حوارات ورئاسات وسياسيون تحت ظلال الأزمات والحروب اللبنانية (2/2)
مع إطلالة ثمانينيات القرن الماضي كانت بوصلة التطورات اللبنانية تؤشر نحو مزيد من الانقسام جرت محاولات لوقف التدهور كان أبرزها مؤتمر بيت الدين في تموز 1981 والذي عقد برعاية عربية تمثلت بحضور ورعاية عربية سعودية، سورية وكويتية، وقدمت الى المؤتمر وثيقة من الرئيسين إلياس سركيس وشفيق الوزان تمثل البرنامج السياسي لحل الازمة اللبنانية وبرنامج زمني لتأهيل الجيش اللبناني، كما تضمنت هذه الوثيقة الإجراءات الضرورية لخلق المناخ الملائم لتنفيذ البرنامج السياسي وبرنامج تأهيل الجيش، لكنها لم تفلح.
ما أن أطلّ عام 1982، حتى كان لبنان قد أصبح على خط الزلزال، الذي توّج في مطلع شهر حزيران بالاجتياح الإسرائيلي وفي 23 آب تم انتخاب بشير الجميل في المدرسة الحربية في الفياضية، لكنه اغتيل قبل عشرة أيام من تسلّمه سلطاته الدستورية، لكن سرعان ما تم الاتفاق على النائب أمين الجميّل كمرشح بديل فتمّ انتخابه في 8 أيلول، بعد أن كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اندفعت ليل 14 - 15 أيلول إلى بيروت الغربية وارتكبت مجازر صبرا وشاتيلا. في 28 كانون الأول، وبعد مضي 96 يوماً على تسلم الرئيس أمين الجميل مهامه الدستورية وقيامه بتحرك واسع كان أبرزه زيارته الى الولايات المتحدة الأميركية واجتماعه مع الرئيس رونالد ريغن، بدأت المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية برعاية أميركية في خلدة ونتانيا. وبعد 35 جولة من المفاوضات تدخّل وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز فكان اتفاق «السلام» المزعوم بين لبنان وإسرائيل فأقرّه مجلس الوزراء اللبناني في 14 أيار 1983 وفي 16 أيار أقرّه مجلس النواب بأكثرية 80 نائباً ومعارضة النائبين نجاح واكيم وزاهر الخطيب، وفي اليوم نفسه، أقرّه الكنيست الإسرائيلي بأكثرية 75 صوتاً وامتناع 45 ومعارضة 6، وفي 17 أيار وقع رؤساء الوفود اللبناني والإسرائيلي والأميركي الاتفاق باللغات الثلاث: العربية والعبرية والانكليزية.
منذ ذلك التاريخ بدأت المتاعب الفعلية واندلعت حرب الجبل التي شهدت أوسع عملية تدمير وتهجير، وعلى الأثر تحركت المبادرات الخارجية لوقف القتال وكان أبرزها المبادرة السعودية التي أوفدت الأمير بندر بن سلطان الذي عمل مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري من أجل وضع حد لهذا القتال المدمر، فأمكن التوصل الى وقف لإطلاق النار بعد إعلان من دمشق في 12 أيلول. وفي حين كان الأمير بندر والرئيس رفيق الحريري يقودان المفاوضات مع دمشق، رفعت حكومة الرئيس الجميل شكوى الى مجلس الأمن، وأعلنت واشنطن تعزيز اسطولها في المياه الاقليمية اللبنانية. في 26 أيلول قدم الرئيس شفيق الوزان استقالة حكومته، وفي الوقت الذي أعلن فيه وليد جنبلاط من دمشق نص وقف إطلاق النار في حضور وزير الخارجية عبد الحليم خدام والأمير بندر. في ظل هذه التطورات والحملات الإعلامية بين جبهة الخلاص الوطني وحركة «أمل» من جهة وبين الحكم في لبنان من جهة ثانية. وفي ظل تبادل واشنطن ودمشق الاتهامات، وقع في 22 تشرين الأول تفجير مجموعتين انتحاريتين مقر قيادة المارينز الاميركية، ومبنى فرقة المظليين الفرنسي، أسفرت عن سقوط مئات القتلى والجرحى من الجنود الاميركيين والفرنسيين.
