«ميثاق الاعتدال» و«إعلان بعبدا» في الحوار والانتخابات الرئاسية

النوع: 

 

أولا- في الحديث عن «اعلان بعبدا» يتبارى السياسيون والمحللون في تاييده أو تهشيمه، بعضهم بموضوعية وطنية وآخرون لأهداف ضيقة..ولكن على قادة رأي أن يدركوا ان «الحوار» و«فكر بناء الدولة» هما عاملان اساسيان لوقف الانهيار وايجاد مسارات تطبيق اتفاق الطائف وثوابته الوطنية.

  في سياق منهجية البحث العلمي لـ «فكر الدولة» نقول: ان سلبيات عدم تطبيق البنود الـ ١٦ من اعلان بعبدا هي بأهمية الايجابيات الافتراضية لتطبيق بند «التحييد»،أب الأزمات الداخلية وأم المعارك.. إن عدم صناعة ارضية صلبة لبناء الدولة كما خططت له البنود الـ ١٦ الأخرى هو جريمة كبرى بحق الوطن:

لا نلتزم نهج الحوار والتهدئة ونطبق ثوابت الطائف الا بعد التحييد؟ لماذ؟

لا نلتزم الخطاب السياسي المعتدل ونبذ التحريض الطائفي-المذهبي ونحترم الحريات الا بعد التحييد؟ لماذ؟

لا نكافح الفساد ونعمل للعدالة الاجتماعية الا بعد التحييد؟ لماذ؟

لا نعتمد استراتيجية الأمن القومي اللبناني 2020 التي أكّد عليها ميثاق الاعتدال 2021 والتصدّى للمهددات الخارجية والداخلية الا بعد التحييد؟لماذ؟

لا نعمل على تثبيت السلم الأهلي الا بعد التحييد؟ لماذا؟

لا نؤكد - قولا وفعلا - على اعتبار مؤسسات الدولة هي مرجعية وحيدة للمواطن الا بعد التحييد؟ لماذا؟

لا ندعم الجيش والقضاء - ضمانتا بقاء الدولة - والخطط الاقتصادية الانمائية الا بعد التحييد؟ لماذا؟

لا نلتزم تنفيذ اتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية الا بعد التحييد؟ لماذا؟

لا نعمل على ترسيم الحدود وضبطها تحت كنف الدولة الا بعد التحييد؟ لماذا؟

  لا نبدأ ببناء ثقافة تربوية وطنية واحدة وقيم المواطنة الا بعد التحييد؟ لماذا؟

لا ننبذ العنف وخطاب الكراهية الا بعد التحييد؟لماذا؟

لا نستمع الى مطالب الناس المحقة في «انتفاضة العدالة ٢٠١٩» الا بعد التحييد؟ لماذا؟

أين «فكر الدولة» والعبور اليها من كل هذه اللاءات؟ بل ان هذا الأمر هو شرخ كبير هائل نخشى - وبعضنا يؤكّد - أن يكون مقصودا منهجيا متعمّدا من اجل الابقاء على حكم الأمر الواقع في فديراليات حزبية طائفية مذهبية «غير مقوننة!»، تتساند وتتعاون وتتضامن وتشدّ عصب بعضها البعض «فوق الطاولة وتحتها!».

ان تنفيذ ما ذكرناه اعلاه هو الذي سيساعد في بناء «دولة العدالة والاعتدال» ذات الهوية العربية الواضحة، ثم في نشوء «فكر التحييد الايجابي» لدى الرأي العام. ولكن هل هناك تغيير دون بناء رأي عام تغييري؟ لقد أكّد كتاب «انتفاضة العدالة 2019» - الكتاب العلمي الأول والوحيد عن أحداث ما بعد 17 تشرين - ان «طوفان» المعارضين التغييريين لن يؤدي الى تغيير بنيوي دون بناء الرأي العام الوطني الحقيقي الفاعل،وهذا ما وضع رؤيته الاستراتيجية «ميثاق الإعتدال لبناء الدولة».

