مظلّة" الطائف.. تستعيد "ترويكا" الحكم

النوع: 

 

إنتهت المنازلة السياسية إلى لا غالب ولا مغلوب. ذلك هو الشعار اللبناني الذي لطالما كانت تنتهي إليه كل الحروب ـ السياسية والعسكرية ـ على مدى التاريخ.

لكن المنازلة هذه المرّة انتهت بشكل ملتبس، تماماً كما بدأت. لم تكن الظروف مهيأة، داخلياً وخارجياً، لتعديل موازين القوى بحيث تؤدّي إلى تعديل الصيغة القائمة في الحكم.

ذلك قد يعني أنه تم تعليق المنازلة، وأن ما حصل كان جولة في مواجهة طويلة نحو تغيير الصيغة القائمة منذ اتفاق الطائف ثم تعديلها عرفاً في تفاهم الدوحة.

ذلك يعني أيضاً أن التوازن الذي كان قائماً قبل التسوية الرئاسية، وفي العهود السابقة، قد استعاد توازنه. وبمعنى أدقّ، فإن القوى الرئيسة التي تشكّل أركان الحكم، اعترفت ببعضها وبدور كل منها وبحجمه وتأثيره.

كل ما حصل في هذه المرحلة لم ينجح إلا في إعادة الصيغة التي بدأت بعد اتفاق الطائف مباشرة، أي صيغة "المثالثة من فوق" والتي تم التعارف عليها تحت إسم "الترويكا" التي تضمّ رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، مع إضافة جديدة تتمثّل في تكريس عرف "شيعية" وزارة المالية وشراكتها المباشرة في السلطة التنفيذية، وفي هذا الأمر ما يوحي بتعديل في التوازنات، إنما هذا التعديل جاء على حساب رئاسة الحكومة على الرغم من أن المواجهة كانت بين رئاستي الجمهورية والمجلس النيابي وكانت رئاسة الحكومة بمنأى عنها.

صحيح أن دستور الطائف أقرّ بموقع ودور وزارة المالية، لكن تكريس عرف انتمائها المذهبي هو الجديد، بالرغم من أن الرئيس نبيه بري تحدّث مراراً عن أن هذا التكريس إنما كان متفقاً عليه في الطائف، وتم التغاضي عنه مراراً بناء لطلب من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واستمر الأمر كذلك في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي حين تولّى الوزير محمد الصفدي وزارة المالية.

في النتيجة، استعادت "الترويكا" صورتها وإن تبدّلت ألوانها وتغيّر أركانها، باستثناء الرئيس نبيه بري الذي تمرّس في ممارسة هذا الدور من هذا الموقع.

هل يعني ذلك أن الأمور استقرّت على الصيغة القديمة؟

في حسابات الحقل وحسابات البيدر، لا يبدو أن الأمور مشجّعة، خصوصاً أن التسوية لم تأت من قناعة وإنما جاءت من واقع وضرورة وتسوية مؤقتة، وذلك للاعتبارات التالية:

أولاً، إن المواجهة التي اتخذت من مرسوم الأقدمية لدورة 1994 عنواناً ظاهراً، ليست سوى واجهة لمواجهة تتعلّق بقضية يرفع لواءها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، وهي قضية استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية، سواء بالممارسة والعرف أو بالنص، مع ما يعني ذلك من محاذير محاولة تغيير الصيغة الحالية القائمة على أساس اتفاق الطائف. وهذا يعني أن الرئيس عون سيعاود الكرّة عندما تسنح الظروف لطرق باب التعديلات الدستورية التي يطالب بإجرائها لتعزيز صلاحيات الرئاسة الأولى.

ثانياً، إن هواجس الرئيس نبيه بري من المحاولات المتكرّرة لتعديل صيغة الطائف، ستدفعه لبناء متراس مرتفع لحماية موقع الشيعة في تركيبة الحكم، بل والسعي لقضم مكتسبات إضافية إذا أمكن له ذلك، وهذا ما سيبقي الحذر قائماً بين الرئاسات ـ المواقع.

ثالثاً، إن التوقّعات لنتائج الانتخابات النيابية المقبلة تفيد بحصول "التيار الوطني الحر" على أكثرية المقاعد المسيحية. و"الثنائي الشيعي" حركة "أمل" و"حزب الله" على غالبية المقاعد الشيعية. في حين أن تيار "المستقبل" لن يستطيع الحصول على غالبية المقاعد السنّية التي يتحصّن بها اليوم، وهذا ما يعني أنه لن تكون في المجلس النيابي المقبل كتلة نيابية للسنّة تستطيع إقامة التوازن مع الكتلتين المسيحية والشيعية، مما سيضعها في موقف ضعيف بمواجهة أي طرح لتعديل الدستور يأتي على حساب موقع السنّة في الصيغة التي أرساها اتفاق الطائف.

رابعاً، إن تأجيل المواجهة على تعديل ميزان التوازن في صيغة الحكم، سيكون معلّقاً إلى ما بعد الانتخابات النيابية، وستكون المحطة الأولى في هذه المواجهة فور البدء بالمشاورات لتسمية رئيس الحكومة المقبل، لأن المتوقّع هو أن يحصل اتفاق جديد بين الكتل النيابية لتسمية رئيس الحكومة المقبل، إلا إذا استمرت مفاعيل التسوية الرئاسية التي حصلت بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري.

