الفدرالية، اللامركزية والتقسيم
في كلّ مرّة توشك الدولة فيها على الإنهيار وانسداد الأفق أمامها، يصار الى طرح المشاريع الهادفة إلى تغيير جوهري في النظام القائم ما يثبت عقم النظام وعدم قابليته للحياة بعد الآن.
فالتجارب كفيلة بإعطائنا درسًا مفاده أن الهروب الدائم إلى الأمام سيجّرنا إلى حروب باهظة الأثمان وهذا ما تكرّس عشرات المرات في لبنان. وفي خضمّ هذه المشاريع المطروحة، طغت وبشكل واضح ثلاثة طروحات أساسية إمّا علنًا على صعيد وطني، وإمّا في الغرف الطائفيّة وحتى المذهبيّة المغلقة.
أمّا الأكثر تداولًا بين هذه المشاريع، اللامركزية الموسّعة، إدارية كانت أم بشكلها الأوسع والأشمل، ويأتي هذا الطرح في السياق الطبيعي والدستوري لما لم يُنفّذ في إتفاق الطائف.
أمّا الطرح الثاني فهو الفدرالية وأصبح في الفترة الاخيرة يُطرح بشكل علني بعد أن كان يُهمس إليه في السرّ.
وفي السنوات الأخيرة تقدم التداول بما لا يقّل عن ثلاثة مشاريع فدرالية جدّياً وكان آخرها للحزب الفدرالي (صاحب الطرح إياد البستاني) بعد المانيفستو الذي طرحه اللقاء الدائم للفدرالية (ألفرد رياشي)، وقبلهما كان متداولًا وعلى نطاق ضيّق مشروع أعدّه وقدّمه أنطوان نجم.
أما المشروع الثالث فهو "التقسيم" ويبقى كـ "ردّة فعل" أكثر منه المشروع الجدّي الذي، وللأسف، يلقى في أيّامنا تأييدًا واسعًا وإن بصورة غير علنية.
فعلى الرغم من الشوائب والثغرات التي اعترت إتفاق الطائف، يُسجّل له عدد لا يستهان به من الإيجابيات، وإن بقي معظمها حبراً على ورق؛ فبالإضافة إلى وقف الحرب المدمّرة، أرسى إتفاق الطائف نهائية الكيان اللبناني الى جانب مبدأ وقف العدّ وتثبيت المناصفة والحفاظ على الحدّ الأدنى من الصلاحيات لرئيس الجمهورية وبعض المواقع المهمة والأساسية التي تؤمّن للمسيحيين شراكة فعلية ... إنما أهمّ ما طُرح وإتّفق عليه في "الطائف" هو إعتماد اللامركزية الموسّعة كمطلب قديم جديد؛ غير أن ما طُرح في الطائف يبقى ناقصاً في ظل تناقض خطير يتجّلى في ذِكر اللامركزية مرّة واحدة وفي بند "يتيم" فيما تأتي جميع البنود الاخرى على ذكر "الدولة المركزية القوية". والأمر الآخر هو تعيين رؤساء الوحدات الإدارية من قبل الدولة المركزية ما يفقد المشروع جوهره.
إن طرح اللامركزية في إتفاق الطائف جعل منه مشروعًا قابلًا للحياة وللتنفيذ أيضاً، والدليل على ذلك تشكيل لجنة في عهد الرئيس ميشال سليمان برئاسة الوزير زياد بارود قامت بإعداد دراسة شاملة عن اللاّمركزية وأوجدت حلولاً للتناقضات التي ذُكرت في إتفاق الطائف وقد اعتمدها حزب الكتائب اللبنانية كما هي، ومن دون أي تعديل، وصولا الى تبنّيها وتقديمها كمشروع قانون الى المجلس النيابي.
ومنذ ذلك الحين خضع المشروع للمناقشة في اللجان النيابية على مدى أكثر من 200 ساعة في حضور ومشاركة من أحزاب المجلس كلها مع مفارقة إيجابيّة أن حزب الله قد شارك في المناقشات وكان "متفاعلاً" أكثر منه "متفرّجاً" والأمر نفسه ينطبق على تيار المستقبل وهذه الواقعة إن دلّت على شيء فعلى الحظوظ العالية جدًا لإقرار هذا المشروع.