ثانيا - قبل ان ينبري بعض «الناسخين عن غيرهم» بالصراخ والاعتراض نقول: نحن كنا وما زلنا مع التحييد في حوار وطني هادف،وقد شاركنا في بحث رؤيته الاستراتيجية وأبعاده السيادية باستشراف واقعي منذ البدايات.ولكن في ضوء الواقع الحالي نقول:هناك ثلاث مقاربات لاعلان بعبدا وثلاثة مواقف موازية لها:خلال اعداد الاعلان،عند الموافقة عليه،وبعد التطورات المحلية والاقليمية والدولية..ان الموقف من الحياد هو موقف متحرك خاضع للحوار وليس للقوة أو المكابرة أو الاقصاء أو الارتهان أو اللغات الخشبية.

ثالثا- منذ 11 حزيران 2012 وحتى اليوم خسر لبنان ١٠ سنوات من عمر الفرصة الاستراتيجية لبناء الدولة..عقدٌ من الزمن أعاده عقودا الى الوراء. على قادة رأي ان يدركوا أنّ  «اعلان بعبدا» كان وسيبقى رؤية واقعية لـ«فكرالدولة»، ومن دونه برزت أخطار انهيارها الذي استشرفناه نحن الباحثون المستقلون. هو ليس مجرّد بيان بعد جلسة حوار مثل الجلسات السابقة، لذلك عملنا على تسميته بـ «اعلان بعبدا 2012» وليس بـ«بيان» مثل ما سبقه من بيانات حوارية وذلك للسببين التاليين :

1- تأكيد اللبننة العلمية للحوار الوطني ومقرراته الاجماعية للمرة الأولى في التاريخ اللبناني،لبننة فعلية واقعية جوهرية لا شكلية فقط بعد أن ارتبط فعل الحوار سابقا بعواصم عربية وأوروبية.

2-  توفيرمساحة حوار مشتركة ودائمة حتى على البند الخلافي الرئيسي فيه،مساحة تنطلق من مقر رأس الجمهورية اللبنانية،بعبدا،الأمر الذي يؤدي إلى نشوء مرجعية لبنانية حوارية موحّدة (بفتح الحاء) وموحدة (بكسر الحاء)،مرجعية فكرية ومكانية لبنانية صرف بعد مرحلة صدامات أهلية دموية على خلفيات «طائفية-مذهبية» نتيجة تداعيات الأزمة السورية ومشاركة أطراف لبنانية في أحداثها سياسياً وعسكرياً.

رابعا - وهنا بيت القصيد :

حيث أن هناك إجماعا لبنانيا مشهودا على «إعلان بعبدا» واعترافا «وطنيا-اقليميا- دوليا» به،

وبما أن كل الطروحات الوطنية لبناء الدولة التي ظهرت بعد ٢٠١٢ تمحورت حول مضمونه الوطني،

وحيث أن أهمية كل بند تظهر في انه يعالج عمل إحدى سلطات الدولة،

وحيث أن «مؤتمر جنيف الدولي ٢٠٢١ حول لبنان» رسم رؤية واقعية لمستقبل لبنان وصدر عنه «ميثاق الإعتدال لبناء الدولة»الذي يشكل رؤية فكرية استراتيجية لبنانية جامعة، وبالتالي: نطالب اليوم النواب - موالين ومعارضين ومستقلين وهم يستعدون الى عقد لقاءات حوارية في المجلس النيابي - بأن يكون جوهر «ميثاق الاعتدال» و«إعلان بعبدا» أساساً وشرطاً لانتخاب رئيس الجمهورية مع الالتزام الجريء والصادق بإِجراء الحوار الوطني الجدي حول بند التحييد- وهو أب الخلافات وأم المعارك - وما يتعلق به لناحية السيادة وضبط الحدود ووضع السلاح وآلية قرار السلم والحرب والابعاد التنفيذية الزمنية وتطبيق الطائف بكافة مندرجاته ، دون دفن الرؤوس في الرمال ودون التعامي عن الواقع «الاقليمي-الدولي» الحالي الضاغط حيث كان الترسيم البحري أحد مظاهره الفاقعة في ظل انهيار متفاقم للارادة الوطنية وانتحار جماعي لا مثيل له في التاريخ . مع الاشارة الى أن «إستراتيجية الأمن القومي اللبناني» التي وضعها «ميثاق الاعتدال» في «مؤتمر جنيف الدولي ٢٠٢١» وضعت مسار الحل الوطني التنفيذي الجامع لكل هذه الاشكاليات. وبالتالي يكون جوهر «الميثاق» هو «المركز» فتتلاقى وتتضامن حوله كل دوائر وشعاعات السلطة والمعارضة والمستقلين كشرطٍ لإنتخاب الرئيس اللبناني،ونحن واثقون - اذا صفت نيّات «الداخل والخارج!» - انه سيكون فوزا اجماعيا في «فكر بناء الدولة».