حوار عند بحيرة ليمان
وهنا اتضح أمام الرئيس الجميل أنه لا مناص من بدء مسيرة الحوار التي دعت إليها السعودية، فاتصل بالرئيس حافظ الأسد وبالملك فهد بن عبد العزيز موجهاً إليهما الدعوة لحضور مؤتمر الحوار الوطني في جنيف الذي تقرر عقد أول اجتماعاته يوم 31 تشرين الأول بمشاركة: الرئيس أمين الجميل، كميل شمعون، سليمان فرنجية، عادل عسيران، صائب سلام، رشيد كرامي، بيار الجميل، نبيه بري، ووليد جنبلاط، وبمراقبة وفد سعودي برئاسة وزير الدولة السعودي محمد إبراهيم مسعود، وقوامه السفير السعودي في بيروت احمد الكحيمي، ووفد سوري قوامه وزير الخارجية عبد الحليم خدام، بالإضافة الى رفيق الحريري. تركز البحث خلال المؤتمر على إلغاء اتفاقية 17 أيار كشرط لإنجاح الحوار اللبناني - اللبناني، لكن الرئيس أمين الجميل رأى أنه لا بديل عن الاتفاق بالنسبة الى لبنان في ظل الاوضاع الاقليمية والدولية السائدة. وبعد ثلاثة أيام أنهى المؤتمر أعماله بالاتفاق على هوية لبنان العربية وبفشل الاتفاق على إلغاء 17 أيار ودعا البيان الختامي للمؤتمرين إلى الاستمرار في السعي لإنهاء الاحتلال الاسرائيلي، كما تقرر عقد الجلسة الثانية من الحوار في 14 تشرين الثاني، لكن الحلقة الثانية من هذا الحوار لم تعقد، فاستمرت الأوضاع الداخلية بالتصعيد فحدثت انتفاضة 6 شباط عام 1984 التي اخرجت الجيش اللبناني من مواقعه في بيروت الغربية والضاحية، وعلى الأثر أعلن الرئيس الأميركي رونالد ريغن سحب وحدات المارينز وانسحبت وراءها الوحدات المتعددة الجنسيات. وفي 5 آذار، عقد مجلس الوزراء جلسة تقرر بموجبها إلغاء اتفاق 17 أيار واعتباره باطلاً وكأنه لم يكن، وبهذا الإلغاء أصبح الطريق مفتوحاً أمام جولة جديدة من الحوار الوطني والتي عقدت في 14 آذار 1984 في لوزان، حيث ركز المؤتمرون على وقف إطلاق نار فعلي وثابت وتأليف حكومة اتحاد وطني، وبعد بحث دام اسبوعاً لم يستطع المؤتمرون التوصل الى صيغة للإصلاح السياسي. وكل ما اتفق عليه كان تشكيل لجنة أمنية عليا برئاسة رئيس الجمهورية أنيط بها تنفيذ خطة امنية لإقامة بيروت الكبرى وتشكيل هيئة تأسيسية لوضع مشروع دستور جديد للبلاد.
في منتصف شهر نيسان 1984، وبعد زيارة الرئيس أمين الجميل الى دمشق اتفق على تشكيل حكومة وحدة وطنية، فكانت هذه الحكومة برئاسة الرئيس الشهيد رشيد كرامي وعضوية كل من: كميل شمعون، عادل عسيران، سليم الحص، نبيه بري، وليد جنبلاط، بيار الجميل، جوزف سكاف، عبد الله الراسي، وفيكتور قصير. تعثرت انطلاقة الحكومة منذ بدايتها، ما أضطر الرئيسين الجميل وكرامي الى الاستعانة بدمشق التي وافقت على ان تقوم بدور المرجعية، فمالت الامور نحو الحلحلة، وتقرر في 22 حزيران 1984 تعيين قائد جديد للجيش هو الجنرال ميشال عون، بدلاً من العماد ابراهيم طنوس، كما تقرر فتح مطار بيروت الدولي بعد توقف دام نحو 160 يوماً.
أطلّ العام 1988 وسط انقسام حاد على مستوى لبنان، وانتهت المهلة الدستورية لانتخاب رئيس جديد للجمهورية في أيلول، وفي الدقائق الأخيرة من عهده، شكل الرئيس الجميل حكومة عسكرية برئاسة العماد عون، تاركاً «الوضع في ظل حكومتين» لتشهد البلاد مزيداً من الانقسامات والشرذمة، لم تفلح كل المحاولات لرأبها وكان أبرزها المحاولة العربية التي دعت رئيسي الحكومتين سليم الحص وميشال عون الى تونس، لكنها لم تتوصل الى نتيجة عملية، وفشلت اللقاءات والمبادرات الحوارية للوصول الى حل وكان ابرزها في 17 آذار 1989، حيث عقد لقاء في بكركي ضم حشداً كبيراً من النواب والسياسيين..إلى أن جاء الحل المنتظر من العرب، ففي 23 آذار 1989 عقد مؤتمر القمة العربية غير العادية في الدار البيضاء، وكان واضحاً من انعقاد هذا المؤتمر ان قرار إنهاء الأزمة اللبنانية قد اتخذ ووجب اقفال ملفها نهائياً، وجاء في مقررات القمة انه تقرر تشكيل لجنة عربية ثلاثية من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز والملك المغربي الحسن الثاني، والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد مهمتها مساعدة لبنان على الخروج من أزمته وإنهاء معاناته الطويلة، وإعادة الاوضاع الطبيعية إليه وتحقيق الوفاق الوطني بين أبنائه ومساعدة الشرعية اللبنانية القائمة على الوفاق وتعزيز جهود الدولة اللبنانية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وبسط سلطة الدولة اللبنانية كاملة على جميع التراب اللبناني بهدف حماية أمتها واستقرارها بنوابها وسلطتها الفعلية ومؤسساتها المركزية على كامل التراب اللبناني، تمهيداً لإعادة إعمار لبنان وتمكينه من استئناف دوره الطبيعي ضمن الاسرة العربية. وهكذا باشرت اللجنة العربية عملها وأوفدت الأخضر الإبراهيمي لبدء المساعي والاتصالات مع كل اطراف الازمة اللبنانية، فأصدرت في مطلع شهر ايلول 1989 قرارات بدعوة النواب اللبنانيين الى الاجتماع في الطائف في الثلاثين من شهر أيلول 1989، بعد أن أعلنت وقفاً لإطلاق النار ورفع الحصار البحري المتبادل وفتح مطار بيروت الدولي والإشراف على وقف إطلاق النار. وفي 17 أيلول وصل الإبراهيمي وبدأ مساعيه، وكان مؤتمر الطائف الذي أنتج وثيقة الوفاق الوطني.