ولكن السؤال الأهم، هل الأزمة الحالية وسابقاتها هي نتيجة سوء الإدارة والإنماء غير المتوازن؟ وهل سبب الصراعات المتكررة، كيفيّة توزيع الأموال والضرائب؟ وهل اللامركزية "الإدارية"، وإن كانت موسّعة، يمكنها حلّ معضلة النظام اللبناني المرتكز على التوافق بين جماعات، طوائف ومذاهب، متمايزة، تتطوّر ذاتيًّا في معزل عن بعضها البعض؟ فيجب ألا يغيب عن بال أحد أن الطوائف وُجدت قبل الدولة والنظام، وهي علّة وجود هذه الدولة. فلطالما كانت الدولة المصلحة المشتركة بينهما والنظام شبكة العلاقات والتنظيمات المتداولة لتأمين هذه المصلحة... والدليل على ذلك أن كلّ الحروب والأزمات التي عايشها لبنان المعاصر لم يكن يوما سببها إجتماعي، طبقي أو إنمائي إنما صراع الهويّات المجتمعّية والخيارات السياسية والهواجس الوجودية... وعليه فإن طرح اللامركزية الموسعة الموجود في مجلس النواب، ومع كل إيجابياته، لا يشكّل حلًّا للمعضلة اللبنانية ويمكن تصنيفه ضمن تكتيك الهروب إلى الأمام الذي لطالما إعتُمد في السياسة اللبنانية أي "علّ لّبناني"... فهذا القانون أسقط حقّ الوحدات الإدارية المنبثقة عنه في التشريع حتى أنه حرمها من حقها بالتشريع وفق هامش لا يتعارض مع القانون العام، وهو لو أعطي لها لأفضى خصوصية لكل وحدة تنعكس ارتياحًا ضمن نطاقها فتتلاءم مع متطلبات وهواجس ونمط الحياة الخاص بالتابعين لها.
الأمثلة كثيرة على أهميّة إعتماد هذا الهامش من التشريع وتطويره، فحتى في أيامنا هذه وفي دولتنا المركزية، مناطق تنصّ قوانينها الخاصة وإن بشكل غير دستوري، لا بل تعمل على تطبيقها انسجاماً مع متطلبات ناسها... فكيف بالحريّ في دولة لامركزية...
ومن المشاكل الجوهرية، قانون الانتخابات؛ فتقسيمات الوحدات الإدارية، بحكم الواقع، سيطغى عليها اللون الطائفي أو المذهبي الواحد، والإنتخابات في مراحلها الأولى ستعكس الـ "هويّات المجتمعّية"... لكن وبغياب التوازن في النمو الديمغرافي وتحديداً بفعل حريّة الإنتماء إلى أي من الوحدات الإدارية المنوي إنشاؤها وغياب تشريع ينظّم أو يمنع عمليات الإنتقال الواسعة من وحدة إلى أخرى، فالمناطق ذات اللون الغالب ستخسر ميزتها وهويّتها وتذهب من جديد إلى صراعات المذاهب والطوائف والصلاحيات والهواجس المجتمعيّة لكن هذه المرة داخل الوحدة الإدارية بدل أن تكون على صعيد الوطن كما هي الحال اليوم.
وفي دراسة أوّلية، فإن اللامركزية المطروحة ستؤدي إلى خسارة التمثيل الصحيح لـ 305 قرية مسيحيّة، أي ما يعادل %40 من مجموع القرى المسيحية، وخسارة دوائر بأكملها كـ "بعبدا" (ويمثّل المسيحيّيون فيها %51) و زحلة (حيث يمثّل المسيحيّيون فيها % 55) في المستقبل القريب جداً؛ كما أن %57 من المسيحيين لن ينخرطوا ضمن الدوائر التابعة للمسيحييّن إدارياً.
وأمام كل ما طرح، فإنّ أي مشروع لامركزية إدارية موسّعة لا يعطي هامشاً من التشريع الخاص وصلاحيات مالية واسعة لوحداته، أي بمعنى أوضح إن أي مشروع لامركزية موسّعة لا يتطّور إلى ما هو أكثر من إدارية وأقلّ من سياسية، لن يشكّل حلّاً وهو إضاعة فرصة إضافية لتغيير جذري لنظام لطالما إنتظره اللبنانيون.
وبالإنتقال إلى طرح الفدرالية، فإنه من حيث المبدأ يمكن أن يتلاءم مع تركيبة لبنان أكثر من غيره. فبالمطلق، الفدرالية يمكن أن تكون حلاً للمعضلة اللبنانية ولكن يبقى ذلك في النظري وفي المطلق.... فلا يخفى على أحد أن أصحاب هذا الطرح يضعون كامل طاقاتهم من أجل تثبيت "أحقيّة طرح الفدرالية " ولم يرتقوا إلى إمكانية مناقشة جدّية وبنّاءة للمشروع مع الآخرين وهذا الأمر بدا واضحاً في حلقة "صار الوقت" التي لم يتوقف فيها الإعلامي مارسيل غانم عن الدفاع عن " أحقيّة طرح الموضوع ."