وفي حال وجود حساسيّات شخصية لدى بعض النواب وقادة الرأي من مسؤولين سابقين ارتبط اسمهم بحوارات سابقة - سواء لأسباب نسمعها منهم او لأنانية مفرطة - فيجب عليهم تجاوزها من أجل الوطن؛ فَمَنْ يتردد اليوم في إظهار الحقّ يكون من الأصل منافقاً غير مؤمنٍ به منذ بداياته.

خامسا - إن فكر الدولة هو الإطار الذي يخطِّط رؤيتها الاستراتيجية والعبور الى بنائها،وبالتالي نؤكد انه لم ولن يتم تجسيده في لبنان - ولا في اية دولة تعدّدية في العالم - الا عبر سبيلين:

أ- القوة والأنموذج الأمني الكلّي.

ب-الحوار المواطني وموقف الاعتدال بالتوازي مع اصلاحات بنيوية.

السبيل الاول ليس في يد صانعي «فكر الدولة» - أمثالنا - ولا يتقنون تنفيذه،ومن الصعوبة بمكان ان يكون بمقدورهم يوما تنفيذه، بل ان اكثرهم يرفض هذا السلوك العنفي التغييري.

يبقى السبيل الثاني هو المتاح من اجل بناء طويل المدى للانسان اللبناني، وهذا يتطلب عملاً وصبراً ونَفَسا طويلاً ونكران ذات وتضحيات. ولن يكون حصاد هذا السبيل الا بعد سنوات طويلة من انتهاج رؤية علمية استراتيجية عمادها «الانسان والاعتدال»، لذلك «يهرب ويتهرّب منه» كثيرون من مُدّعي الحرص على الدولة والسيادة وكيان الوطن لأنهم طامعين بمكاسب ومناصب سلطوية سريعة،أما نحن الباحثون الوطنيون فنجرؤ على القول أننا كنا وما نزال وسنبقى ننكر ذواتنا ونعمل من أجل فكر الدولة والهوية والكيان فقط.

أما حول السبيل القائل بـ«تحرير» لبنان بقرارات دولية نسأل: هل الرفّ اللبناني ينقصه قرار دولي اضافي؟ ليس من سبيل الى وقف الانهيار واستعادة الدولة الا بحوار وطني موضوعي واقعي يتم تنفيذه بنوايا صادقة وفق جوهر «ميثاق الاعتدال»،ومن الممكن أن يشهد عليه ويضمنه حضور دولي وازن ومؤثر، ولكن تبقى ارادة الداخل هي «الرطل الوازن» لأنها هي قادرة - اذا أرادت - على افشاله بدهاء قلّ نظيره ولو شهدت عليه ملائكة الأرض والسماء..كان الرئيس الفرنسي ماكرون مهذبا عندما اكتفى بالقول: «ساعدوا أنفسكم لنساعدكم!» اذ قرأت أيضا في عينيه توبيخات قاسية مهينة جارحة..نحن قلنا هذا القول قبله مرات عديدة: في الأعوام1993، 2009، 2012 ،2015 ، ثم في 2021 معلّلين هذا القول الاستشرافي بموضوعية تجريبية ورؤية علمية، ولكن للأسف «كل شي فرنجي برنجي!»،انه المرض اللبناني الجيني التّبعي الارتهاني الغادر!

