مؤسسة «الثلث المعطل».. في الديمقراطية اللبنانية
في لبنان وحده تكون المعادلات الحسابية غير منطقية أحيانا، فيكفي أن ننظر إلى مسألة «الثلث» الذي يوازي «الثلثين» لنعرف كيف أن الأرقام والمعادلات غير موجودة في حسابات أصحاب القرار في بناء الكيان اللبناني. وهكذا لا يجب على أي فريق سياسي أن يحظى بأكثرية الأصوات داخل البرلمان والحكومة والسلطة القضائية والسلطات الأمنية ليصبح صاحب القرار.. يكفيه أن يحصل على الثلث، فيعطل، ويجبر الآخرين على التفاوض معه للحكم الفعلي الذي يتجاوز المسائل البسيطة التي تحتاج إلى «النصف زائد واحد» من الأصوات.
لقد فرضت تركيبة لبنان الطائفية على الجميع مراعاة «الهواجس الطائفية»، فأعطت للأقلية حق التعطيل، من منطق سليم يهدف إلى عدم غلبة فريق على آخر، لكن هذا المنطق بني على أساس تقاسم الدولة بين طوائف، وهو ما يطلق عليه بعض المنظرين تعبير «كونفدرالية الطوائف» التي لم يعد معها مفهوم الديمقراطية الغربية المعروف القائم على أكثرية تحكم وأقلية تعارض، سائدا، وفي كل مرة حاول طرف نقضها تدفع التطورات المجنونة البلاد إلى حافة الهاوية.
لمن لا يعرف كيف تسير أمور الحكم في «الديمقراطية اللبنانية»، فلا بد له من أن يقرأ معنا سريعا، في تفاصيل واحدة من أعرق الديمقراطيات العربية - نظريا - وأكثرها سوءا عمليا.
في عام 1945 اجتمع ساسة لبنان، وهؤلاء ما اجتمعوا يوما على خير، وقرروا تقاسم السلطة على طريقة غير مألوفة في الديمقراطيات المعروفة. قرر الزعماء المسلمون آنذاك أن يتخلوا عن «عروبتهم»، مقابل أن يقبل المسيحيون بالتخلي عن هواهم الغربي. وكانت النتيجة أن تنازلوا عن بعض حقوق أبناء طوائفهم من أجل تطمين المسيحيين إلى أن حكم البلاد لن يفلت من أيديهم، فكرست لهم المناصب الأساسية في البلاد، وأبرزها رئاسة الجمهورية بصلاحيات واسعة جدا، مضافا إليها قيادة الجيش وقيادة المؤسسات الأمنية، بالإضافة إلى حصة وازنة في البرلمان الذي يدخلونه من دون عناء مع أكثرية الثلثين من النواب. وكل هذا تم تنفيذه من دون أن يذكر منه حرف واحد في الدستور أو في القانون.. فكان ما اصطلح عليه بـ"العرف الدستوري".
قاد المسيحيون البلاد وفق هذه الصيغة التي يصفها اللبنانيون - على عادتهم في تجميل البشاعة - بأنها صيغة فريدة، فيما هي في الواقع صيغة غريبة وعجيبة، أدت، فيما أدت إليه في وقت لاحق، إلى وضع البلاد على حافة الانهيار الكامل، إلى أن تجمع العرب والغرب لإنقاذهم من أنفسهم وفرضوا عليهم اتفاق الطائف الذي لم ينفذ بكامله بعد مرور 20 سنة على إقراره.
وبعد زوال حقبة «الوصاية السورية» التي فرضت على لبنان لنحو 15 سنة بعد الطائف، وجد اللبنانيون في دستورهم مادة تتيح للأقلية منع الأكثرية من ممارسة أكثريتها في البرلمان والحكومة والقضاء.. وللتعطيل يكفي أن تمتلك «الثلث» من المقاعد، فلا يعود أصحاب الثلثين قادرين على فعل أي شيء.
وهكذا يتمكن من يمتلك «الثلث» من المشاركة الفاعلة في القرار.. فصاحب الأكثرية لا يستطيع انتخاب رئيس للجمهورية، لأنه على الرغم من أن صاحب الثلثين قادر على انتخاب من يريد، فإن صاحب الثلث قادر على إفقاد الجلسة نصابها، وهو ما حصل في نهاية العهد السابق عندما شغر منصب الرئاسة بعد أن عجز فريقا المعارضة والموالاة على الاتفاق على اسم رئيس للبلاد. وفي مجلس الوزراء، يمكن لصاحب الثلث إقالة الحكومة، كما يمكنه أن يمنعها من إجراء أية تعيينات إدارية أو أمنية قبل أخذ خاطره بحصة وازنة، قد تكون أكبر من حصة صاحب الأكثرية. وكما في السياسة، كذلك في الأمن، فقيادات المؤسسات الأمنية مقسمة بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، ومهما توافق بعض الطوائف الكبرى، فإن غيرها سيحظى بالثلث أيضا، وهكذا كان أن تم إفقاد حكومة العماد ميشال عون العسكرية شرعيتها، بالطريقة نفسها.. فهي تألفت من أعضاء المجلس العسكري، فانسحب المسلمون منها لتبقى حكومة النصف فقط.
وأخيرا، أتى دور القضاء.. فقد اكتشف اللبنانيون أن هناك أيضا ثلثا معطلا في المجلس الدستوري الذي عجز عن الاجتماع لثلاث مرات من أجل النظر في طعن مقدم بقانون تمديد ولاية البرلمان.
تم ابتداع مؤسسة جديدة تنافس في قدرتها على التعطيل، قدرة الأكثرية على الإنجاز، وكالعادة تم تحريف التسمية - تجميليا - لتصبح «الثلث الضامن» وهو ما يطالب به أصحاب الأقلية البرلمانية اليوم للقبول بدخول الحكومة الجديدة التي لم يستطع رئيسها المكلف جعلها تبصر النور. وهكذا وضع الساسة اللبنانيون مسمارا جديدا في نعش بلادهم، بتعريتهم السلطة القضائية من ورقة التوت الأخيرة. سقطت أعلى السلطات القضائية الدستورية، بفخ التجاذب الطائفي، وأسقطت معها ما تبقى من الأمل في قيامة هذا البلد المتعَب والمتعِب في الوقت نفسه.
بكل بساطة، رمى هؤلاء المجلس المنوط به حماية الدستور ضحية تحت أقدام رغبتهم بتمديد ولاية البرلمان، خلافا للدستور والقانون ومنطق الأمور في أتفه الديمقراطيات. والأسوأ هو أن التبرير المعطى لهذه الخطوة - الخطيئة، كان أن ثمة آخرين يمارسون ضغطا على قضاة في المجلس الدستوري لإرغامهم على إسقاط التمديد، فيما منع قسم آخر القضاة من الذهاب إلى المجلس لمناقشة الطعن الدستوري. باسم طوائفهم، اجتمع 5 أعضاء في المجلس الدستوري لكي يطعنوا على قانون لا تريده الطوائف التي يمثلونها، فيما لجأ قضاة الطائفتين المؤيدتين للتمديد إلى مقاطعة الجلسات وإفقادها نصابها.