أضف إلى ذلك أنه إذا كانت الأحزاب المسيحية الأساسية غير موافقة على المشروع وليست مستعدة لتبنّيه، فكيف سيكون الحال مع الشريك الآخر؟ فالقوات، حتى الآن، لا تقبل بمناقشة المشروع وحزب الكتائب الذي قدّم مشروع اللامركزية متمسك به أما التيار الوطني الحر فلم يظهر أي جديّة في تبنّيه (غير بعض الفقّعات الإعلامية لبعض مسؤوليه وفي ظروف خاصة). فإذاً يمكن إستخلاص مدى صعوبة طرح هذا المشروع وتسويقه واستحالة تبنّيه أو حتى طرحه في مجلس النواب كي يتحوّل إلى دستور.
ومن حقنا أن نسأل، هل من كتلة ستقتنع وتملك الجرأة الكافية لتقديمه إلى المجلس النيابي؟
فإذا كان الجواب كلا، فما الطريقة أو الوسيلة التي يتصوّرها أو يقترحها المدافعون عن هذا الطرح ؟ فمن هنا، خوفنا مشروع من أن تكون معركة طرح الفدرالية خاسرة ويسبقنا القطار في خضم متغيّرات إقليمية متسارعة وكثرة المشاريع المطروحة لشرق أوسط جديد، خصوصاً وأن هذا الطرح لا يحظى بأي غطاء إقليمي أو دولي ولا بإجماع وطني بحده الأدنى. فالخوف هو من الغرق في مناقشة طرح مثالي غير قابل للتنفيذ.
وفي دراسة أوّلية لمشروع الحزب الفدرالي مثلًا، يمكن إستخلاص أربع ملاحظات أساسية:
أولاً: إن المشروع المقترح مبني على نظام التوافق بـ "الإجماع المطلق" وأيّ معارضة أو مقاطعة من أحد ممثلي الكانتونات الأربعة يؤدي حكماً إلى عدم اتخاذ أي قرار.
فعلى سبيل المثال، السياسة الخارجية والتصويت في الحكومة الفدرالية كما قرارات المصرف المركزي يجب أن تؤخذ بإجماع 4 ممثلي كانتونات من أصل 4 مما يعني أنه نظام "التعطيل الدائم" وإستحالة الإتفاق على أي من الأمور الأساسيّة .
فإن التجربة منذ سنة 2005 وحتى اليوم، وبنظام أقلّ تعقيدًا بكثير، أوصلتنا إلى فراغٍ مطلق في الدولة بمعدل يزيد عن 50% من الوقت، فكيف الحال مع النظام المطروح؟
ثانياً: ومن ناحية أخرى يطرح المشروع مغادرة الدولة الفدرالية جميع المحافل الدولية (الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية...)، ولا علاقة لذلك بالحياد بل بانقطاع وعزلة عن العالم إذ إن أياً من الدول المحايدة في العالم لم تغادر المحافل الدوليّة بل على عكس ذلك فإن سويسرا عادت وإنضّمت إلى الأمم المتحدة سنة 2002 لتنتهي بذلك فترة الحياد المطلق. فالمطلوب هو حياد فعّال وليس العزلة والإنقطاع عن العالم.
ثالثاً: يفرض المشروع أن يكون حق الإنتساب الكانتوني على أساس طائفي ومذهبي صرف لا حسب النفوس أو الإنتماء الجغرافي. فلا يحق لشخص وُلد وتربّى في منطقة من غير مذهبه أن ينتسب إليها حتى إختياريًا. فمثلاً إبن مدينة جبيل الشيعي سيتبع الكانتون الشيعي في البقاع أو الجنوب، وإبن برمانا الدرزي مفروض عليه أن يتبع الكانتون الدرزي في الشوف وعاليه. إنها عملية فرز طائفي ومذهبي مفروضة من دون أي حرّية للمواطن في الاختيار!!!
ومن الأمور غير العملية والمنطقية، أنه وضمن البلديات حيث تغيب الأكثرية الواضحة فيها، تخضع البلدية للتقسيم وفق الحي ويكون كل حيّ منتسب الى كانتون .
أمّا رابعاً، والأخطر في هذا المشروع، فهي الأسباب الموجبة للإنفصال والاستقلالية، أي التقسيم، فهي سهلة الحصول وطريقها معبّدة (عن قصد أو عن غير قصد!!!). فأمام أول إختلاف أو مقاطعة لأيّ من الكانتونات الأربعة (كما يحصل في لبنان كل يوم) نذهب إلى الإنفصال.
