحكومة تبدأ بمنح المجلس النيابي الثقة لرئيس الحكومة المكلَّف الذي سمَّاه أغلبية النواب والذي يعمد فورَ ذلك الى تشكيل خط اتصال وتفاهم مع رئيس الجمهورية بشأن تأليف حكومته وتنتهي بمنح المجلس النيابي الثقة لهذه الاخيرة أو بحجبها عنها، بما يعني أن تأليفها وتشكيلها يمر عبرَ ثلاثة مراحل دستورية:

المرحلة الأولى: هي مرحلة تكليف رئيس الحكومة والتي تجري بناءً لاستشارات نيابية مُلزمة يدعو اليها رئيس الدولة وتنتهي في هذه المرحلة مهمَّة نواب الأمة بإبداء خياراتهم بتسمية المرشَّح لتولي رئاسة الحكومة والتي سيتمخض عنها بالنتيجة تسمية الشخص الذي نالَ أكثرية أصوات أعضاء المجلس النيابي احتراماً لإرادة الأكثرية وشريطة أن يكون اختياره منسجماً مع الميثاقية التي كرّسها الدستور احتراماً لها طالما لم تُلغَ بعد الطائفية السياسية.

§المرحلة الثانية: هي مرحلة تأليف الحكومة والتي تجري بناءً على اتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلَّف دون أن يكون فيها للنواب أي دور أساسي محوري سوى ابداء الاستشارة والنصيحة للرئيس المكلَّف بعد تواصلهِ مع الكتل النيابية المختلفة لاطلِّاعهِ على آرائها والاستماع الى مطالبها لكي يتمكن من التوفيق بين مطالب هذه الكتل في بيان حكومته الوزاري الذي من المفترض أن يتم أخذها بعين الاعتبار دون التقيُّد بتفاصيلها وذلك بعد التباحث بشأنها مع رئيس الجمهورية الذي يُصدِر في نهاية المطاف مرسوم تشكيلها ويوقِّع عليه مع رئيسها.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة منح الشرعية البرلمانية للحكومة المُؤلَّفة والتي تجري بناءً على جلسة مُخصَّصة لذلك في مجلس النواب تكون لهُ فيها الكلمة الفصل في إعطاء الثقة للحكومة أو حجبها عنها، وبالتالي تقرير مصيرها بعد مناقشة بيانها الوزاري.

 

 

 

الكاتب: 
د.هيثم عزو
التاريخ: 
الأحد, أبريل 11, 2021
ملخص: 
الحكومة المستقيلة السابقة تواظب على القيام بوظائفها في تصريف الأعمال بصلاحيات ضيقة تطبيقاً لمبدأ استمرارية سير المرافق العامة ولا يمكن دستورياً كفّ يدها عن ذلك الاَّ بعد صدور مرسوم تشكيل الحكومة الجديدة