خامساً، إن الرئيس برّي سيبقى متوجّساً من تفاهم ثنائي بين الرئيسين عون والحريري يؤدي إلى إضعاف موقعه في التوازنات، وقد كانت "حركة 29 كانون الثاني" بمثابة اعتراض على هذه الثنائية التي يخشى أن تستقوي على موقع الشيعة في الحكم، خصوصاً أن برّي يشعر أن تقاطعاً في الحسابات والمصالح قائم بين عون والحريري.

عملياً، نجح الرئيس بري، وبدعم كامل وثابت من شريكه "حزب الله"، في إعادة تثبيت ثلاثية الحكم ودور وموقع الرئاسة الثانية فيه. وبذلك يكون رئيس المجلس النيابي قد أعاد ضخ الدم في جسد "ترويكا الحكم" الذي كان يمر في مرحلة غيبوبة.

صحيح أن رئيس المجلس أراد من إحياء "الترويكا" حفظ موقع الشيعة في صيغة الحكم تحت مظلّة اتفاق الطائف، لكن الصحيح أيضاً أنه بذلك قد يكون حفظ موقع السنّة أيضاً الذي كان يتعرّض لضربات متتالية أضعفته وكادت تؤدي إلى عودته إلى ما قبل الطائف.

وإذا كانت المواجهة قد انتهت اليوم بتسوية ثلاثية بعد التسوية الثنائية، فإن "التعايش السلمي" بين الرؤساء الثلاثة قد لا يستمر طويلاً في ظل الحسابات الانتخابية التي يسعى كل منهم، فيها وعبرها، إلى قضم أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية التي تؤهله لحماية موقعه والدخول في تفاهم سياسي يكرّس شراكته في الحكم والصيغة والتوازنات.

على هذا الأساس، تبدو العلاقة بين الرؤساء الثلاثة متجهة نحو "الإنضباط" الذي يحرسه راهناً "حزب الله"، إلى أن تنتهي الانتخابات النيابية ويتحدّد حجم كل فريق بعدها، لتبدأ بعد ذلك حسابات مختلفة وتسوية جديدة.. وربما صيغة جديدة.

هل حان وقت التغيير في الصيغة؟

لم يحصل في تاريخ لبنان أن حصل تغيير في توازنات السلطة بفعل عوامل داخلية. الأكيد أن العوامل الداخلية تترك تأثيرها على أي تعديل في التوازنات، لكن الأكيد أيضاً أن العوامل الداخلية تحتاج إلى اعتراف خارجي ورعاية خارجية كي تترجم نفسها بصيغة توازنات تكون محميّة بمظلّة دولية وعربية وإقليمية.

الواضح اليوم، أنه لا توجد أي مظلّة يمكنها ان تؤمن حماية لأي تعديل في الصيغة اللبنانية، حتى ولو كانت التوازنات الداخلية قد تغيّرت لصالح فريق على حساب آخر.

والأهم، أن الفريق الأقوى في لبنان، أي "حزب الله"، والذي يستطيع أن يفرض توازنات مختلفة، يصرّ على قاعدة الشراكة، وهو ما أعلنه الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله. وهذه القاعدة اعتمدها الحزب حتى بعد التحرير في العام 2000. ثم بعد الانتصار في عدوان تموز 2006. ثم خصوصاً بعد 7 أيار 2008 الذي شكّل نهاية حقبة سياسية وبداية حقبة أخرى، ويومها التزم الحزب باتفاق الدوحة كمظلّة للشراكة السياسية. وفي العام 2011 عندما أطاح الحزب وقوى "8 آذار" بحكومة الرئيس سعد الحريري، لم يلجأ الحزب إلى الاستئثار بالحكم لإدراكه أن الحكم في لبنان لا يمكن أن يكون لفريق واحد وأنه لا بد من الشراكة.

من هنا، فإن الانشغال الإقليمي والدولي عن لبنان في هذه المرحلة، يعطّل كل مشاريع تغيير صيغة الحكم وتوازناتها، وهو ما يبقي اتفاق الطائف قاعدة لهذه التوازنات، حتى ولو أصبحت مقومات صموده ضعيفة، إلا أنه ما يزال هو الاتفاق الذي يحظى بالغطاء العربي والدولي، والذي لا يمكن تغييره إلا بغطاء آخر.

وحتى يحصل غطاء عربي وإقليمي ودولي للتغيير في صيغة التوازنات اللبنانية، سيبقى الطائف ثابتاً على قاعدة ثلاثية للحكم.. وستبقى "الترويكا" صيغة بديلة وضرورية!

الكاتب: 
خضر طالب
المصدر: 
التاريخ: 
الخميس, فبراير 8, 2018
ملخص: 
وإذا كانت المواجهة قد انتهت اليوم بتسوية ثلاثية بعد التسوية الثنائية، فإن "التعايش السلمي" بين الرؤساء الثلاثة قد لا يستمر طويلاً في ظل الحسابات الانتخابية التي يسعى كل منهم، فيها وعبرها، إلى قضم أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية التي تؤهله لحماية موقعه و