فمثلاً، إذا رفض إثنان من أصل أربعة أعضاء في الحكومة الفدرالية، المشاركة في جلسة أو أكثر من جلسات الحكومة، نكون أمام الخيار الدستوري والوحيد المُتاح وهو إنفراط إنعقاد الفدرالية وبتجربتنا هو مشروع تقسيم وحرب... ناهيك عن ان القانون الكانتوني أقوى من القانون الفدرالي ممّا قد يؤّدي إلى الكثير من الإشكاليات وإلى تغيير في جوهر الإتفاق. بالإضافة الى ألغام واضحة في مسألة "التجنيس" ومعالجته كما في موضوع القانون الضريبي والمعاهدات التجارية والجمارك.
أما الطرح الثالث الذي يطلّ علينا بين حين وآخر فهو طرح التقسيم والمُعبّر عنه بالعاميّة "نقسّم ونخلص بقى"...
إن أصحاب هذا الطرح يفتقرون إلى الحد الأدنى من القراءة التاريخية والثقافة السياسة وإلى قصر نظر قلّ نظيره. وللأسف إن من يؤيّد هذا الطرح هم من المسيحيين إجمالاً ومن مسيحيي جبل لبنان بشكل خاص وينطلقون من مبدأ حماية الوجود المسيحي والحفاظ عليه من الغول الديموغرافي. ولكن ألم يسأل هؤلاء عن خريطة انتشار المسيحيين على امتداد الجغرافية اللبنانية؟ وماذا نفعل بالمسيحيين من خارج جبل لبنان؟
ففي دراسة سريعة عن توزّع المسيحيين في لبنان، يظهر انه اذا وضعنا بيروت جانباً لأنها العاصمة، يشكل مسيحيو جبل لبنان ( جبيل – كسروان – المتن – بعبدا – الشوف وعاليه) %40 والمسيحيين من خارج جبل لبنان %47!!! أكثر من ذلك، إذا أخذنا جبل لبنان وأضفنا الأقضية المتّصلة كالبترون وزغرتا وبشري والكورة وجزين وزحلة، يظهر أن ثلث المسيحيين هم من مسيحيي الأطراف!!! فلأصحاب هذه النظريّة الإنتحارّية، ما مصير هؤلاء؟ أمُستعد صاحب هذا الطرح أن يتقاسم أرضه وأملاكه مع الآتي من خارج جبل لبنان قبل أن يُهلل لهكذا طرح؟
ففي قبرص مثلاً، تمّت عملية تبادل بين المسيحيين والمسلمين عند تقسيم الجزيرة لأن الجغرافيا كانت تسمح بذلك، أما في طرح التقسيم في لبنان، فإنه مشروع لتقوقع المسيحيين المنتشرين أصلاً على كامل الاراضي اللبنانية، وحصرهم ببقعة جغرافية أصغر بكثير، اي "ترانسفار" بإتجاه واحد من دون أي مكسب في المقابل أو حلول أو إقتراحات عملية لهذه المجاذفة الفاشلة. إنه إذاً طرح اليأس وردة الفعل والأنانية.
وفي الخلاصة، أمام المشروعين اللّذين يشّكلان طرحين مقبولين منطقيّاً وعمليّاً، كون التقسيم من غير المقبول الإستمرار في طرحه، يبقى الحياد الفعّال مدخلاً إلزامياً لأي منهما وحتى لأي حلّ آخر من الممكن طرحه لاحقاً.
أما لأصحاب كل هذه المشاريع والذين أعرف معظمهم بالشخصي وأشهد على حسن نواياهم التوّاقة إلى إيجاد حلّ لمستقبل لبنان، فمن أجل مستقبلنا ومستقبل أولادنا، وحّدوا جهودكم وتعاهدوا على إعتماد المشروع الذي له الحظوظ الأوفر في إعتماده وتطبيقه ولا تتمسّكوا بمشروعٍ معيّن كآخر الخيارات.
فإذا لم يستطع أحدكم تحقيق الفدرالية، بعد تعديل الكثير من بنودها المطروحة، فلنسعى لتطوير اللامركزية وخوض معركة تحويلها الى مشروع مستقبلي قريب من نظرتنا وتطلعاتنا. ولكن الأهم عدم إضاعة فرصة التغيير الجذري لهذا النظام السياسي الذي أعلن موته بنفسه.
وكما قال :John Kenneth Galbraith " إن السياسة ليست فقط فّن الممكن والمُتاح، بل إنها تتعلّق بالإختيار بين الكارثي والكريه."