ترميم الطائف.. حتى لا يصبح "رميم"

النوع: 

 

منذ انتهاء المشاورات النيابية الملزمة التي أفضت الى تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل حكومة العهد الاولى، كما أطلق عليها الرئيس ميشال عون، كان المزاج السائد هو التزام الصمت، وعدم الاشارة سلباً أو إيجاباً نظراً لدقة المرحلة السياسية والاقتصادية التي تمر بلبنان، وايماناً بأن الوطن أضحى بحاجة ماسة الى تضافر الجهود، وإتاحة الفرصة أمام الاحزاب والتيارات من أصحاب الشأن للنزول من أعلى شجرة المطالب والشروط التعجيزية، وتقديم المصلحة الوطنية العليا على المصلحة الحزبية او الشخصية، إسهاماً في تسهيل عملية تشكيل حكومة العهد الاولى، وبدء عجلة العمل الحكومي، والانطلاق نحو معالجة حال الاهتراء السياسي والاقتصادي، والسعي الى وضع الاطر والخطط التي من شأنها تمكين لبنان من مواجهة الازمات المحدقة والمتلاحقة.

بيد أن شيئاً من هذا القبيل لم يجد طريقه لإيقاظ ضمير أهل الحل والربط في لبنان، إضافة الى بعض دول الإقليم التي لم تزل تمتلك تأثيراً على الساحة اللبنانية، وهي ترفض الإفراج عن مفتاح المدخل لتشكيل الحكومة اللبنانية على الرغم من مرور أكثر من شهرين على التكليف.

وبعد هذا الوقت الضائع، وأمام الأزمات المتلاحقة، والشعور بخطر الاستمرار في اتباع سياسة المطالب والحصص لتحقيق مكاسب طائفية أو مذهبية على حساب المكاسب الوطنية، من دون ان ننسى استمرار بعض اهل السياسة في ممارسة سياسة التبعية والاستزلام خدمة لاجندات تفرضها دول خارجية، وذلك لتأمين مصالحها الضيقة اقليمياً ودولياً على حساب المصلحة الوطنية العليا ومصلحة الشعب اللبناني الذي يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية، نتيجة الفساد المستشري في مختلف الميادين والمؤسسات، صار لا بد من وقفة مصارحة ومكاشفة، انطلاقاً من ضمير وطني خالص، بعد ان تعمد معظم المسؤولين في لبنان تعطيله وادخاله عنوة في غيبوبة.

صحيح أن أهل السلطة والاحزاب في لبنان، نجحوا في اجراء انتخابات نيابية على أساس قانون، أقل ما يقال فيه انه اعتمد مبدأ التمثيل الطائفي والمذهبي، وغيّب خطاب الانتماء والانصهار الوطني ليحل محله خطاب طائفي ومذهبي عالي النبرة، كما اختفت معه البرامج الانتخابية، فجاءت نتائجه لصالح الصوت الأعلى طائفياً ومذهبياً، اضافة الى بروز تكتلات طغى عليها الطابع الطائفي والمذهبي احتلت مقاعد المجلس النيابي، ليضمحل معها التمثيل الوطني، حيث صار النائب نائباً عن منطقة أو شارع أو زاروب، بدل ان يكون نائباً عن الامة، كما هو متعارف عليه في دستور الطائف الذي انتهكت حرمته بمجرد قبول إجراء الانتاخابات النيابية على أساس قانون لا يؤمن صحة التمثيل الوطني، وهذا ما شرّع الابواب في ارتكاب المخالفات الدستورية الفاضحة، وابتداع تشريع الحصص الوزارية  طبقاً لما افرزته نتائج الانتخابات النيابية من كتل وازنة أو نصف أو ربع وزن، وبذلك اشترك الجميع بهتك روح الدستور اللبناني وصار الدستور بحاجة ماسة الى "ترميم" بعد ان جعلوه "رميم".

لقد أضحى لبنان يواجه أزمة نظام، لأن المؤتمنين على تطبيق النظام والدستور فيه اغتصبوا الدستور وتركوه وحيداً ينازع، بعد ان فتكت به ممارسات أهل السياسة، من احزاب وتيارات سياسية، بفعل نزعتهم القائمة على مبدأ تقاسم الحصص والمغانم الطائفية والمذهبية من دون أي خجل أو وجل، ولم يتركوا للدستور أي فرصة للعودة الى الحياه مجدداً.

لقد بات الدستور اشبه بربطة عنق تستعمل في المناسبات الرسمية فقط، وطبقاً لألوان تتناسب  وألوان ثياب المسؤول.

صار الدستور اللبناني عبارة عن مادة تفسد المحاصيل الطائفية، او مظلة يستعملونها للاحتماء من أمطار مذهبية.

فبدل العمل على إلغاء الطائفية السياسية، أمعن أهل السلطة في  تعزيزها وأوغلوا في تطبيقها شر تطبيق.

لم يعد الدستور اللبناني هو الكافل والضامن لصيرورة الحكم وانتظام عمل الحكومة فيه بعد ان صارعبئاً على المسؤولين، ولأنه لا يؤمن لطوائفهم المغانم من قالب حلوى التشكيلة الحكومية.