بالتالي،كي نساعد أنفسنا وردّا على مقولة بعض السلطويين الحزبيين: «انتو احكوا اللي بدكم ياه ونحنا منعمل اللي بدنا ياه»- في اشارة فجّة الى فوائض القوة والسلطة والاعلام والمال لديهم - جاءت نظريتنا اللبنانية التالية: «حكم الأرض هو لمن يستطيع أن يضع أقدامه عليها»، وننصح ونقول اليوم: ضعوا جميعكم في المجلس النيابي أقدامكم على الأرض اللبنانية واحكموها جميعكم بالحوار والحقيقة والمصالحة،والخارج الذي تنتظرون سيحترم خياركم.

سادسا - جاءت «انتفاضة العدالة 2019 « في لبنان ردة فعل شعبية عامة على سياسات متراكمة أدّت الى انهيار الدولة والحريات العامة وحقوق الانسان. واكبناها في يومياتها وتفاعلنا مع أحداثها، نزلنا الى الساحات بالعلم اللبناني الى جانب المتظاهرين الطامحين الى العيش في دولة ووطن.

رصدنا حراكات ملايين المنتفضين،وثقنا بحراكاتهم، كتبنا المقالات والمواقف و«مدوّنات السلوك» لنجاحها ولكن لم يكن هناك من تقويم وتصويب للأسف. كتبنا حول كل حدث منها، حللنا الواقع السياسي في الساحات وتوقعنا سلوكيات وردّات فعل أطراف السلطة والانتفاضة والمعارضة والمبادرات التغييرية في آن معا،دوّنا مواقفنا بموضوعية مستقلة فكانت مواقف الحق والمواطنة والاعتدال والحوار من أجل فكر الدولة.

أيّدنا جوهرها دون معرفة هويات محرّكي ساحاتها وقادتها وممولّيها لأن القضية شيء والعامِل لأجْلِها شيء آخر، الأولى مقدّسة، الثاني غير مقدس، الأولى أبدية لا تُحاسَب ولا تُدان، الثاني ظرفي يحاسَب ويُدان..نحن اليوم ندين الذين صنعوا «نصف انتفاضة» فكان «نصف قبر» لها.

هذه الانتفاضة بدأت واعدة ثم أضحت مهيضة الجناح! أجهضتها أحزاب السلطة بدل الاستماع اليها فكان خطأها التاريخي .من هنا جاءت مبادرة «مؤتمر جنيف الدولي 2021 حول لبنان» ووضع «ميثاق الاعتدال لبناء الدولة « كرؤية استراتيجية لاصلاحات بنيوية وانقاذ «الدولة-الوطن».

ان المعتدلين من الشعب اللبناني - وهم الأغلبية الصامتة - يؤيدون «ميثاق الاعتدال» ويعتبرونه مساحة فكرية «حكمية» تجمع كل الأطياف حول «الحوار الصلب» دون التنازل عن القيم الانسانية وثوابت اتفاق الطائف من أجل بقاء كيان الوطن اللبناني العربي..سؤال صعب: متى وكيف ستصرخ هذه الأغلبية؟

سابعا- على أي حاكم يدعو الى الحوار الوطني ان يبدأ وينطلق من جوهر «ميثاق الإعتدال»،عندها سينجح الحوار..ولن نصدق -أقله حتى اليوم- القائلين لنا: ولَوْ نارٌ نَفَخْتَ بها أضاءَت / ولكنْ أنتَ تنفخُ في رماد.

الكاتب: 
العميد د. علي عواد
التاريخ: 
الأربعاء, ديسمبر 14, 2022
ملخص: 
ان المعتدلين من الشعب اللبناني - وهم الأغلبية الصامتة - يؤيدون «ميثاق الاعتدال» ويعتبرونه مساحة فكرية «حكمية» تجمع كل الأطياف حول «الحوار الصلب» دون التنازل عن القيم الانسانية وثوابت اتفاق الطائف من أجل بقاء كيان الوطن اللبناني العربي