مؤتمر تأسيسي للبنان: هدنة مكرّرة
يعود الحديث دائماً في الملف اللبناني إلى "اتفاق الطائف"، الموقّع في خريف 1989، بهدف إيقاف الحرب الأهلية. يعود الحديث إليه في المرحلة الحالية، مع تعذّر انتخاب رئيس جديد للبلاد، قبل انتهاء المهلة الدستورية في 25 مايو/أيار الحالي. فالاتفاق، وعلى الرغم من "إيجابيته" في إنهاء الحرب وقتها، إلا أنه بدا أقرب إلى "اتفاق هدنة"، قبل حرب داخلية جديدة. هكذا تدلّ كل المؤشرات، فالدستور اللبناني، ومنذ استقلال 1943، لم يحظَ بالإجماع الوطني، بل كان عرضة للاهتزاز في كلّ لحظة مفصلية.
هكذا حصل في أثناء الحرب الأهلية الصغيرة في ربيع 1958، بين مؤيدين للزعيم المصري، جمال عبد الناصر، ومعارضيه. وفي الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). وبعد الانسحاب السوري من البلاد في 26 أبريل/نيسان 2005، وتجلّى، أيضاً، في الأزمات السياسية المتلاحقة، المعطوفة على أحداث أمنية، تراوحت بين الاغتيالات والتفجيرات، وأحداث 7 مايو/أيار 2008.
في كل ما سبق، ابحثوا عن الطائفية، إذ لم يستطع لبنان الانتقال إلى نظام مدني صحيح، في غياب التشريعات المدنية القوية، وذلك لطغيان العامل الطائفي، في كل زاوية من زوايا البيروقراطية اللبنانية. في الوظائف الرسمية، تبقى الكوتا الطائفية المهيمنة، وفي القطاع الخاص، لا بدّ من مراعاة البيئة الحاضنة لأي شركة تجارية، وغيرها من المحطات.
حتى الآن، نجحت الطائفية في كسر عملية الانتقال اللبنانية، من التحكّم الطائفي بالدستور، إلى التحكّم الدستوري بالطوائف، وبالتالي بالنظام الدولتي، وهي ستبقى تنجح، طالما أن العوامل المؤدية إلى التعديلات الدستورية هي ذاتها منذ 1943. فلأسباب طائفية، تأسس الدستور اللبناني، ولأسباب طائفية أيضاً، احتكم إلى التعديلات. وما كان اتفاق الطائف الذي استُلحق باتفاق الدوحة في 2008، والذي وضع حدّاً للاقتتال في بيروت، ومهّد لانتخاب رئيس جديد للبنان وقتها، سوى علاجات مرحلية لأزمة أكبر بكثير مما هي معلنة.
الآن، بات واضحاً أن المرحلة الجديدة ستحمل أكثر من عنوان، وسيُعاد البحث بالدستور، تحت شعار "مؤتمر تأسيسي"، فمنذ الانسحاب السوري من لبنان في 2005، بات الفراغ الرئاسي نوعاً من "التقليد". هذا لا يعني أنه مع السوري، كان الوضع سليماً، بل كان السوري، يُفاضل بين الثلاثة: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي، بحسب علاقته بهم. بالتالي، كان أي خلاف دستوري، في ظلّ تشابك الصلاحيات الرئاسية، يُحلّ في عنجر، مقرّ الاستخبارات السورية، أو في دمشق، أيام الرئيس السوري الراحل، حافظ الأسد.
المؤتمر التأسيسي الذي بات الصوت بشأنه أعلى من الهمس، سيستند بطبيعة الحال، على أسس طائفية، مسببّات لطرحه. على اعتبار أن العامل الطائفي الديموغرافي في لبنان، لا العوامل الاجتماعية والاقتصادية، يُعتبر أساس الحراك السياسي. بالتالي، تتخوّف الطوائف اللبنانية، من احتمال تغييبها عن أي معادلة دستورية آتية، قد تُصبح معه مجرّد لاعب آخر، لإكمال العدد الطائفي، لا لاعباً أساسياً.
الاعتيادي في موضوع "المؤتمر التأسيسي" أنه سيعمل على ترسيخ ثقافة طائفية جديدة للبنان، قد تؤدي، لاحقاً، إلى سقوطه في أتون حرب آتية، كما سقطت تجارب طائفية أخرى. بالتالي، فإن الدوّامة اللبنانية لن تنتج حلّاً، ما لم تتخلّص من التفكير الطوائفي في تعديلات الدستور، وتحتكم إلى تعديلات تناسب الحاجات المجتمعية اللبنانية، لا بغرض إرساء هيمنة طائفة جديدة أو طوائف عدّة. غير ذلك، ما يكون حلّاً اليوم لن يكون سوى هدنة مكرّرة.