إن خرق اتفاق الطائف الذي ارتضاه اللبنانيون دستوراً، والذي نظّم الصلاحيات بين الرئاسات، ووضع النظم المعززة للمواطنة، صار أهون من شرب الماء، فصارت لرئيس الجمهورية حصة وزارية مستقلة، وبات الرئيس يصر على تسمية شخصية تتولى منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، وصارت لتياره "السابق" حصة وزارية وازنه أسوة بباقي التيارات والاحزاب، وصارت للكتل البرلمانية الجديدة حصص وزارية، فالكل  يصر على الاشتراك في التشكيلة الحكومية الجديدة والتمثل بوزارات "وزانة" أو "سيادية"، ليس من أجل الخدمة الوطنية، بل من أجل تأمين تقاسم الغنيمة والتغطية على المشاركة بحصص الفساد.

الرئيس سعد الحريري، وهو المكلف تشكيل الحكومة، بات بين مطرقة تلبية مطالب المملكة العربية السعودية، وبين سنديانة الاستمرار بالتزام تطبيق اتفاق كان قد ابرم مع تيار رئيس الجمهورية. وبما ان الرئيس الحريري التزم بالاتفاق مع الرئيس ميشال عون دخلت المملكة العربية السعودية على خط التأليف الحكومي لفرض معادلة جديدة يكون فيها لحزب القوات اللبنانية، حليف المملكة المعتمد والاقوى في لبنان، الحصة الوازنة في التشكيلة الحكومية، واعتماد سمير جعجع كمرجع اساسي يعبر عن تطلعات السياسة السعودية في لبنان، ومحاولة ايجاد صيغة تمكنها من اعادة الحياة الى "مومياء" قوى 14 آذار، بالتكافل والتضامن مع  رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط.

لقد أضحى الرئيس الحريري في موقف ضعيف لا يحسد عليه، فهو لا يستطيع الخروج عن طوع المملكة السعودية، ولا يستطيع فرض تشكيلته الحكومية التي تلائم تطلعاته المنبثقة من الاتفاق المعلن بينه وبين رئيس الجمهورية، ولم يعد أمامه الا تشكيل حكومة من وزراء اختصاص تكنوقراط، لكن المؤكد انه سيواجه رفضاً قاطعاً من مختلف الاحزاب والتيارات الطامحة للفوز بحصص الجبنة الحكومية. كما ان الحريري سيصطدم بقوة مع التيار الوطني الحر، ما قد يهدد انفراط عقد الاتفاق بين التيار الازرق والتيار البرتقالي.

امام ما وصل اليه البلد من وضع سياسي وحكومي لا يبشر لا بالاصلاح ولا بالتغيير، وامام التعدي المتواصل على الدستور والصلاحيات، وامام مطالب الطبقة السياسية غير المستحقة، واعتماد ساكن معراب برتبة "المندوب السامي" للسعودية، وامام عناد رئيس "تكتل لبنان القوي"، وامام استمرار الارباك الذي اصاب الرئيس المكلف، هناك ضرورة للمبادرة الى مكاشفة المسؤولين ومصارحة المواطنين بفشل كل المساعي وعدم وجود اي عمل جدي من شأنه حلحلة العقد، لأن الواقع الحالي هو أكثر تعقيداً من ذي قبل، وانه ليس في الافق ما يشي بقرب الانفراج الحكومي.

لم يسمح قانون الانتخاب الاخير الذي أنتج هذه الطبقة السياسية باختيار الشرفاء والمخلصين لتمثيل اللبنانيين الذين فقدوا الثقة بهذه الطبقة السياسية. وحتى لو تشكلت الحكومة غداً، فمن المؤكد أن التشكيلة الحكومية لن تضم الا اصحاب السوابق الفاسدة والمفسدة من نجوم الشاشات والمنابر الطائفية والمذهبية، وهي ستكون حكومة عرجاء من دون انتاجية.

ان لبنان يواجه أزمة ثقة حقيقية، ناتجة عن عدم وجود مناعة داخلية مبنية على احترام وتطبيق بنود اتفاق الطائف، تحمي الجسد اللبناني، وترتكز على تقديم المصلحة الوطنية العليا ومصلحة المواطن على أي اعتبارات شخصية، أو حصص طائفية ومذهبية من شأنها تسهيل الطريق امام التدخلات الخارجية والاقليمية.

لا أمل في أي إصلاح أو أي تغيير طالما بقيت هذه العقلية العقيمة الفاسدة متحكمة بمفاصل الدولة.

أما للذين يمنّون النفس ويعملون لاحياء قوى 14 اذار، لغاية في نفس يعقوب، فإن الله وحده قادر على أن يحيي العظام وهي رميم.

الكاتب: 
رفعت البدوي
المصدر: 
التاريخ: 
الخميس, ديسمبر 12, 2019
ملخص: 
لقد أضحى لبنان يواجه أزمة نظام، لأن المؤتمنين على تطبيق النظام والدستور فيه اغتصبوا الدستور وتركوه وحيداً ينازع، بعد ان فتكت به ممارسات أهل السياسة، من احزاب وتيارات سياسية، بفعل نزعتهم القائمة على مبدأ تقاسم الحصص والمغانم الطائفية والمذهبية من دون أي خج